تتميز منطقة القبائل (الزواوة) بانفتاحها على البحر، بشريط ساحلي عريض، يمتد من دلس (ثاذلسث) إلى شرق بجاية، ورغم هذا الامتداد الطويل المقدر بحوالي150كلم، فإن مكانة البحر في حياة أهل المنطقة باهتة، وقراهم قليلة في السواحل، فهم يفضلون الاستقرار في الجبال الوعرة البعيدة عن البحر، وقد انعكس ذلك سلبا على إبداعهم الأدبي. وأثارت هذه المعاينة - التي تعتبر مفارقة جديرة بالدراسة- اهتمامي، جعلتني أتساءل عن أسباب عزوف السكان عن التعامل مع البحر لاستغلال خيراته، خلافا للمناطق الأخرى؟ علاقة الأمازيغ بالبحر وإذا عدنا إلى الماضي السحيق لسكان شمال إفريقيا، فإننا نجد عدة مؤشرات تاريخية تؤكد وجود علاقة بالبحر، فقد ذكر المؤرخ التونسي عثمان الكعاك في كتابه (البربر) الصادر بالمغرب عن مطبعة النجاح الجديدة سنة 2003، أنهم ركبوا البحر كثيرا وسافروا نحو أمريكا قبل وصول الفينيقيين إلى شمال إفريقيا، وجاء في هذا السياق قوله »... وإنما نعني أن البربر ذهبوا إلى أمريكا في عصور سابقة لظهور الفينيقيين أنفسهم، أي سابقة للقرن الثاني عشر قبل الميلاد، فإن التيارات البحرية بين العرب (كذا) وأمريكا كانت تدفع سفن البربر إلى ساحل أمريكا. وتوجد بأمريكا قبائل كاملة تحمل أسماء بربرية، فتوجد قبيلة مطماطس وتوجد هنا قبيلة مطماطة؛ وتوجد قبيلة ماية وتوجد هنا قبيلة لماية، كما أن عادات هنود أمريكا تشابه عادات البربر، وقد ألّف في هذا الموضوع المؤلفون وخاصة الكومندان "كوفيه"، صاحب كتاب "البربر في أمريكا" - ص88 «. والحق أن نشاط الأمازيغ البحري ظل محتشما مقارنة بالشعوب المتوسطية الأخرى التي بنت أمجادها بفضل ركوبها للبحر، إما لممارسة التجارة كما هو شأن الفينيقيين واليونانيين، أو بحثا عن الأراضي الخصبة للاستعمار كما هو شأن الرومان. وظل البحر عموما عند الأمازيغ هو ذلك العالم المجهول، حتى صار رديفا للظلام (أتالاس)، ومن هنا فإن الأديب الكبير الطاهر وطار، لا يستبعد أن يكون العرب قد أخذوا تسمية (بحر الظلمات) الخاصة بالمحيط الأطلسي عن الأمازيغ. فهل يفسر عزوف أهل شمال إفريقيا قديما عن استغلال البحر، بعامل اختلال التوازن الحضاري منذ القديم لصالح شعوب الضفة الشمالية للبحر المتوسط، التي دأبت على ممارسة التحرشات المستمرة على أهل شمال إفريقيا؟ وهل اضطر أهل الزواوة لأسباب أمنية، إلى الاحتماء والاستقرار في الجبال الوعرة، رغم فقر التربة وقساوة المناخ وكثافة الغابات، وصعوبة الحياة، لما توفره لهم من أمن وأمان، ولتلافي الغزوات البحرية التي كانت تستهدفهم في الأرواح والأرزاق؟ أسماء أماكن مرتبطة بالبحر ومهما يكن من أمر، فقد وردت أسماء أماكن عديدة تؤكد حضور عنصر البحر في حياة أهل الزواوة ولو باحتشام، ويتجلى ذلك بوضوح في وجود عرش يحمل تسمية (إفليسن) التي تعني "رجال البحر"، وبلدة تسمى "أوقاس" وهو سمك القرش، وقرية تحمل اسم "آث يلول" أي أهل البحر، و"ثيقزيرث" أي الجزيرة. ولئن كان ذلك يؤكد وجود علاقة بين السكان والبحر، فإن الطبيعة الشفوية لثقافتهم وغياب التدوين التاريخي قد يفسران غياب " ثقافة البحر" لديهم. واللافت للانتباه أيضا أن التسمية الأمازيغية للبحر(أيلل) قد صارت مهجورة في منطقة القبائل، فأصبح سكان السواحل يعرفون باسم "إبحرييَن"، وهو الاسم الذي اقترن بمنطقة آزفون على الخصوص. دلالات البحر في التراث القبائلي يحمل البحر عند أهل الزواوة دلالات متعددة مشحونة في الغالب بالمعاني السلبية، تصوره على أنه عالم مجهول، يهدد الإنسان بالفواجع المتنوعة، كالغرق والسفر بدون رجوع، لذلك فهو بمثابة "ثالافسا"، أي غول أكول لا يشبع، ينتظر دائما المزيد من الضحايا، ومن المرجح أن تكون هذه الذهنية ضمن الأسباب التي نفّرت السكان من إقامة قراهم في السواحل البحرية. كما يحمل البحر معنى الغموض والإبهام، جعله أحيانا محل تقديس وتبجيل، خاصة من طرف النساء، اللائي يستنجدن به في أوقات الضيق والشدة بحثا عن تفريج كربة. وبالنسبة للحِكم المستوحاة من البحر فهي قليلة مقارنة بقاموس الأمثال الأمازيغية الثري، فمنها - على سبيل المثال- ما يعتبر البحر رمزا لشريعة الغاب، لذلك تُشبّه أحيانا حالات الفوضى في مجتمعنا بحياة الأسماك التي يأكل كبيرها صغيرها، فيقال »ثوذرث إيسلمان، وين يزمرن إيوايض يتشيث«. وقد يكون البحر أيضا أداة تشبيه للرزانة والتعقل ، فيقال »يوسع ووليس أم لبحار« أي قلبه واسع كالبحر لا تكدره الدلاء. هذا ويعد البحر أيضا حدا فاصلا بين العالمين؛ المعقول الذي يبرز وجه الحياة كما هو في الواقع المعيش، وعالم اللامعقول الذي يصنعه الخيال المجنح كيفما شاء، لذلك صارت دلالة المسافة البعيدة تفوق كل تصور، وتقدر ب (سبع لبحور) أي مسافة سبعة بحور، حيث موطن الجن. ولا تستبعد الباحثة الفرنسية المتخصصة في الثقافة الأمازيغية / القبائلية "كاميل لاكوست ديجاردان Camille Lacoste- Dujardin" أن تكون هذه الفكرة مستوحاة من قصة ألف ليلة وليلة. ومما تجدر الإشارة إليه أن مقامات أولياء الله الصالحين الموجودة على السواحل (صلاٌح إيبحرين) لها مكانة خاصة لدى أهل المنطقة، وقد يفسر ذلك بأهمية دورهم في مواجهة الأخطار القادمة من البحر، وكذا في تحصين المسافرين من الموانئ ببركاتهم التي تضمن لهم الأمن والأمان في المهجر، بل أكثر من ذلك صارت بعض هذه المقامات الساحلية "وسائط ومنابر" للعائلات للتواصل مع مغتربيها الموجودين في الضفة الشمالية للبحر المتوسط، عن طريق توجيه "نداءات" لهم (ثيغري، أوأسوال) تصلهم في شكل رؤى. واشتهر في هذا السياق أهل عرش آث يراثن بمواظبتهم على زيارة مقام سيدي خالد بثيقزيرث (ولاية تيزي وزو). استنجاد المرأة العاقر بالبحر ذكر الباحث سليمان رحماني في مقاله "الحمل والولادة في رأس أوقاس" المنشور بالمجلة الإفريقية (العدد81 / سنة 1937)، أن المرأة العاقر في منطقة أوقاس (بجاية) كانت تلتجئ إلى البحر كآخر حل لعلاج عقمها. وتقتضي العادة التي أقرها العرف القبائلي أن تتوجه المرأة مع زوجها أو بعض أقاربها إلى البحر ليلا لتلافي الأنظار، بعد أن تنزع الخمار عن شعرها، دون أن تفك ضفائرها، ثم تضعه حول خصرها، ومعها جرة ماء وقطعة خبز وأضمين (يشبه الطمينة العاصمية)، وعندما تصل إلى البحر تفرغ ماء الجرة فيه وتلقي ببعض الأطعمة التي أخذتها معها، ثم تردد بعض الكلمات السحرية. وعقب ذلك تنزوي لنزع ثيابها وهي تزغرد، ثم تجلس عارية في شاطئ قبالة البحر في وضعية تسمح بمرور سبعة أمواج على جسمها، وتأكل مع كل مد للموجة قطعة خبز وقليلا من "أضمين"، وهي تردد باللسان القبائلي العبارة التالية:»ذ داريا نسيذنا محمد أيدوغاغ، ماشي ذاضمين أيستسغ« ومعناها: »جئت طالبة ذرية سيدنا محمد، وليس للأكل«. ثم تشرب جرعة من ماء البحر، وهي تردد عبارة: »ذدريا أيدوغاغ، ماشي ذامان أيتسسغ« ومعناها: »اشتريت ذرية، وليس شربة ماء«. وعقب ذلك تستحم في البحر، ثم تلقي بآخر منشفة خاصة بعادتها الشهرية، وترتدي ثيابا جديدة، وتتزين لتبدو في مظهر العروس، ثم تملأ جرتها بماء البحر، وتعود إلى منزلها عبر مسلك آخر، غير الذي سلكته في الذهاب، لتتخلص من لعنة العقم (تابعة). مكانة البحر في الأغنية القبائلية لعل ما يؤكد ضحالة ثقافة البحر في المنطقة، هو ضعف القاموس اللغوي الأمازيغي الخاص بالبحر وما يحتويه من حيوانات وثروات كثيرة، وكذا ندرة الحِكم والأمثال الشعبية المستوحاة منه، وغياب أغان مستقلة تعالج فضاء البحر بخيراته الكثيرة، وتصف السفينة وأشكالها وأجزاءها ونشاطاتها المتنوعة. لذلك اقتصر حضور صورة البحر ضمن سياق أغنية الغربة- التي تصور معاناة المهاجرين، وأوجاع أهلهم في الوطن- باعتباره عازلا صعب الاختراق وبصفته حاجزا يحول دون تزاورهما. لذلك انصب اهتمام المغني على الباخرة بصفتها وسيلة للنقل بين الضفتين، في مطلع القرن الماضي، فحاورها برسائل المشتاقين الذين اكتووا بنار الفراق، وباح إليها بأسرار المعذبين في الضفتين. وهكذا جاء في أغنية (أ لبابور) للفنان زروقي علاوة قوله: - أ لبابور بو لمراياث- ذي لبحار يتسشوقو الموجاث- أفريذيك عدي أفرنسا - إيناس سي الباري بركاث- سقواسمي إثغابض أ لولي - ذق وخام ثنسى ثافاث ****- أيتها السفينة ذات المرايا - لعباب البحر خارقة - سجّلي وقفة في فرنسا- لدعوته إلى العودة- منذ رحيلك أيها الحبيب - انطفأ النور في المنزل أما الفنان سليمان عازم الذي أبدع في وصف معاناة المهاجرين، فقد عالج في إحدى أغانيه قضية اضطراب المهاجر، مشبّها رحلات الذهاب والإياب بمد وجزر الأمواج، وجاء في هذا السياق قوله: - لاتسروحو نتسوغال- أم الموجا ذي لبحور - نكاث أسيرا ذو قلاقال- ذي أثماشينت آك ذلبابور - نتساوي أدنوب وار نوكلال- كل ييون ذاشو إيديغور **** - نسافر ونعود - كالأمواج بين المد والجزر- مسرعين أحيانا أو مهرولين- بين السفينة والقطار - غصبا عنا نحمل الذنوب - لكل منا قاهره أهوال البحر في الشعر القبائلي يعتبر الشاعر الحاج ارزقي أوحواش، المولود في الجمعة نصهاريج بولاية تيزي وزو (1838- 1927) من فطاحل الشعراء الذين عاصروا الشاعر الكبير سي محند أومحند (1845 _ 1906). ولئن كان إبداعه مصنفا ضمن الشعر الديني الحاضن للحكمة والأخلاق السامية، فقد تفرد _ دون غيره - بوصف أهوال البحر أثناء سفره في رحلة بحرية إلى الحج، إذ حدث أن فاجأتهم عاصفة هوجاء كادت أن تغرق السفينة، وأثارت هلعا شديدا في نفوس المسافرين. ووصف الشاعر في قصيدته حالة الاضطراب التي سادت في أوساط المسافرين الذين كادوا أن يفقدوا الأمل في النجاة، جراء تأرجح سفينتهم كالقشة في خضم الأمواج العاتية التي كانت تغمر سطح السفينة. وأمام خطورة الوضع - الذي زاده يأس الربان سوءا- لم يبق للركاب إلا التضرع إلى الله، وطلب النجدة من رحمته الواسعة. وتتألف هذه القصيدة التي مكّنني منها حفيده (مولود حواش) من ثلاثة مقاطع هي: - أغليغ ذق لبحار سلقد - لسلاك أولاحد - آلاما حودن الصالحين - الموجا كل ثا أثزضمد- إيزريو يمرمغد - غاف لحباب ويذ نتسيسين - مي أذربي ما يخلي حد - أيول أتفكرد - ويسن أنفاغ ذسالمين **** - أغليغ ذي لبحار نبلع - الحوث لا ينشع - الموجا لادتس سيفي - أسفينا شودناس ثقلع - أولاندا إيتس نقضع - الرايس إيعمذ يونفي - مي أذربي أحبيب نقورع - أنزقر أنمنع - غورس آيثلا أدوا شافي **** - أغليغ ذق لبحار يوسع - ذق اريف أرلقاع - أور ديبي حد لخباريس - أقليل ذق مدن ياك أطمع - عودن أغيسبلع - كل وى ذق هدر ووليس - مي أذربي أحبيب ذامشافع - إيواعذ أنمناع- قبل اروح مازال يغضيس هذا ورغم أن الشاعر الكبير سي محند أومحند، قد ركب البحر مرارا من آزفون وبجاية على الخصوص، نحو عنابة في طريقه إلى تونس، فإننا لم نسمع أنه خصص شيئا من شعره لعالم البحر بأسراره وثرواته وأهواله، ويقتصر ما وصلنا منه على وصف السفينة وهي راسية في الميناء، تستعد للرحيل: - يذوٌر البابور يوغواس - ميدن أك أسلاناس- أيق أخلق الله سي الغاشي- - فادن ندهن أرياس - كلوا سلكارطاس- إيعساسن فغ لحواشي - - أفعاض أمنك أثعكساس - روحن أجانت واثماس- أناناس وى ذاحشايشي ****- دقت ساعة الرحيل للسفينة - وملأت أسماع المسافرين - الذين غصت بهم المحطة - فنادى الرياس - التذاكر للركوب - والصعود بعد الرقابة - أما من كان حظه عاثرا مثلي - فقد تخلى عنه الإخوان- بحجة الإدمان على المخدرات تلكم هي محاولتي المتواضعة للحفر في تراثنا، بحثا عن بصمات البحر وآثاره في حياة أهل الزواوة الاجتماعية والثقافية، التي لا يستبعد أنها ألهمت قرائح الشعراء والمبدعين فأنتجوا جواهر حسان أدبية، لكنها لم تصلنا، أو ما تزال في طي النسيان، قد تكشف جهود الباحثين النقاب عنها لاحقا.