كان برفقة مجموعة من أصدقائه حينما التقيناه صدفة بمدينة سيدني الأسترالية، الجندي الإسرائيلي "روتيم مور" لا يتقن اللغة العربية، لكنه يفك الكثير من حروفها وينجح في تمرير أفكاره بصعوبة، طيلة الوقت الذي جلسنا لنتجاذب أطراف الحديث معه، وقال مازحا "عذرا، فأنا لا أعرف إلا القليل من اللغة العربية.. !"، لكنه رغم ذلك كان يحسن التلفظ بالجمل القليلة التي حفظها من سنوات شبابه التي قضاها بالقرب من الفلسطينيين. حاورته بسيدني مراسلة "الشروق اليومي": عائشة زتيلي لم أكن إلى غاية تلك اللحظة أدرك أنني جالسة بالقرب ممن ينتمي إلى شعب عدو للعرب والمسلمين، يفتك بدماء الفلسطينيين واللبنانيين، ولا تربطنا بهم في الجزائر أي نوع من العلاقات ! وربما لذلك السبب، لم يشأ صديقي "العربي" كشف هوية الجندي من الوهلة الأولى، لأنه كان يخشى أن أنصرف بمجرد معرفة أصل هذا الشباب الجالس أمامي، فطلب مني صديقي "العربي" القاطن بأستراليا أن أتربص قليلا لأكتشف بنفسي هوية هذا الجندي الإسرائيلي الجنسية والمولد، المعارض لسياسات الكيان الصهيوني. كان "روتيم" مقتصدا جدا في كلامه، وفي ثنايا جسمه النحيف كان يخفي قصصا مثيرة وتجربة مأساوية مع جيش الاحتلال الصهويني، وحكاية جندي سابق تمرد على تقاليد المجتمع الإسرائيلي ورفض إكمال الخدمة العسكرية، بالرغم من الضغوط التي أحاطت به، لكنه قرر أن "يثور" على قيادات الجيش، وينخرط للعمل في قضايا السلام بعدها. ولسبب معين لم أفهمه، وجدتني في لحظة ودون أن أفقه سر سلوكي أتمرد على كل قناعاتي ومبادئي بمقاطعة الإسرائيليين دون أن أكفر بها نهائيا، ربما بدافع الفضول الصحفي، فقررت طوعا أن أطلب موعدا مع الجندي لمحاورته، وتقريب صورته ممن يوصفون "بأنصار السلام الإسرائيليين" للقراء الجزائريين من خلال جريدة "الشروق اليومي" . أما "روتيم" فلم يتردد في محاورة مواطنة جزائرية لا يعرف عنها سوى أن بلدها الجزائر يرفض قطعا أي تطبيع مع إسرائيل، وكانت هذه المقابلة قبل يوم واحد من تاريخ عودة "روتيم" إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. الشروق اليومي: قدّم نفسك للقراء الجزائريين؟ الجندي الإسرائيلي: اسمي "روتيم مور" ابلغ من العمر 25 سنة، أقطن القدس، وقد ولدت في بلدة صغيرة شرق القدس، قضيت بعض السنوات متنقلا بين بريطانيا وكندا وإسرائيل. في سن 18 عاما، وكأي مواطن إسرائيلي يهودي، استدعيت للخدمة في الجيش الاسرائيلي مثل أي شاب يهودي. ومعلوم أن الخدمة العسكرية اجبارية في اسرائيل 3 سنوات للشباب وسنتين للشابات، وبعد ذلك نبقى في عداد قوات الاحتياط لسنوات متقدمة قد تصل الى 50 سنة، حيث يتم قضاء بعض الاسابيع من كل سنة في الجيش. بعد استدعائي للجيش الاسرائيلي، قضيت 6 اشهر في منطقة "جنوب اسرائيل "على الحدود مع مصر، وبعد ذلك أمضيت سنة واحدة كجندي معلم في مدارس القدس مع الشباب، وبعد عام ونصف أعلنت رفضي للخدمة في الجيش الاسرائيلي، فقد رفضت اللباس العسكري واطاعة الاوامر واعلنت ذلك في بيان علني. ما سبب رفضك أداء الخدمة العسكرية ؟ السبب الذي ادى بي لرفض الخدمة العسكرية طويل ومعقد، لم أقرر مقاطعة الخدمة العسكرية من اليوم الاول من بداية تجنيدي، بل كنت قررت ذلك في اواخر دراستي العليا، حيث بدأت أفكر في اسباب الخدمة والامور المتعلقة بهذا الموضوع وسياسة الحكومات الاسرائيلية، وبدأت اتساءل عن كل ذلك، لأنني لم أكن مقتنعا بالخدمة في الجيش، ليس لانه لدي تحفظات سياسية، بل لأسباب شخصية أخرى. وما هي هذه الأسباب؟ لم أكن أرى جدوى من أن يدخل شاب في ذلك العمر الى الجيش، ولكن ذهبت الى الجيش لان الجميع يذهب إليه، واهالينا وجميع طلاب الصف ذهبوا إلى الخدمة العسكرية ، هم لم يدركوا لماذا ذهبوا ولكن كان عليهم الذهاب. ماذا عنك، بم كنت تشعر ؟ كانت علي ضغوط كبيرة، لم أرد الذهاب لاسباب شخصية، ليس لانني كنت خائفا، أو لامور مشابهة.. ذهبت الى الخدمة لاني لم أعرف أي طريق آخر، لم أكن أود الذهاب، ولكن ما باليد حيلة! وخلال تواجدي في الجيش تزايدت التساؤلات من حولي، على مستوى شخصي كوني جنديا وهو أمر شاق، حيث يجب اطاعة الاوامر دائما، وليس مسموحا التفكير في الرفض أو التحفظ، ولكن بعد انطلاق الانتفاضة سنة 2000 وشاهدنا ما يحدث على شاشات التلفزيون من اغتيالات وتدمير للمنازل وضرب للمتظاهرين وغيره، عرفت أن ذلك ضد كل مبادئي وشعرت أنني سأكون مسؤولا إن قمت بشيء مثل ذلك وأنا أرتدي البزة العسكرية، وبدأت تلح علي التساؤلات أكثر فأكثر، ولم أجد لها اجابات، لكن لحظة رفضي للخدمة، لم تأت بسبب إدراكي عن خطأ ما كان يحدث، حيث كنت مؤمنا بذلك من قبل، ولكن كانت تلك هي اللحظة التي أدركت أنه بإمكاني أن أقوم بعمل أو شيء حيال ذلك. وهل كانت قيادة الجيش تقنعكم بما تفعل وترتكبه في حق الفلسطينيين؟ لم يكن مهما إقناعنا، حيث أن الجميع كانوا مقتنعين أن ما يحدث كان خطأ، ولكن الجميع كانوا يرددون ما باليد حيلة ! لكن عندما ادركت ان هناك خيارا آخر، قمت به وشعرت أنني أبدأ حياتي بشكل جديد. وما هي أول خطوة قمت بها بعد "تمردك" على الجيش؟ هكذا كانت بداية رفضي للخدمة العسكرية، حيث كتبت رسالة الى الآخرين "الذين رفضوا الخدمة مثلي"، وحتى ذلك الوقت لم يكن لدي نشاط سياسي، ولكن أول شيء قمت به، هو انني بحثت في الانترنيت على جماعة السلام اليهودية وكتبت لهم عن قضيتي وبينت لهم أسباب رفضي للخدمة العسكرية، وطلبت منهم يد المساعدة. والحق أن معظم الجماعات التي كتبت لها ومنها جماعة "السلام الآن" التي غيرت موقفها وقد أيدت حاليا الحرب على لبنان لم تساعدني، ولكن كانت هناك منظمة واحدة ساعدتني تدعى "نيو بروفيل"، وهي مجموعة تسعى الى إرساء أعمال وثقافة حضارية في المجتمع الاسرائيلي بالعمل على تحويله من مجتمع عسكري، إلى مجتمع مدني، لان أي مجتمع عسكري، قراراته المهمة يتخذها العسكريون الذين خدموا في الجيش لمدة طويلة، وأصبح لهم نفوذ، فكيف في هكذا مجتمع يهمل فيه رأي النساء والشباب واليهود الشرقيين والفلسطينيين الذين لا يخدمون في الجيش. وقد حصلت على دعم كبير من هذه المنظمة، حيث قابلت كثيرين لم أكن أعرف عنهم شيئا، قابلت جنودا آخرين رفضوا الخدمة، وبعد رفضي مباشرة وضعت في السجن لمدة شهر، ونتيجة حملاتي المتتابعة بعدها، اقتنع المسؤولون في الآلة العسكرية، أن السجن لن يثني من عزيمتي، فأفرجوا عني. بعدها بشهر، بدأت سفرياتي. كان لي صديق في استراليا دعاني للحضور الى هنا قبل سنة ونصف، حيث تحدثت إلى مجموعات السلام، أولها مجموعة "اليهود من أجل سلام عادل" وتحدثت الى مجموعات أخرى للسلام في استراليا ونيوزلندا ودول أخرى، حيث أدركت أن هناك الكثيرين يشاركونني مخاوفي وآرائي والآخرين رأوا أهمية لما أقول وأعمل لتشجيع الآخرين على اللحاق بي و"الاقتداء بي"، وهذا أدى الى تقوية همتي، حيث تعمق إيماني بأن ما أقوم به له أهمية، كما أنه ليس مهما فقط للشباب اليهود في إسرائيل، حيث أن هناك الكثير في العالم يهمهم ما يحدث في تلك المنطقة، وقد قضيت سنة في الترحال والحديث الى الآخرين. هل فكرت في العودة إلى إسرائيل لتصدير تجربتك وأفكار الآخرين إلى شباب شعبكم؟ نعم، وعندما قررت العودة الى اسرائيل، تساءلت: ماذا سأعمل؟ وأول ما خطر في ذهني، أنني لا أريد للشبيبة الإسرائيلية أن يعانوا ما عانيت، وأن يمروا بما مررت به. كنت أطرح على نفسي عشرات الأسئلة، وأتساءل مرارا عما كنا نقوم به؟ وما يجب عمله؟ وكنت أفكر بمفردي وأخطط بمفردي دون دعم من أحد، ولم أكن أعرف أن هناك من يمكنه مساعدتي، ولذلك قررت أن أصل إلى هؤلاء وأقول لهم إن هناك من يستطيع مساعدتهم والإصغاء اليهم، ويشاركهم الرأي ويعطيهم بعض الحقائق. وبمساعدة تلك المنظمة، قمنا - لأول مرة - بتسطير برنامج ندوات للشباب للتحدث عن مسائل الخدمة العسكرية في إسرائيل، وعقدنا 3 ندوات خلال أشهر، وما فعلناه أننا جعلنا بعض الشبيبة الاسرائيلية تقابل بعضها البعض وهي تجربة "نادرة" حيث أنهم كانوا يشعرون بالانعزال، كما عملنا على جلب متحدثين وقمنا بتنظيم فعاليات أخرى مثل رحلة "يافا"، حيث استضفنا فلسطينيين لاجئين من "يافا" ذهبوا معنا في زيارة لبلدتهم الاصلية، وقد كانت تجربة فريدة من نوعها هي الاخرى، لان المشاركين كانوا من النشطين اليهود، كانوا يسمعون وبكل اهتمام لمعاناة اللاجئين الفلسطينيين ولأول مرة أيضا، ذلك أنهم لم يكونوا على علم بوجود لاجئين فلسطينيين أساسا، كما قمنا بتنظيم تظاهرات أخرى مماثلة، وتحدثت شخصيا مع بعض اليهود عن تجاربهم في الجيش، كما استضفنا في آخر ندوة جنديا اسرائيليا حدثنا عن الخدمة العسكرية، وما معنى أن تكون في الجبهة وغيرها، وكان نقاشا ثريا ومثمرا، فأجاب على تساؤلات الشباب الإسرائيلييين الذين سألوه إن كان يشعر أنه جندي محتل؟، وبدوره سألهم الجندي ان كانوا يعتقدون أن دولة اسرائيل يمكن أن تستمر بدون جيش؟ ولماذا يجب على الجميع أن يشتغل في الجيش؟. لقد كان هناك حديث عميق عن كل هذه الامور، وأدت الى نتائج عميقة، حيث أن هذا الجندي شارك فيما بعد في مظاهرة لدعم احد الجنود الرافضين للخدمة، كما رحب بالجنود الذين رفضوا اداء الخدمة وسجنوا بعد اطلاق سراحهم، وقال إن لديه شعورا متضاربا حول الموضوع، لكنه أراد أن يبعث برسالة تأييد لهؤلاء الرافضين. والشيء الآخر المهم في هذه الندوات، أن جميع من شارك فيها، خرج بعد ذلك بفكر جديد، بالرغم من أنها لم تستغرق أزيد من أيام. وما هي ثمار تلك التجارب مع هؤلاء الشباب المجندين في الجيش، هل نجحتم في توعيتهم وإقناع بعضهم بالتمرد على الجيش مثلما فعلت أنت؟ هذه التجربة أعطت شعورا بالتحرر، ومن التجارب الجيدة أن ثمانية ممن حضروا هذه الندوات قرروا رفض الخدمة في الجيش الاسرائيلي وقمنا بإرشادهم الى أين يمكنهم تلقي المساعدة وكيف يقنعون أهاليهم سيما أنهم يرفضون أن يتخلى أبناؤهم عن الخدمة في الجيش وينتهي الامر بهم الى السجن، ولكن عندما يعرف هؤلاء أن هناك آخرين فعلوا الشيئ ذاته، فإن شعورهم سيختلف وهذا يعطيهم دعما وشعورا أقل بالعزلة. وما نتج عن هذه الندوات أيضا وهو مهم جدا، الاجابة عن تساؤلات الشباب، خصوصا السؤال الذي يتكرر دوما: ما العمل بعد رفض أداء الخدمة بالجيش؟ لأن حياة اليهودي الاسرائيلي بصفة عامة واضحة وتعرف المسار نفسه: بعد المدرسة، ثلاث سنوات خدمة في الجيش، ثم سنة رحلات الى الخارج وإدمان على المخدرات ثم العودة للالتحاق بالجامعة، ومن يقرر رفض الخدمة فإن حياته ستتغير حتما، ويطرح أسئلة كثيرة أهمها ماذا علي القيام به؟ ولأجل ذلك، فقد أقمنا مخيما شبابيا صيفيا حيث تناقش فيه هذه الاسئلة الكبيرة، وفي مخيمات الشباب التي تستمر عادة أسبوعا كنا نجمع 70 شابا معظمهم من اليهود ونطرح عليهم هذه الأسئلة: ماذا تريدون من المجتمع الاسترالي أن يكون؟ لم نكن نبحث في الموضوع بشكل سطحي، وإنما نتعمق فيه. ماذا الذي كنتم تريدون الوصول إليه تحديدا؟ سؤال بالغ الأهمية، يجب أن أشير في هذا السياق الى الجولة المشتركة التي شاركنا فيها لاجئين فلسطينيين لأصل الى هذه النقطة، لقد أقمنا جولة الى قرية "لفتة" وهي من القرى الخالية من أهاليها، وقد أحضر بعض اللاجئين أبناءهم، وهم لاجئون من الجيل الثالث، الى تلك القرية التي سكنها أجدادهم. كانت هذه تجربة فريدة لم أشاهدها من قبل. وبعد الجولة جلسنا وتناقشنا بشكل حقيقي وصريح، وخرجنا بخلاصة اعترفنا من خلالها بما كان عليه الوضع في السابق، ثم تحدثنا عن المستقبل، محاولين تحديد طريق المستقبل. هذه هي المناقشات التي يجب أن تكون بين لاجئين فلسطنيين وجنود إسرائليين. أي نعم، كانت على مجال ليس بالواسع جدا، لكن تأثيرها كبير، قمنا بزيارة أحياء يهودية حيث يسكن اليهود الشرقيون في ظروف صعبة، في السبعينات انشأوا حركة خاصة مشابهة لحركة الدفاع عن الزنوج في امريكا، حيث كانت موجهة لمقاومة اليهود الغربيين وقمعهم لليهود الشرقيين، واستمعنا لقصصهم وكفاحهم ومعاناتهم وسألناهم عن شعورهم نحو العرب الفلسطينيين. برأيكم، ما هو أعظم إنجاز حققتموه من خلال نشاطاتكم إلى غاية الآن؟ أهم شيئ حققناه هو أن يأتي الجميع ويشارك في المواضيع التي نتناولها بالحديث في اجتماعاتنا وندواتنا، وأن يتحدثوا عن تجاربهم بحرية ويناقشوها بعمق. ما الذكرى التي ما تزال راسخة في ذاكرتك؟ لقد قام الجيش الإسرائيلي في إحدى المرات بإطلاق النار ونحن بصدد إقامة مخيم للتنديد وللتظاهرة ضد الجدار العازل وتحديدا في قرية "مسحة"، وأصيب أحد اليهود الإسرائيليين، وكان على حافة الموت، كانت هذه التجربة مهمة لي ولرفاقي من الشبيبة اليهودية، حيث تعرفنا على معاناة الشعب الفلسطيني وشاركنا بشكل فاعل في المقاومة السلمية والتي أدت فيما بعد الى انتشار هذا النوع من المقاومة السلمية الى بلدات أخرى، وتقريبا كل البلدات التي مر عليها الجدار، وفي بعض القرى استمرت المقاومة لمدة طويلة، في قرية "بلعين" استمرت حوالي السنتين وشارك فيها ناشطون يهود وفلسطينيون وأجانب والمظاهرات ما تزال متوصلة كل أسبوع. كم عدد الجنود الفارين من أداء الخدمة العسكرية بإسرائيل؟ تقول الاحصاءات بناء على القوائم المتوفرة أن عددهم يبلغ أزيد من 2000 جندي من مجموع حوالي 150 ألف جندي وهذا منذ انتفاضة 2000 لكن الرقم الحقيقي أزيد بكثير، لأن الكثير منهم يتذرع بحجج أخرى مثل التخلف الذهني أو السلوك أوإعاقات وأمراض وحتى التحجج بالدراسة خارج اسرائيل وغيرها، وبالتالي الرقم الحقيقي مغاير تماما لهذا.