لا يكفي أن يكون معنا الحق، وأن نكون مظلومين. ولا يكفي أن نطالب بالعدل لأن مطالبنا مشروعة. ولا يكفي أن نندد بتصرف إسرائيل الإجرامي، وبموقف الولاياتالمتحدة المتواطئ. ولا يكفي أن نتباكى على أطلال بيروت وشهداء قانا، ولا أن نستنكر موقف الأممالمتحدة التي تعجز عن فرض حد أدنى مما نعتبره عدلا. عابد شارف وأكثر من هذا، لا يكفي أن نشيد بموقف حزب الله ونمجد مقاتليه وشهدائه، كما لا يكفي أن نندد بموقف الدول العربية المتواطئة بسكوتها أو بعلانيتها، ولا أن تكتب مقالات عن هذه الأنظمة التي تقهر مواطنيها وتمنعهم حتى عن التضامن مع فلسطين. ولا يكفي أن نعبر عن إعجابنا بالوحدة الوطنية التي ظهرت بها مختلف الطوائف في لبنان. ولا يكفي حتى أن نقوم بمظاهرات عارمة وغاضبة نكسر خلالها مقر الأممالمتحدة وسفارة أمريكا، ونقسم بالله وبالبترول أننا سنثأر لشهدائنا. كل هذا لا يكفي لأنه تصرف عادي بعد هزيمة جديدة، وهو تصرف عادي يشير إلى أننا قادمون إلى هزائم أخرى، لأن نفس التصرف ونفس الخطب سادت بعد هزائم الماضي، ودفعتنا بصفة مباشرة إلى هزائم أخرى. لكن عالمنا رفض استخلاص العبرة من تاريخه، وبلداننا رفضت أن تستخلص الدرس من تجربتها الخاصة، وقادتنا رفضوا العلم والمنطق ورفضوا حتى التفكير في الأسباب الحقيقية للهزائم المتتالية، فعجزوا نهائيا عن تجاوزها. ما الفرق بيننا وبين إسرائيل؟ ما الذي يجعل من إسرائيل دولة تسير من انتصار إلى انتصار بينما نسير نحن من هزيمة إلى هزيمة؟ إن الفرق واضح وبسيط، ويمكن تلخيصه في خمس نقاط أساسية: إن إسرائيل دولة تحترم مواطنيها، ثم أنجزت إجماعا وطنيا لا أحد يطعن فيه في قضايا الدفاع والأمن، وإسرائيل تكسب جيشا عصريا يستعمل التكنولوجيا إلى أقصى حد، كما أنها دولة تملك القنبلة الذرية، وفي الأخير، فإنها قد حصلت منذ عهد طويل على الحماية الأمريكية والعطف الغربي بصفة عامة. هذه أوراق إسرائيل التي تمكنت بفضلها أن تفرض نفسها على حساب مصالحنا، بل على حساب وجود الشعب الفلسطيني. إنها تستعملها بجد، وتؤمن بها، وأقامت المعاهد والجامعات ومراكز التفكير والنقاش لفرض تفوقها في كل هذه الميادين. وإذا لم نتمكن من تحقيق هذه النقاط، أو على الأقل جزء منها، فإن هزائمنا مضمونة في المستقبل، وعجزنا سيبقى مستمرا إلى الأبد. ولا شك أن نقاط القوة هذه التي توصلت إليها إسرائيل تبقى صعبة المنال لبلدان خرجت من سيطرة الاستعمار، بل من العهد الحجري في منتصف القرن الماضي. لكن لا شيء يمنع من التفكير فيها، أو في البعض منها والعمل بطريقة عقلانية لتحقيقها بعد عقد أو عقدين، أو حتى بعد خمسين سنة أو قرن. ويمكن أن نتساءل ما يمكن أن نحقق اليوم، غدا وبعد غد. وهنا تأتي الفاجعة؛ لأننا نرى بسرعة أننا لسنا عاجزين فحسب عن الوصول إلى هذه الأهداف التي من الممكن أن تعيد لنا عزتنا وشرفنا، بل أننا نبتعد عنها مع ممر السنين. ويكفي لنتأكد من ذلك أن نشير إلى المشاركة العربية في الحروب مع إسرائيل. فالحرب الأولى سنة 1948 دارت بمشاركة كل العرب تقريبا، رغم ضعفهم في ذلك العهد، حيث أنهم كانوا تحت السيطرة الغربية بصفة أو أخرى. أما الحرب الثانية سنة 1967، فقد تراجعت المشاركة، وتراجعت أكثر سنة 1973، لتنحصر على الفلسطينيين وحدهم سنة 1982. أما اليوم، فإنه لا يوجد في المواجهة إلا جزء من المجتمع اللبناني. هذا ما يشير أننا لا نقترب من الإجماع، بل أننا نبتعد عنه. فلأول مرة، نطق زعماء عرب لينتقدوا المقاومة العربية، مهما كان لونها السياسي، بعد أن كانوا في الماضي يكتفون بالصمت، وهو أضعف الإيمان. هذا عن الإجماع. أما عن القوة العسكرية، فإن إسرائيل تستعمل كل ما هو عصري، وقامت ببناء جيش له هدف أساسي وهو حمايتها. أما البلدان العربية، فإن جيوشها تصلح للانقلابات مثلما كان الحال في الماضي، أو لقمع الشعوب منذ زمن طويل. ولا توجد أية دولة عربية تعمل لبناء جيش قادر على التصدي لإسرائيل، لكن الجيوش التي يتم تنظيمها وتأطيرها وتكوينها لحماية النظام القائم موجودة في كل شبر من ترابنا. ومن جهة أخرى، فإن أمريكا منعت الدول العربية، وبصفة نهائية، من التحكم في التكنولوجيا النووية. وقد قررت أمريكا تدمير العراق لمنعه من الوصول إلى القنبلة النووية، كما أن الأزمة الحالية القائمة حول إيران تشير إلى أن الغرب بصفة عامة يرفض أن يحصل توازن في ميدان القوة النووية بين العرب أو المسلمين من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى. ولم يبق لنا إلا البحث عن مساندة أمريكا والعطف الأوروبي. لكن بينما تقوم إسرائيل بعمل جاد، مبني على دراسات علمية وأبحاث يقوم بها أحسن الخبراء، فإن قادتنا لجؤوا إلى طريق أخرى، وهي الانبطاح والولاء لأمريكا لعلها تعطف عليهم. ونسي القوم أن الضعيف لا يحترم، وأن المولى لا يتم التعامل معه مثل الرجل الحر. وفي آخر المطاف، نلاحظ أن أمريكا تمنعنا من القيام بالكثير مما نطمح إليه. وكانت هذه حجة نستعملها حتى لا نتحرك، ونبرر بها هزائمنا، ونشرح بها عجزنا. لكن هناك مجال لا دخل لأمريكا فيه، رغم أنه يشكل البداية لكل المسار، ولا يمكن أن نفكر في أي مشروع قبل تحقيقه، لأنه يسمح بإقامة دولة ديمقراطية، واحترام المواطن، وفتح النقاش السياسي، كما أنه يسمح ببناء إجماع وطني، ويفتح المجال أمام البحث العلمي، وأمام التضامن. هذا المجال هو حرية المواطن، واحترام حقوقه. ومنه يمكن أن ننطلق، ودونه سنبقى في عجزنا إلا الأبد. هذا مجال من اختصاصنا، يمكن أن نسعى إليه رغم رفض أمريكا. ومن ادعى أنه يساند المقاومة دون أن يحترم مواطنه كاذب، أو جاهل، أو عابث، أو متواطئ. ولعل هذا ما يغير تماما الفكر المتداول بيننا، حيث يدفعنا إلى قلب المفاهيم، والقول إن تحرير فلسطين يصبح قضية ثانوية، لأننا لا نملك الوسائل العسكرية والفكرية والدبلوماسية الضرورية. وبدل مساندة فلسطين ولبنان، يجب على كل واحد أن يحرر مجتمعه وبلاده، وعند ذلك، سيتضح لنا أن تحرير فلسطين قضية سهلة، لأن العبيد لا يمكن أن يحرروا عبيدا قبل أن يتحرروا بأنفسهم.