يجلس إلى جواري على متن الطائرة التي تنقلنا إلى مدينة جدة كل من الأصدقاء: الصحفي سعد بوعقبة، والشاعر وأحد قادة جيش الإنقاذ الإسلامي سابقا الأستاذ الجامعي عيسى لحيلح، والشاعر عز الدين ميهوبي، والمسرحي عمار العسكري الذي بدا قلقا منذ بداية الرحلة، لا يتوقف وبروح طفولية عن سؤاله وتساؤله عن بعض تفاصيل مناسك الحج، لأول مرة أشعر بعمار العسكري يستمع كالتلميذ وهو الذي كان أستاذا دائما. كان سعد بوعقبة هادئا ومشغول الذهن على غير عادته، وهو الذي يشعشع الجلسات بطرائفه عن السياسيين والشخصيات التي عرفها في مساره المهني الطويل كصحفي جريء بلسان سليط، كشف لي فيما بعد عن سبب قلقه، والذي كان ناتجا عن الوضعية الصحية المتدهورة التي ترك عليها زوجته، إذ كان يحضر لها ملفا طبيا سعيا لنقلها إلى أحد المستشفيات بفرنسا للعلاج بعد أن ساء حالها، كانت البسمة قليلا ما تستوطن عيون بوعقبة. ولأول مرة أشعر كم هو عميق حزن الرجال الرجال على النساء النساء. لم أكن أعرف الشاعر عيسى لحيلح إلا من خلال لقاء واحد كان قد جمعنا أيام وقائع مؤتمر إتحاد الكتاب الجزائريين بسيدي فرج نهاية الثمانينات، كان المد الإسلاموي في عز أيامه، وقد حدثت بيني وبينه آنذاك نقاشات ساخنة خلال جلسات المؤتمر، كانت حول تحديد مقاييس العضوية للكتاب الجدد الذين جيء بهم لتعويم المؤتمر. كان وجود الشاعر لحيلح بين أعضاء الوفد محرجا لي وأنا الذي قضيت حياتي الثقافية مجندا بالقلم وبالنشاط ضد السلفية وضد الأطروحات المتطرفة التي كان يقول بها بعض قادة الحزب المحل وضد جناحه المسلح الذي أثار الفتنة في البلاد، فكيف لي اليوم أن أجلس إلى جانب رجل قضى سنوات في الجبل مساعدا أيمن لقادة جيش الإنقاذ الإسلامي بل ومنظرا له. لكن هذا الرجل الشاعر بوجهه المنمش وبعينيه الزرقاوين وشعره الطويل الأشقر وخجله وابتسامته قد زحزح من موقفي تجاهه، كان لحيلح بهذا الشكل شبيها بالمسيح عليه السلام، لست أدري لماذا اقترن في رأسي ومن أول وهلة شكل عيسى لحيلح بشكل المسيح كما صوره جبران خليل جبران؟ بدأت، وبنوع من التحفظ، أصغي السمع إليه مستأنسا بحديثه قليلا قليلا، لم يكن خطابه جافا كما كنت أنتظر، كان كلامه شعرا وأدبا، يتحدث عن نزار قباني فيحفظ الكثير من شعره الغزلي ثم يقرأ من معلقة عمرو بن كلثوم ويقرأ من أشعاره التي عارض فيها المعلقات، كان حديثه خاليا من أي نبرة دينية ونحن على متن الطائرة التي ستنزل بنا بعد قليل بجدة امتدادا لتلك الأرض التي فيها وعليها نزل كلام الله. هكذا شيئا فشيئا بدأت ملامح الصورة المخيفة التي أحتفظ بها في رأسي عن هذا »النازل من الجبل« تتراجع أمام صورة إنسان شاعر خفيف الروح لا يتحرج في الذهاب بحديثه في مواضيع مختلفة دون طابو وبكثير من الابتسام والذكاء والنكتة وصفاء الذهن، على علو أزيد من عشرة آلاف متر ولمدة خمس ساعات أو تزيد كانت رحلتنا إلى البقاع المقدسة رحلة أدبية فكهة تقاطع فيها حديث الوجع السياسي الجزائري بأحلام الشعر ولسعات نكت سعد بوعقبة السياسية المدهشة والذكية واللاذعة، كان الشاعر عز الدين ميهوبي قليل الكلام يتدخل بين الفينة والأخرى ليطلب من لحيلح قراءة قصيدة له أو مما يحفظه من الشعر العربي القديم أو ليذكر سعد بوعقبة بواقعة أو نكتة أو اسم شخصية. حين أعلن قائد الطائرة أننا نحلق فوق الأرض التي أنجبت الرسول بدأت تكبيرات بعض الحجاج من حولنا، بعضهم أحرم في الطائرة. حين نزلنا بمطار جدة الدولي الذي لا يختلف عن أي مطار في مدينة من المدن الأوروبية الكبرى، وجدنا في استقبالنا بعض المشرفين على بعثات الحج الجزائرية. أحرمنا مباشرة بعد خروجنا من المطار، نظرنا إلى بعضنا البعض في هذا اللباس المشكل من فوطتين بسيطتين والذي يخفي كل مظاهر التميز بين هذا وذاك. نظرت إلى سماء هذه الأرض التي أنجبت الرسول الأعظم، ثم فجأة، لست أدري لماذا وكيف، سكنتني صورة المناضل والمثقف السعودي ناصر السعيد الذي كنت قد التقيت به، ذات مرة، في فندق الميريديان بدمشق، كان ذلك بمناسبة انعقاد مؤتمر اتحاد الكتاب العرب، كان وقتها ناصر السعيد معارضا للنظام السعودي، وقد أصدر كتابا شديد اللهجة ضد عائلة آل سعود المالكة، كتاب لم ترقْ لي لغته الغارقة في رذاذ الشتم وأيديولوجيا التخوين والتهويد، لست أدري لماذا فكرت في هذا الكاتب والمناضل اليساري وأنا في لباس الإحرام وفي مثل هذا المكان، كنت تعاطفت معه كثيرا حين تم اختطافه وهو خارج من مكاتب جريدة السفير اللبنانية ببيروت ضمن عملية مدبرة اتهمت فيها وقتها جهات وشخصيات كثيرة في اختفائه، اختفاء لا يزال مستمرا حتى الآن. بعض الوقت خارج المطار، ثم جاءت الحافلة التي ستنقلنا إلى مكةالمكرمة. كان الطريق إلى مكة سيارا وسالكا، أوقفنا لمرات كثيرة عند الحواجز الأمنية، كان الجو رحيما فالحرارة معتدلة، نحن في الأسبوع الأول من شهر يناير. توقفنا في محطة للاستراحة، انسحبت غير بعيد عن الجماعة، ومشيت فوق الرمال، كنت أشعر بإحساس غريب، هاتفت زوجتي ربيعة ثم تكلمت مع أطفالي لينا وإلياس وهزار، كلمتهم من هذا الفراغ السحيق، من هذه الأرض التي، طفلا، كنت أعتقد أنها لا توجد إلا في آيات الكتاب الكريم، لم أكن أتصور أبدا أنها أرض من رمل وهواء وعليها يمشي الناس كما المشي في الأسواق. ونحن على أبواب مكة، من نافذة الحافلة حاولت أن أستعيد صورا لهذه المدينة، تلك التي راكمتها في رأسي من قراءة كتب الشعر والسيرة ومعارك التاريخ، كان سعد بوعقبة يتحدث عن قبيلة قريش مستعيدا بعض أزمنة الجاهلية وسنوات الدعوة الأولى، الآن أكتشف ثقافته التاريخية التي تهتم بالتفاصيل الصغيرة المدهشة. كانت حركة المرور مختنقة، وتسابقٍ السائقين من الهنود والباكستانيين زاد من فوضى الحركة في كل اتجاه. توقفت الحافلة وسط هذه الفوضى وما عاد بإمكان السائق المضي بنا إلى الفندق، وبدأت أعصابنا الجزائرية تغلي وصبرنا ينفذ، وإذا بالشابة الزهوانية ترفع صوتها مطالبة السائق أن يأخذ له مسلكا آخر. وبدأ الاحتجاج يأخذ شكلا جماعيا، مما اضطر ممثل وزارة الشؤون الدينية والأوقاف لتهدئة الموقف ومهاتفة معالي الوزير أبي عبد الله غلام الله الذي بدوره كلمني مشكورا للاستفسار والاطمئنان ونحن لا نزال في الحافلة. كان السائق هادئا غير مبال بغلياننا الناتج عن التعب المتراكم. وبعد معركة بين الشابة الزهوانية والسائق وصلنا إلى الفندق الذي لم يكن يبعد إلا ببضع أمتار عن الكعبة المشرفة. تسلمنا مفاتيح غرفنا، كان الفندق جميلا، كنت في الطابق الخامس، وقبل أن ننسحب وقد أخذ بنا التعب مأخذه، أعلمنا رئيس الديوان بأن معالي الوزير قادم لتحيتنا. وبالفعل بعد دقائق دخل الوزير وجلسنا في صالون البهو وتحدثنا مطولا. ثم افترقنا، غادر الوزير الفندق وصعدت إلى غرفتي، كانت واسعة تطل على شارع تجاري غاص بالمتسوقة ليلا ونهارا، رتبت بعض أغراضي، وأخرجت كتبي، وبدأت في تسجيل هذه الملاحظات في كناش خاص، تمددت على السرير وقلت ها أنذا في المدينة التي بها ولد الرسول وفيها نزل الوحي. ثم نمت. ولأول مرة أرى الرسول في المنام، كان ينظر إلي من على عتبة باب من أبواب الكعبة مبتسما، في لباس أزرق اللون يشبه في تفصيله لباس أهل الطوارق، لم يقل لي شيئا، دققت في ملامحه، وإذا بها تختلط وتتقاطع مع ملامح والدي. عند قدم الفندق كان الباعة قد ملؤوا الشارع حركة، كان الصباح قد شعشع، هذا أول يوم في مكة. وكتبت في كناشتي: "سأذهب فورا إلى الكعبة، كنت متلهفا لرؤية هذا المعلم وهذا المكان الذي شغل التاريخ وكما قيل، الأجيال وملأها حيرة وسؤالا." يتبع