جهود من أجل تحرير التاريخ التاريخ هو مرآة الماضي وزرع المستقبل، وهو مسؤولية ثقيلة لا ينبغي أن يبقى مزرعة سائبة يدخلها من في قلبه مرض، أو غش، لا يرى من الماضي غير لوحة سوداء ودسائس ومؤامرات يتفنن في صناعتها، والنفخ فيها دون إعارة اهتمام لحجم الضرر الذي يلحقه بالحقيقة التاريخية أولا، وبالشباب الذي هو صلب المستقبل ثانيا. * المجاهد محمد الشريف عباس * إنه لمن باب الإنصاف أن نلتفت - ونحن نحتفل بالذكرى السادسة والخمسين لاندلاع الثورة التحريرية الكبرى- إلى جهود وزارة المجاهدين المبذولة من أجل تحرير تاريخنا من الذهنية الاستعمارية، ومن أجل صيانة هويتنا الوطنية، وتحصين الأجيال بالوعي التاريخي، من خلال النشاط العلمي للمركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، التابع لها. * تذكرت بهذه المناسبة - والشيء بالشيء يذكر- جهود الاستعمار الفرنسي بالأمس الرامية إلى بناء ذاكرة المستوطنين الفرنسيين في الجزائر في سياق بناء "الجزائر الفرنسية"، وتجسد سعيه هذا في بناء نواة المكتبة الوطنية في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر الميلادي بجهود Louis Berbrugger لويس بيربرو ير- الكاتب الخاص للحاكم العام للجزائر الجنرال كلوزيل- وقد كلفه وزير الحرب سنة 1835م بمهمة إنشاء مكتبة في مدينة الجزائر. ثم أسس أيضا سنة 1856 * "المؤسسة التاريخية الجزائرية" أيام الحاكم العام الماريشال راندو، أشرفت على تأسيس "المجلة الإفريقية" الشهيرة التي ظلت تصدر بدون انقطاع من سنة 1856م إلى سنة 1962م، وتكفلت هذه المجلة بنشر كل الأبحاث التاريخية المتعلقة بتاريخ الجزائر - قديمه وحديثه إلى عهد الأتراك العثمانيين- المنجزة بأقلام الفرنسيين في سياق تكريس المشروع الاستعماري. * ولعل ما نستخلصه من محنة الاستعمار البغيض، أهمية التاريخ في بناء الأمة، لأن الفرد ليس مجرد رقم في الزحام، بل هو مواطن يرتبط بالأرض التي عاش عليها أجداده، ويدرك مدى التضحيات الجسام التي قدموها من أجل أن تعيش حرة ذات سيادة، فينشأ تنشئة وطنية تجعله يحب الوطن، ويتفانى في خدمته، وتنازعه نفسه إليه ولو كان في الخلد. * وكأني بالمشرفين على هذا المركز، قد استجابوا لأمنية الشيخ محمد البشير الابراهيمي الذي تمنى أيام الثورة التحريرية أن يمنّ الله على الجزائر بمن يحسن تدوين تاريخ الثورة الجزائرية العظيمة: "ليت شعري هل يقيّض الله لثورة الجزائر، بعد خمود نارها، مؤرخا من أبناء الجزائر مستنير البصيرة، مسدد الفكر والقلم، صحيح الاستنتاج، سديد الملاحظة، فقيها في ربط الأسباب بالمسببات، فيؤرخ لهذه الثورة تاريخا لا يقف عند الظواهر والسطحيات، بل يتغلغل إلى ما وراء ذلك من الأسباب النفسية التي تحرك فرنسا إلى هذه المجازر البشرية، وإلى العوامل التي تدفع المقاتلين إلى هذه الاستماتة في حرب حارت فيها عقول ذوي العقول، وأحد الطرفين فيها محق يدافع عن حقه الذي تشهد السماء والأرض والجن والإنس أنه محق، والآخر مبطل. فذلك المؤرخ الذي أعدّه الله لهذه المنقبة لعله لم يولد بَعْدُ، وإنما الشرط فيه أن يكون جزائريا. وإن أكبر أمنية من الأماني التي أتصورها أن تؤرخ الثورة الجزائرية على هذا النحو."1) ولا شك أن نشاط هذا المركز يعد استمرارا لجهود بناة المدرسة التاريخية الجزائرية التي شرع فيها الجزائريون منذ أيام الاستدمار الفرنسي، من حجم المؤرخ أحمد توفيق المدني، الذي قال في ندائه لشباب الجزائر في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو يقدم كتابه التاريخي المفيد "كتاب الجزائر": "إليكم أيها الشبان المسلمون في أرض الجزائر الكريمة، أتقدم بهذا الكتاب. فأنتم في هذه الأمة النبيلة روحها، وأنتم فيها مركز الحركة والشعور والإحساس. وعليكم أيها الشبان البررة، وعلى أعمالكم يعتمد هذا الوطن، كي يبني صرح مجده عاليا، ويتبوأ مقعده بين الأمم العربية الناهضة، ويعيش في هذا الوجود محترم الجانب، عزيزا سعيدا" (2) * * المركز منار الإرشاد للأجيال * أشار وزير المجاهدين السيد محمد الشريف عباس، في مداخلته التي ألقاها في الملتقى الدولي حول كتابة التاريخ(20 / 21 أكتوبر2010) إلى المهمة الأساسية لهذا المركز حين قال:... "وحرصنا في ذات الوقت على إثراء المكتبة الجزائرية، وتمكين المؤسسات العلمية والوطنية المعنية بالعدد الكبير من أمهات الكتب والمؤلفات التاريخية لمؤرخين جزائريين، ولغيرهم ممن كتبوا دون تحيز أو نكران أو تشويه في الأحكام." * هذا وقد صار المركز بفضل جهود الوزارة، والمدير ومساعديه، والأساتذة الباحثين، مؤسسة علمية تعنى بالشؤون التاريخية المرتبطة بالحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر1954م، فنشر وأعاد نشر العديد من المؤلفات، ومذكرات السياسيين والمجاهدين، ورسائل جامعية، وترجمت بعض الكتب التاريخية الفرنسية. وبالإضافة إلى ذلك، يقوم المركز بتنظيم ندوات وملتقيات تاريخية، تقدم فيها شهادات صانعي الأحداث، ودراسات الباحثين بطريقة تهدف إلى ترميم الذاكرة الجمعية، وإلى قراءة الأحداث بمنظور وطني، يحترم النزاهة العلمية. وقد نوّه الوزير- في نفس المناسبة- بدور الأساتذة الباحثين في ترقية مكانة المركز، حين أشار إلى جهودهم العلمية بقوله:... "فلقد شرّفت الجزائر ثلة رفيعة المستوى، أكاديمية التكوين، وطنية مخلصة في المخبر والجوهر، جنّدت العقل والقلم، وانتقلت بين البلدان، وبين دفات المراجع والكتب، وأفنت عيونها في فك حروف الأرشيف والوثائق ورموزها، وأخرجت لنا العشرات من المؤلفات والكتب، هي الآن بمثابة الأساس المتين، وخطوط النور المشجعة على المضي أكثر في بناء صرح المدرسة الواعية بمضمونها وشموخها وامتدادها الحضاري"، أما جهود مدير المركز الدكتور جمال يحياوي، الرامية إلى إشراك أكبر عدد من الأقلام في مهمة كتابة تاريخنا المجيد، فأفضّل أن أترك المجال للإعلامي الكبير سهيل الخالدي الجزائري- المقيم حاليا في دمشق- الذي كتب مقالا حول نشاط المركز جاء فيه على الخصوص:... "وفتح لي جمال يحياوي باب الاسهام في مجلة "المصادر" التي يصدرها المركز، وباب مكتبة المركز، وقد علمت أنه أعطى مواقع خلوة وبحث لبعض الباحثين الجزائريين (أبو القاسم سعد الله)، فأدركت أن الجزائر القادمة هي غير الجزائر القائمة، فهذا رجل يحسن كيف يجعل الإدارة في خدمة المستقبل." * والحق أن نجاح هذا المركز في مهمته العلمية- التربوية، يعد من حسنات وزارة المجاهدين، التي نستطيع أن نباهي بها الأمم الراقية في المجال العلمي والمعرفي، كما ينمّ أيضا عن تحلي المسؤولين بثقافة الدولة، التي جعلتهم يشعرون بواجب القيام ببناء صرح ثقافي بموازاة الصروح العمرانية، التي كثيرا ما تملأ الأسماع والأبصار، وتحجب بناء الإنسان. هذا ولا يختلف اثنان حول أهمية التنمية البشرية التي تعتبر من أكبر التحديات التي تواجهنا في زمن العولمة هذا، ولاشك أن معرفة تاريخنا الوطني معرفة جيدة، يعد بمثابة حجر الزاوية في بناء شخصية المواطن الجزائري، حتى يستطيع أن يفتك لنفسه مكانا محترما في مركز العولمة- وليس في أطرافها- ويستفيد من تجارب الأمم دون انبهار أو انصهار. * * ذخائر التاريخ * نجح المركز في مهمة الكتابة التاريخية نجاحا باهرا، يتجلى ذلك بوضوح في الكم الهائل من العناوين المنشورة لأول مرة، حول الحركة الوطنية وثورة نوفمبر1954م، وهي في مجملها دراسات أكاديمية ومذكرات مجاهدين ساهموا في صنع الملحمة. كما قام بترجمة بعض مذكرات الضباط الفرنسيين التي تندرج في سياق مقولة "وشهد شاهد من أهلها"، تتضمن اعترافات المجرمين بما ارتكبوه من مجازر ضد الشعب الجزائري وفي مقدمتهم الضابط "سانت آرنو". وكذا بعض الكتب التاريخية الفرنسية التي تميّز أصحابها بشيء من النزاهة العلمية، نذكر منها على سبيل المثال كتاب "الجزائريون المسلمون وفرنسا 1871 - 1919" للمؤرخ شارل روبير أجيرون، وكتاب "الاستعمار إبادة" للباحث لوكور ڤرانميزون. كما قام المركز أيضا بإعادة نشر تراث جمعية العلماء، كمجلة الشهاب ( 12 مجلدا)، وجريدة البصائر(16 مجلدا)، وآثارمحمد البشير الابراهيمي(5 مجلدات)، وآثار عبد الحميدبن باديس( 6 مجلدات). والتفت أيضا المركز إلى جهود المؤرخين والأدباء الجزائريين، فأعاد طبع الأعمال الكاملة للعديد من الأساتذة الباحثين: أبو القاسم سعد لله( 22 مجلدا)، يحيى بوعزيز(23 مجلدا)، أحمد توفيق المدني(10 مجلدات)، جمال ڤنان(6 مجلدات)، عبد الرحمن بن العڤون( 3 مجلدات)، أبو العيد دودو(3 مجلدات)، زهور ونيسي( مجلدان 2). هذا وللمركز أيضا مجلة متخصصة في الأبحاث التاريخية الموسومة ب * "المصادر". وفضلا عن نشاط التدوين وإصدار الكتب، فقد شرع المركز في إنتاج الأفلام التاريخية مفتتحا هذا النشاط بفيلم عن الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد، وكذا تسجيل شهادات المجاهدين والمناضلين، لوضعها تحت تصرف الباحثين. وللمركز أيضا مكتبة ثرية مفتوحة للطلبة والباحثين، نأمل أن يعظم شأنها أكثر برفع عدد عناوين كتبها، وتزويدها بالمخطوطات، والأرشيف الخاص بالثورة التحريرية. هذا مجرد غيض من فيض مما يمكن أن يقال عن هذا المركز، والحق أنه نجح في مهمته بفضل اختياره للمنهج العلمي المبني على التعامل مع النخبة الجامعية، وصانعي الأحداث التاريخية الوطنية. ولا يسعني في هذه المناسبة السعيدة إلا أن أرجو له مزيدا من النجاح والفتح في مجال الكتابة العلمية لإرساء وإعلاء صرح المكتبة التاريخية الجزائرية. * * الهوامش * 1- آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، ج 5، دار الغرب السلامي، ط 1،1997،(بالتصرف)، ص 250 . * 2- أحمد توفيق المدني، كتاب الجزائر، دار البصائر، الجزائر، 2009، ص 17 .