* حين تقترب منها تعجبك هندستها و يأخذك الفضول للدخول إليها، فبرغم تغير المناخ وتعاقب العصور، إلا أن مساكن ثمود قوم صالح لم تتأثر بهذه التغييرات الطبيعية، بل تقول إحدى الروايات أنها تعرضت سابقا إلى قصف، لم تتفتت صخورها التي تشبعت بالوادي القريب منها، تتضح صورها في آية: (وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي). * إن قوم صالح عليه السلام: هم قبيلة مشهورة يقال لها ثمود باسم جدهم ثمود أخي جديس، وهما ابنا عابر بن ارم بن سام بن نوح، وكانوا عربا من الباذدة يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك، وقد مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين، وكانوا بعد قوم عاد، وكانوا يعبدون الأصنام كأولئك، فبعث الله فيهم رجلا منهم، وهو عبد الله ورسوله: فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يخلعوا الأصنام والأنداد، ولا يشركوا به شيئا، فآمنت به طائفة منهم، وكفر جمهورهم، ونالوا منه بالمقال والفعال وهموا بقتله، وقتلوا الناقة التي جعلها الله حجة عليهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. * قصتهم، وما كان من أمرهم، وكيف نجا الله نبيه صالحا عليه السلام، ومن آمن به، وكيف قطع دابر القوم الذين ظلموا بكفرهم، وعتوهم ومخالفتهم رسولهم عليه السلام. * قد ذكرنا أنهم كانوا عربا وكانوا بعد عاد، ولم يعتبروا بما كان من أمرهم، ولهذا قال لهم نبيهم عليه السلام: * (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم * واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبواكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين). * أي: إنما جعلكم خلفاء من بعدهم، لتعتبروا بما كان أمرهم، وتعملوا بخلاف عملهم، وأباح لكم هذه الأرض تبنون في سهولها القصور، وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، أي: حاذقين في صنعتها واتقانها وإحكامها، فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح، والعبادة له وحده لا شريك له، وإياكم ومخالفته، والعدول عن طاعته، فإن عاقبة ذلك وخيمة. * وقال لهم أيضا: (... قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها...). * أي: هو الذي خلقكم، فأنشأكم من الأرض، وجعلكم عمارها: أي أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار، فهو الخالق الرزاق، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا سواه. * (فاستغفروه ثم توبوا إليه) أي: أقلعوا عما أنتم فيه، وأقبلوا على عبادته فإنه يقبل منكم، ويتجاوز عنكم. * (إن ربي قريب مجيب * قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) * أي: قد كنا نرجو أن يكون عقلك كاملا، وهي دعاؤك إيانا إلى إفراد العبادة، وترك ما كنا نعبده من الأنداد، والعدول عن دين الآباء والأجداد. * ولهذا قالوا: (... اتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير فما تزيدونني غير تخسير). * وهذا تلطف منه لهم في العبارة، ولين الجانب، وحسن تأت في الدعوة لهم إلى الخير، أي: فما ظنكم إن كان الأمر كما أقول لكم، وأدعوكم إليه، ماذا عذركم عند الله، وماذا يخلصكم بين يديه، وأنتم تطلبون مني أن أترك دعاءكم إلى طاعته. * وأنا لا يمكنني هذا لأنه واجب علي، ولو تركته لما قدر أحد منكم، ولا من غيركم، أن يجيرني منه ولا ينصرني، فأنا لا أزال أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له، حتى يحكم الله بيني وبينكم. * وقالوا له أيضا: (إنما أنت من المسحرين) * أي: من المسحورين، يعنون مسحورا لا تدري ما تقول في دعائك إيانا إلى إفراد العبادة وحده، وخلع ما سواه من الأنداد، وهذا القول عليه الجمهور إن المراد بالمسحرين المسحورين. * وقولهم: (فاْت بآية إن كنت من الصادقين) * سألوا منه أن يأتيهم بخارق يدل على صدق ما جاءهم. *
* الناقة تخرج من الصخرة * قال: (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم). * وقال: (قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) * وقال تعالى: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها). * وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوما في ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم إلى الله، وذكرهم، وحذرهم، ووعظهم، وأمرهم، * فقالوا له: * إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة، وأشاروا إلى صخرة هناك ناقة من صفتها كيت وكيت، وذكروا أوصافا سموها ونعتوها، وتعنتوا فيها، وأن تكون عشراء طويلة، من صفتها كذا وكذا. * فقال لهم النبي صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به. * قالوا: نعم، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، ثم قام إلى مصلاه فصلى الله عز وجل ما قدر له، ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا. * فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفظر عن ناقة عظيمة عشراء، على الوجه المطلوب الذي طلبوا أو على الصفة التي نعتوا، فلما عاينوها كذلك، رأوا أمرا عظيما، ومنظرا هائلا، وقدرة باهرة، ودليلا قاطعا، وبرهانا ساطعا، فآمن كثير منهم، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم، وعنادهم. * ولهذا قال: (فظلموا بها) أي: جحدوا بها، ولم يتبعوا الحق بسببها أي: أكثرهم. * ولهذا قال لهم صالح عليه السلام: (هذه ناقة الله لكم آية) * (لكم آية) أي: دليلا على صدق ما جئتكم به. * (فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) * فاتفق الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم، ترعى حيث شاءت من أرضهم، وترد الماء يوما بعد يوم، وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم لغدهم، ويقال: إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم. *
* حليب الناقة يسقي قوم ثمود * ولهذا قال: (لها شرب، ولكم شرب يوم معلوم) * ولهذا قال تعالى: (إنا مرسلو الناقة فتنة لهم) * أي: اختبار لهم أيؤمنون بها أم يكفرون؟ والله أعلم بما يفعلون. * (فارتقبهم) أي: انتظر ما يكون من أمرهم، واصطبر على أذاهم فسيأتيك الخبر على جلية. * (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) * فلما طال عليهم الحال هذا، اجتمع ملؤهم واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة ليستريحوا منها، ويتوفر عليهم ماؤهم، وزين لهم الشيطان أعماله. * قال الله تعالى: (فعقروا وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين) وكان الذي تولى قتلها منهم رئيسهم: قدار بن سالف بن جند * أن امرأتين من ثمود، اسم إحداهما: وكانت ذات حسب و مال، وكانت تحت رج لمن أسلم ففارقته، فدعت ابن عم لها يقال له: مصرع بن مهرج بن المحيا، وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة. * والأخرى: كانت عجوزا كافرة، لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو، أحد الرؤساء، فعرضت بناتها الأربع على قدار بن سالف إن هو عقر الناقة، فله أي بناتها شاء. * فانتدب هذان الشابان لعقرها، وسعوا في قومهم بذلك، فاستجاب لهم سبعة آخرون، فصاروا تسعة، وهم المذكورون في قوله تعالى: * (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون) * وسعوا في بقية القبيلة، وحسنوا لهم عقرها، فأجابوهم إلى ذلك، وطاوعهم في ذلك، فانطلقوا يرصدون الناقة، فلما صدرت من وردها كمن لها مصرع فرماها بسهم، فانتظم عظم ساقها، وجاء النساء يزمرن القبيلة في قتلها، وحسرن عن وجوههن ترغيبا لهم. * فابتدرهم قدار بن سالف فشد عليها بالسيف، فكشف عن عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض، ورغت رغاة واحدة عظيمة تحذر ولدها، ثم طعن في لبتها فنحرها، وانطلق سقيها وهو فصيلها، فصعد جبلا منيعا ودعا ثلاثا. *