الكعبة: صور ورموز منذ أن نزلت هذه الأرض الصخرية الجرداء، وبي شوق لرؤية الكعبة. أردت أن ألقاها في وحدة أو توحد، لوحدي، أن أواجهها وحيدا وأن أقارن صورتها الآن وهي أمامي، كما هي، بما كونته عنها وما تراكم في رأسي من صور عنها جمعتها من الكتب والنصوص التي قرأتها منذ الطفولة. مذ كنت أجلس لصق والدي أستمع إليه، وهو يرتل القرآن بصوت راق ومتميز في قراءة وترتيل مغاربي خاص. مذ كنت أجلس على حصير المصلى الصغير، حصير مصنوع بأيدي نساء قرية سوق التلاتا دي ودان، أحفظ بالتناوب سورة "الرحمن" من جهة وأحفظ في الوقت نفسه مقاطع من كتاب "النبي" لجبران خليل جبران. أعترف الآن بأنني حفظت كثيرا من القرآن الكريم بالتوازي مع حفظ نصوص لجبران خليل جبران وفي مصلى القرية الصغيرة في امسيردا تحاتة. كنت أشعر أن في هذين الكتابين كثيرا من الدعوة للتسامح والحب والتأمل والخوف. ها أنذا، لأول مرة، أقابل الكعبة بسترتها السوداء ومن حولها آلاف البشر يطوفون والآلاف يركعون ويبتهلون، إنها البيت الذي لم يتوقف الطوفان من حوله منذ أزمان وأزمان. الحجاج وأهل الدار في زحمة لا تتوقف، اندفاع وتدافع وتهافت ولا أحد ينتبه لأحد ولا أحد يغضب من أحد. كنا أربعتنا الصحفي سعد بوعقبة والممثلة المسرحية دليلة حليلو والشاعر عيسى لحيلح وأنا. وقفت على بعد أمتار، حيث يصب الشارع الذي جئنا منه بآلاف البشر رجالا ونساء داخل فضاءات الحرم الواسعة، ودخلنا، أدينا واجب تحية المكان بالصلاة الخاصة، وشربنا من ماء زمزم الذي يسيل منذ آلاف السنين، وتساءلت: من أين يجيء هذا الماء الزلال دون انقطاع والسماء هنا شحيحة، والأرض غير ذات زرع. حيرة. في البدء بهرتني الزخرفة والرخام والعمران الذي يتشكل منه الحرم المكي بتوسيعاته من حول الكعبة، لكني حين رفعت نظري في كل الاتجاهات وجدت الكعبة بكل ذاكرتها العريقة المدوّخة بروحانيتها محاصرة بعمارات في شكل ناطحات السحاب وسلسلة فنادق فخمة ذات النجوم الخمس بهندسة غير متجانسة، وقد غطت إن قليلا أو كثيرا على روحانية المكان العظيم. وأنا أحدق في هذه البنايات من داخل الحرم المكي شعرت بشبه اختناق. وعلى بعد بضعة أمتار من واحدة من أبواب الحرم المكي تلقاك وبشكل مثير ونافر المجمعات التجارية الكبيرة، حيث تباع فيها كل ما لا يخطر على بال من سلع الدنيا العابرة للقارات والحضارات، وحيث المطاعم الشرقية تجاور المطاعم الأوروبية والأمريكية. ماذا تقول الكعبة لروائي مثلي يا ترى؟ بعيدا عن واجب أداء المناسك، وقريبا من حال التصوف واجهتني الكعبة بجلالها البسيط والمؤثر من خلال لحظتين روحانيتين وتاريخيتين أساسيتين اخترقتا الزمن وأنا أطوف مع أمواج المؤمنين الطوافين ثم، وأنا أطل عليها من الطابق العلوي للحرم متربعة في سرها في الصحن الكبير للحرم، وأنا أطوف وإلى جانبي الثلاثي سعد ودليلة وعيسى، وفي كل دورة بقدر ما كنا نحاول الاقتراب من مكمن الحجر الأسود تدفعنا أمواج بشرية تارة جهة اليمين وتارة ذات الشمال، طورا تبعدنا منه إذ نعتقد أننا سنلامسه وطورا تقربنا منه، وإذ وجدتني بالقرب منه، مددت يدي في اتجاهه، كما الجميع يفعل ذلك، إذا بي أجدني أفكر في قصة سرقة الحجر الأسود الذي قام به القرامطة، تساءلت، يا رب من هنا مر القرامطة ومن هذه الكوة أخرجوا الحجر ونقلوه إلى مملكتهم التي كانت في المنطقة التي تسمى الآن بمملكة البحرين. ثم بدأت أفكر كيف نقل هذا الحجر مسافات بعيدة دون أن يتعرض للأذى، وكيف عاد إلى مكانه، وكيف أن القرامطة بعد أن استولوا على طرق الحجيج منعوا الحج لسنوات، بدأت أفكر في كل هذا وأنا أطوف ورأسي في بعض ما قرأته وما علمته عن هذه الكعبة من كتب التاريخ والديانات والحضارات والأدب والشعر خاصة، منذ أن كنت طفلا على حصير مصلى القرية وحتى جامعات عربية وأوروبية. يوم آخر: للشاعر عيسى لحيلح الذي أصبحت أقتسم وإياه وجبات الفطور والغذاء والعشاء وننام على وسادة واحدة، لعيسى هذا صديق حميم اسمه علاوة، التقيناه صدفة على أطراف الحرم المكي وقد جاء الحج مرافقا لأمه التي يتكلم عنها بحنان كما يتكلم عن الأطفال، وإذ عانق علاوة عيسى بدأ، وعلى الفور، في إطلاق سلسة من النكت السياسية والدينية والاجتماعية بجرأة كبيرة وبلهجة جيجلية تشبه لهجة أهل مدينة الغزوات (نُمور سابقا)، ثم دعانا لعشاء في مطعم إيطالي يطل على الكعبة المشرفة، من خلال طريقة استقبال عملة المطعم لنا، يبدو أن صاحبنا علاوة معتاد على ريادة المكان، فالجميع يعرفه والجميع يرحب به، وعلاوة هذا شاب نزق، ضحوك، نشط، خفيف الروح، لا ينتهي من حديث إلا ليبدأ حديثا آخر. كان عيسى ينادي علاوة ب "خاي علاوة" (أخي علاوة). إن رقة شخصية علاوة حببت لي أكثر فأكثر شخصية عيسى لحيلح وكشفت لي عن الجانب الإنساني الهش والطفولي في شخصية الشاعر عيسى لحيلح. مع الانتهاء من العشاء طلب علاوة من عيسى قراءة من أشعار البحتري والمتنبي والمعلقات. وحين بدأ عيسى لحيلح يستظهر أبياتا من معلقة عمرو بن كلثوم ثم تلتها أبيات للبيد، نظرت إلى الحرم القريب منا، كان ساطعا في ضيائه وعليائه، ثم اعتذرت لهما، انسحبت وحيدا وقد شدتني رغبة لرؤية الكعبة في هذه اللحظة، كان الليل في ساعاته الأخيرة، بل الصباح في ساعاته الأولى، الساعة تقارب الثانية صباحا، وقد نقص عدد زوار الكعبة قليلا، صعدت إلى الطابق العلوي من بناء الحرم ثم أطللت على الكعبة، كانت جليلة في سكونها وأسرارها وستائرها وهي تطوي الأزمنة تلو الأزمنة. تأملتها في وحدتي الوحيدة ثم بدأت أتخيل الشعراء الذين كانوا يجيئونها للتنافس وليعلقوا على أستارها أشعارهم: كنت ما بين الحلم واليقظة وإذا بي أرى امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى وابنه كعب وعنترة العبسي وعمرو بن كلثوم والنابغة الذبياني والخنساء ورأيت البحتري وأبا تمام وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي وبشار بن برد وابن عربي ... رأيتهم في جاهليتهم يقدسونها وفي إسلامهم وعلى اختلاف رؤاهم يقدسونها ويكرمونها كل على طريقته. لكني حين استفقت وقد أخذتني الغفوة قليلا وجدت صورة الكعبة التي في الذاكرة ببساطتها وشعرائها قد اختفت فجأة أمام هذه الشلالات من الأضواء وهذه العمارات التي تخترق السماء من كل الجهات. انسحبت إلى غرفتي في الفندق وقبل أن أنام سجلت هذه الملاحظات في كناشتي الخاصة. يوم آخر: الجو لطيف، نحن في العشر الأولى من شهر يناير العام 2006، هذا اليوم وقد أكل النعل قليلا من لحم قدمي سعد بوعقبة فعقره، فسالتا دما ،لابد من قليل من الراحة. وجدت لي مرافقا من طبع آخر صاحبني حتى الحرم المكي، إنه الفنان الشيخ قاسي تيزي وزو. كان متعبا ولكنه كان عنيدا، يضحك كطفل ويتحدث عن شبابه المليء بالتجارب الجريئة في الحياة والمسرح والسينما وعن الجزائرالجديدة الهشة التي يخاف عليها ثقافيا. حين وصلنا الحرم أدينا ما علينا من واجب ديني، تركت قاسي تيزي وزو في أروقة المسجد، ثم قررت أن أزور البيت الذي يقال إن الرسول (ص) ولد فيه، وهو على بعد بعض مئات الأمتار من الكعبة. حين وصلت المكان لم أستطع الاستدلال عليه، فسألت أحدهم فأشار لي على بيت متواضع جدا، كان الباب نصف مردود، حتى أنني اعتقدت بأنه مغلق، تفحصت البناية من الخارج للتأكد، فإذا هي بناية عادية جدا، نصف مهملة أو تكاد، باب ونوافذ أكل الصدأ بعض أطرافها، وقد استغربت هذا الوضع، وقلت في نفسي أهكذا يعامل بيت ولد فيه النبي الكريم؟ وسكنتني حيرة. انتبهت فإذا بالبيت قد حُوّل إلى مكتبة عمومية، كما تشير إلى ذلك اللافتة المعلقة على واجهة البناية، شعرت بنوع من الافتخار فأنا المسئول على المكتبة الوطنية الجزائرية أجد نفسي في البيت الذي ولد فيه الرسول وقد حوّل إلى مكتبة، فأدركت أكثر وأكثر كم هي كبيرة رمزية المكتبة، ألم يُسأَل أحد الفلاسفة من قبل تلميذ له طالبا منه وصفا للجنة فقال: لا تشبه الجنة إلا مكتبة. دخلت المكتبة بيت مولد الرسول، انتبهت إلى أركانها ورفوفها وكتبها التي لا تختلف عن كتب المكتبات الأخرى، ولكني وجدت فيها من عطر النبي الممزوج بعطر الكتب والأفكار. بقيت بعض الوقت ألقيت نظرات على صفوف الكتب وأدركت بأن تكريم العظماء من الأنبياء إلى العلماء لا يكون إلا بالمكتبات والخزانات العامرة. ثم سألت القائم على المكتبة بعد أن قدمت له نفسي بصفتي المدير العام للمكتبة الوطنية بالجزائر وقلت له بأن تكاليف حجتي هذه هدية من رئيس الجمهورية، سألته عن سر الإهمال في حق مكان رمزي كبير ولد فيه الرسول الأعظم؟ فأجابني: إن السلطات تخشى إن علم الناس بأن هذا هو مكان مولد الرسول ينسوا الكعبة ويولوا أهمية كبيرة لهذا المكان على حساب الكعبة المشرفة. غادرت المكتب -البيت الذي يقال أن به ولد الرسول الأعظم وقبل أن أعثر على قاسي تيزي وزو وأنا أدخل الحرم من باب السلام التقيت صدفة الشيخ شمس الدين، حدثته عن المكتبة بيت الرسول، ووعدني أنه سيزورني بالمكتبة الوطنية بمجرد العودة من الحج. ولم يفعل ذلك. يتبع...