تدق الساعة السابعة مساء في العاصمة، لتنتهي الحركة بها وتستسلم الجزائرالبيضاء للنوم، ويعم الهدوء والسكون ويفسح المجال أمام "ناس الليل" للظهور وإيجاد مكان لهم أمام المحلات أو في الاروقة التي تقفل أبوابها وتنزل واجهاتها الامامية، بمجرد سماع كلمة "الله أكبر" معلنة عن صلاة المغرب. في هذا الوقت تنتهي الحركة بالعاصمة التي يعيش فيها حسب آخر الاحصائيات 3.5 مليون نسمة، حيث يفضل أغلبيتهم الدخول إلى بيوتهم مبكرا، في حين لا تعرف العديد من عواصم العالم النوم إلا في أولى ساعات الصباح. نتذكر أن الجزائر العاصمة كانت إلى وقت ليس ببعيد تعيش حركية مستمرة ليلا، وكانت تتوفر على عدة مرافق تسمح للمواطن بالخروج مع عائلته، فمعظم المحلات لم تكن تقفل أبوابها إلا في ساعة متأخرة من الليل، وكانت هناك نشاطات كثيرة تجلب إليها عددا كبيرا من الناس، فقاعات السينما كانت مفتوحة وتبث أفلاما كل سهرة، أفلام تلبي كل الأذواق، من مصرية، هندية وكذلك أفلام الوسترن، التي كانت تستقطب وتستهوي كثيرا من العاصميين، إلى جانب المسرحيات والسهرات الغنائية التي كانت تجلب إليها هواة السهر خارج البيت. هذه الوضعية استمرت إلى غاية سنوات الثمانينات بدرجة أقل، لتختفي اليوم تماما، فسهرات العاصمة لم تكن تقتصر على شهر رمضان فقط، مثلما هو عليه الحال الآن. حيث نلاحظ تكثيف النشاطات خلاله فقط، وكأن الحاجة إلى السهر تقتصر على هذا الشهر. الجزائري فقد عادة الترويح عن النفس ويبدو أن ثقافة السهر اندثرت في الوقت الحالي والجزائري أصبح لا يفكر سوى في قضاء حاجاته الأساسية، فهناك أولويات كثيرة تشغل بال المواطنين رغم أن التجوال والخروج ليلا أو نهارا يقضي على القلق، لكن هناك عدة أسباب أخرى تجعل المواطنين يعزفون عن الخروج ليلا، أولها أنهم لايعرفون إلى أين يتجهون لقضاء أوقات ممتعة، من هؤلاء (سفيان. ج) مدير في إحدى المؤسسات العمومية الذي اعترف لنا "أفضل البقاء في بيتي لأنني لا أعرف صراحة إلى أين أذهب، فكما تعلمون كل شيء مقفل في العاصمة، إضافة إلى هذا فإنك لا تشعر بالأمن فيها، خصوصا في الليل". والملفت للانتباه أن الكثير ممن طرحنا عليهم الموضوع، أجمعوا على أن الأمن هو السبب الرئيسي في النوم المكبر للعاصميين خاصة ببعض الشوارع الرئيسية التي تعرف اكتظاظا كبيرا نهارا، والمعروفة باستقطابها الكبير للناس، كديدوش مراد والعربي بن مهيدي وحسيبة بن بوعلي وساحة أول ماي وساحة الشهداء وحي باب الوادي، لكن الأكيد أن هذا السبب ليس الوحيد بل هو جزء من وضعية تترابط عواملها بعضها ببعض، فالمكلفون بالنقل يرجعون ذلك إلى امتناع المواطنين عن الخروج ليلا، والمواطن يقول إن المشكل هو غياب النقل، إلى جانب غلق المحلات، وأصحاب هذه الاخيرة يؤكدون أن الامر راجع إلى عدم وجود زبائن إضافة إلى الخوف الذي يخلفه بعض الافراد المجرمين، ويرى المسؤولون أن كل هذه النقاط مجتمعة هي التي جعلت العاصمة تنام مبكرا. حاولنا تسليط الضوء على هذه الوضعية، وتقربنا من كل هذه العناصر الفعالة في هذه المعادلة، لنستفسر حول الأسباب التي أدت إلى ذلك، وهل من الممكن أن تعود العاصمة إلى سابق عهدها وتعيش مثلما كانت في سنوات السبعينيات والثمانينيات؟ البلدية تؤكد أن للتجار دورا كبيرا طرحنا الموضوع على مسؤولي بلدية الجزائر الوسطى فاستقبلنا نائب رئيس البلدية، عبد الحكيم بطاش المكلف بقضايا المجتمع والبيئة فأجاب عن تساؤلاتنا محاولاالتطرق إلى بعض الحلول قائلا: "في فصل الشتاء تنتهي الحياة في العاصمة على السادسة مساء، والشارع الوحيد الذي يبقى فيه النشاط، هو شارع "طنجة" وهذا بسبب الفنادق والمطاعم الموجودة فيه، فنزلاء هذه الفنادق هم من يحدث هذه الحيوية"، السيد بطاش حاول إعطاء تفسيرات عن الوضع فقال: "لقد عشنا عشرية سوداء وبالتالي كان من الطبيعي أن تتوقف الحياة في العاصمة على الساعة السادسة مساءا فالإرهاب فعل فعلته، والكل كان يخاف الخروج من البيت، ثم جاء بعد ذلك دور اللصوص، الذين وجدوا في الليل ضالتهم ليزعجوا المواطنين، فكنا كلنا نخاف والعاصمة لم تكن مؤمنة، وبعد الوئام المدني تغيرت الأمور والآن لم نصبح نخاف مثل الماضي، لكن ظاهرة الإجرام استفحلت وهناك جيل عاش العنف وبالتالي تربى فيه، مما ولد الآفات التي نراها" وأعرب السيد بطاش عن قناعته بأنه على الجميع أن يساهموا في إعادة هذه الحيوية ليلا إلى العاصمة "لقد اجتمعنا مع التجار، وقمنا بتحسيسهم ليقوموا بمزاولة نشاطهم على الاقل إلى غاية الحادية عشر ليلا، لكنهم يرون أن المشكل يكمن في الامن، إلا أنني أقول إن عليهم أن يقوموا بتأمين محلاتهم، فالتجار يلعبون دورا كبيرا في تغيير الوضع". وأشار نائب رئيس بلدية الجزائر الوسطى، إلى أنه لابد من القيام بحملات تحسيسية لكل العناصر الفعالة في هذه الوضعية، لاسيما التجار وأصحاب النقل، معتبرا أنه بالارادة كل شيء يتحقق، أو أن السرقة قلت بشكل كبير في شوارع العاصمة"الاعتداءات والسرقات نقصت كثيرا وبشكل ملحوظ، وهذا بفضل العمل الجبار لمصالح الامن والشرطة الجوارية، التي تتقرب من الاحياء، واصبح الشرطي، يعرف كل السكان إضافة إلى توفير الانارة العمومية في كل مكان، فهناك اتصال مع كل الهيئات الفعالة". كما أضاف بطاش الذي دعا المواطن إلى مزيد من الحس المدني، وعن امكانية اعادة الحياة ليلا في العاصمة، أكد أنه لابد من بذل مجهودات كبيرة من أجل ذلك معتبرا أن البلدية قامت بعدة اجراءات من أجل هذا: "لقد تم اغلاق معظم الكباريهات في العاصمة، وبقي مشكل الحانات التي تقفل قانونيا، على الساعة العاشرة، لكن أصحابها يبقون إلى غاية الواحدة صباحا.. اتخذنا اجراءات في هذا الشأن، وأغلقنا الحانات التي لا يملك اصحابها وثائق، اضافة إلى هذا فإننا نضع اعلانا في الاحياء، بفتح حانة، وإن كان هناك شخص يمانع لا "يسمح بفتحها"، وعن إعادة فتح قاعات السينما، أو برمجة نشاطات تستقطب المواطنين ليلا، أكد بطاش"أن البلدية تقوم باستعادة وترميم كل قاعات السينما على مستوى وسط العاصمة، مثل سينما الجزائرية وأ بي سي وقعات أخرى، تبث فيها أفلام حقيقية، ليسمح حتى للعائلات بدخولها" ومن أجل اعادة الحركة ليلا قال إن هناك اجتماعات دورية مع كل من اصحاب الحافلات، والمحلات واصحاب سيارات الاجرة، في انتظار انطلاق الميترو لدفعهم إلى العمل ليلا. أصحاب المحلات يطرحون إشكالية الأمن ومادام أن أصحاب المحلات حسب بطاش، لهم دور كبير في إعادة المواطنين إلى العاصمة، وبعث الحيوية من جديد في شوارعها، حاولنا أخذ آراء البعض منهم حول الموضوع، وكانت هي الاخرى متبانية، فخلال تجولك في العاصمة ليلا، تجد بعض المقاهي فقط أو محلات الاكل الخفيف مفتوحة، فعلى مستوى ساحة بورسعيد، سيبقى مقهعى ومطعم "طونطون فيل" مفتوحا إلى غاية منتصف الليل، نفس الامر بالنسبة لمطعم "كويك" على مستوى شارع العربي بن مهيدي الذي يواصل العمل الى ساعة متأخرة، ويعرف اكتظاظا كبيرا كل ليلة، إلى جانب هذه المحلات الخاصة بالاكل والشرب، تبقى الحانات هي التي تصنع الحدث، فحتى وان ألزمت بقانون الغلق على الساعة العاشرة ليلا، إلا أن من اعتادوا على دخولها يعرفون كيف يدخلون، ويبقون فيها إلى غاية الواحدة صباحا أو أكثر، وإن كانت هذه المحلات تفتح دون أي مشكل، فإن البعض الاخر من اصحاب المحلات يرون أنه من غير الممكن أن يشتغلوا ليلا: وهذا ما أكد عليه صاحب محل جيسكو في العربي بن مهيدي، (رابح نشاط): "العاصمة ليلا تتحول إلى حانة كبيرة بكل ما فيها من مشاكل، هذا ما يجعل الناس لا يقبلون على الخروج، وهذا ما يجعلنا لا نفتح خلال الليل، لأن ما نبيعه يخص النساء وبالتالي لا يمكننا ذلك، إلى جانب أن الشارع ليلا، يصبح مأوى للصوص والمجرمين"، نفس الامر أشار إليه مسير قاعة الشاي المعروفة ميلك بار، "بلعور حسن" الذي قال "نحن نقفل على الساعة الثامنة مساء، فلا يمكننا أن نطيل أكثر من ذلك، والسبب هو عدم توفر الأمن، رغم أنكم تعرفون تاريخ هذا المحل إلا أنه يقفل أبوابه مبكرا، فساحة الامير عبد القادر تصبح ليلا مكانا للعب كرة القدم، إذاً لا يمكن أبدا، أن نفتح خاصة في غياب الزبائن، اضافة إلى أن المكان ليلا يملتئ بالمتشردين والمجرمين، أظن أنه على الدولة أن تساعدنا، لأننا نريد أن نعمل ليلا ونعطي الفرصة لشبان آخرين ليسترزفوا معنا". وقد أجمع معظم التجار الذين تحدثنا معهم، على أن مشكل الأمن هو العائق، واعتبروا أن الأمر لا يتعلق فقط بتأمين المحل، بل بمشاكل اخرى خاصة المضايقات التي يتعرض لها الزبائن، الشيء الذي يجعل، هؤلاء يمتنعون عن الخروج ليلا، المتجول في شوارع العاصمة ليلا يصادف فقط أشخاصا يثيرون الخوف، وهذا ما يتسبب في حدوث بعض الأمور التي تزعج المواطنين الاخرين وحتى أصحاب المحلات. إلى أين أذهب؟ السؤال المحير للمواطن وقد اعتبر معظم المواطنين، الذين حاولنا أخذ رأيهم بخصوص عزوفهم عن الخروج ليلا، أن ذلك راجع إلى خلو وسط العاصمة، من الناس إلا من بعض (المنحرفين)، اضافة إلى اقفال المحلات أبوابها مبكرا، وكذا قلة أو انعدام النقل، يقول (ابراهيم. ب) أحد المغتربين في فرنسا والذي اعتاد على المجيئ إلى الجزائر عدة مرات في السنة، إنه لا مقارنة بين ماهو جار في فرنسا "صراحة عندما أكون في الجزائر، فإنني أبقى في البيت عكس ما اعتدت إليه في باريس، فهناك توجد حياة أخرى في الليل، وأخرج مع زوجتي وأولادي لكن هنا في الجزائر، لا أدري إلى أين يجب الاتجاه، فقد حاولت الخروج ليلا، لكن صدقوني لم أجد حتى من يوصلني، فعائلتي تسكن في باش جراح وبالتالي فالمواصلات قليلة جدا، وفي كل مرة اضطر للاستعانة بشقيقي لإيصالي، إلى مكان ما، أظن أنه لابد من تغيير هذه الوضعية". أما صديقه (محمد. ب) الذي يسكن في نفس الحي، فيرى أنه عندما يريد الخروج ليلا، يتوجه إلى سطاوالي أو سيدي فرج: "عادة ما نخرج ليلا، ونتفادى جمعينا وسط العاصمة، لأنها ميتة ليلا، لهذا نذهب إلى سيدي فرج، فهناك نقضي بعض الوقت، مع بعض الاصدقاء". أما (صادق. ت) فيؤكد أنه لا يواجه أي مشكل للخروج ليلا ويقول: "لدي سيارتي، وأعرف جيدا وجهتي ليلا، صحيح أن العاصمة تنعدم فيها الحياة الليلية، لكن بالنسبة لي، هذا لا يمثل أي مشكل، أفضل فعلا عندما تقل الحركة، فأنا من الذين لايحبون الاكتظاظ الكبير، ولهذا أجد راحتي عندما أتجول ليلا في العاصمة" وتبقى العاصمة تنتظر الفرج، لتعود الحياة إليها ليلا كباقي العواصم الاخرى، والأكيد أن الحل لايوجد لدى طرف واحد، فعلى الجميع أن يتعاونوا من أجل حياة أفضل للعاصميين.