محكمة أمن الدولة تبرّئني من قضية مراح وبويعلي كان زواجي الأول متسرعا ففشل بكثير من الصداع والصدعات والتزوير في المحاكم وتشويه للحقائق ولولا حفظ الله لزج بنا في السجن والله يخلف على الخدمة الوطنية أنقذتني في تلك المرحلة من ظلم القاضي ورشاوى نسيبي الأول... وحرصت المرة الثانية أن أجر فتاة من قرابتي فهذا أحسن وأضمن وأسهل، وكذلك بحمد الله وقع، فتزوجت ابنة عمتي وأنجبت لي توأمين.. ذكر وأنثى. عندما زارني للتهنئة أحد الإخوة عرض عليّ الذهاب لفرنسا لأحد الملتقيات الإسلامية التي ستلقى في الصيف.. واحد يؤطره علماء الإخوان مثل الشيخ يوسف القرضاوي على شكل مخيم صيفي تربوي وآخر ملتقى سيضم الجماعات الإسلامية الأخرى في أوروبا وبعض البلدان الإسلامية مثل إيران وسيحاولون نشر فكرهم الشيعي الخيميني فيه تحت غطاء ملتقى الحج الدولي. قلت يهمني هذا الملتقى الثاني والحقيقة كنت أفكر أن أسافر هذا الصيف لفرنسا لشراء بعض الأغراض للأطفال وخاصة لم أجد عربة أطفال خاصة بالتوأمين "بوسيت كما تعرف بالفرنسية" حيث أنني كلما أردت الذهاب لبيت الوالدين كنت أحمل واحدا والزوجة الثاني: قال فهذه الفرصة وخاصة أنهم سيرجعون لكم نفقات التذكرة وهو ما سيعينك على شراء أغراض أخرى " قلت لمَ لا فأنا الرابح، أحضر مؤتمرا وأرجع ببعض الحوائج لعائلتي" خلال هذا الملتقى تحت عنوان "الحج ودور المسلمين فيه'. وجدنا أن الذي يشرف عليه جماعة من المعارضة الإسلامية العراقية بمساعدة كمشة من التونسيين وبتمويل من السفارة الإيرانية، كانت الفكرة التي يراد نشرها هي استغلال الحج للقيام بمظاهرات من أجل إدخال تغييرات لتنظيم الحج، حيث يصبح من مسؤولية العالم الإسلامي ككل. رددنا على هذه الأفكار ورفضنا التدخل في شؤون بلد مسلم يطبق الشريعة وله علماء لهم باع طويل في الشرع ولا يحتاجون لمظاهرات وفوضى لإصلاح بلدهم وتقديم النصيحة لأمرائهم، حيث كانت لنا علاقة مميزة مع كثير منهم وخاصة الشيخ أبو بكر الجزائري، ثم خلال سهرات الليل بدأ يدور علينا بعض الأقزام التونسيين يحاولون إقناعنا بأن الحركة الإسلامية اليوم أصبح لديها قيادة عالمية راشدة المتمثلة في الخميني، فهمنا من هذه التحركات ان أخواننا الشيعة أصبحوا يرون أنفسهم أهلاً لقيادة الحركات الإسلامية عالميا وترشيدها، كيف لا وقد فشلت في كل البلدان إلا في إيران. رددت عليه ردا مفحما وغاضبا.. ماذا تعرف أنت عن الإسلام وحركاته التحررية والجهادية؟ نعم معك الحق إذا كنت تتكلم عن تونس الخضراء التي قلبها بورقيبة إلى تونس العجماء يأكل فيها رمضان نهارا جهارا وأطلقت يد النساء المترجلات ليركبن رقاب أنصاف الرجال ولا كلب نبح، حاشى رجال تونس النزهاء المخلصين لدينهم ووطنهم، ألم تعلم أن ثورتنا الإسلامية الجهادية الأمير عبد القادر سبقت ثورة الخميني، ألا يوجد عندنا علماء ومجاهدون نقتدي بهم حتى ننتظر خروج الخميني الذي لا ننكر فضله وجهاده ولكننا أسبق للعمل الجهادي ولنا ثقافتنا وخصوصياتنا وأهل مكة أدرى بشعابها، ولك في الشرق جماعة الإخوان المسلمين وقيادتهم وعلماءهم، كيف تريد أن يترك كل الناس مراجعهم ويولوا خلف قيادة يجهلون مذهبها وبعيدة عنهم، نحن لا نرضى بقيادة المشارقة لنا عبر جماعة الإخوان المسلمين، كيف تريدنا أن نرضى بأبعد من ذلك من أسيا، أنتم لا تفهمون شيئا عن الإسلام وعن الجزائر، إرجع إلى الذين أرسلوك وقل لهم ما سمعت وإن أبيت أسمعناك كلاما أكثر خشونة وتطرّفا، إن الثورة الجزائرية يا هذا كانت ثورة إسلامية من بدايتها على يد الأمير عبد القادر إلى نهايتها على يد الشعب الجزائري وجيش التحرير، ولكن للأسف كمشة من الشيوعيين الحمر المخدوعين استولوا على نصر الشعب الجزائري وحولوه إلى حسابهم ليس غلبة على المخلصين ولكن بالحيلة والمسكنة والضرب في الظهر أخرجوا الرجال المخلصين واستولوا على الحكم ومالوا إلى يسارهم بعدما امتلأت كروشهم من البيرة والوسكي وشطحت أمامهم الشقروات، فوا أسفاه لولى الهوى وعمى البصيرة لكانت الجزائر جنة للأطهار لا مكة للثوار، كما قال بعضهم. كان ممكنا لها أن تسلك الوسطية والاعتدال، لا تنقل من الاشتراكية ولا تنقل من الرأسمالية، لقد قالت في بيانها إنها تريد دولة جزائرية اجتماعية .. فلله درّ من كتب بيان أول نوفمبر.. لقد أحسن التعريف لدولة لا شرقية ولا غربية.. يا ليت الذين جاءوا من بعده حافظوا على عهده.. رجوعا للملتقى، حضرنا وبمعية الشيخ سلطاني رحمه الله صاحب الكتاب المشهور éسهام الإسلام"، قدمنا خدمة كبيرة لبلدنا ولديننا بتقديم النصح للإخوة الإيرانيين والشيعة خاصة بأن لا يكونوا سببا في فتنة أخرى مذهبية وعقائدية في البلدان الإسلامية فيكفينا محنة الشيوعية والاشتراكية ولنؤجل إلى المستقبل العمل الإسلامي الموحد ولنتعاون في البلدان الغربية ضمن الجمعيات الطلابية كبداية.. رجعت مسرورا بما حملته لأبنائي من هدايا وخاصة "البوسيت" لحمل التوأمين والتي كانت هدفي الأول.. مضت العطلة الصيفية بأمان ودخلت السنة الدراسية 1981 - 82 وبكل حماس وجدّ كنت أحضر دروسي لتلاميذي في الثانوية التقنية التي قررت الاستقرار فيها، المهم أنني تحملت مسؤولياتي كأستاذ بكل طاقتي وحبي للعمل ولكن فوجئت يوم 22 فبراير 1982 استيقظت على طارق في الباب يلبس بذلة دركي، فتحت الباب فقال أنت بوكليخة يحي قلت نعم قال: ألبس قشك لتأتي معنا، فهمت أن في الأمر شيئا قد يكون له علاقة بأحد الإخوة من وهران قبض عليه وسمعت أنه وجد عنده نسخة من ما يسمى بمنشور سياسي "تراكت" فيه مطالب سياسية ولكن كان لا يتكلم معنا في هذه الأمور ولا يطلعنا على أشياء تحسب من الممنوعات في ذلك الوقت، لذلك ذهبت معهم مطمئن البال لا يوجد عندي ما أخفيه أو ما يسيء لسمعتي وشخصي لا من الناحية الأخلاقية أو الأمنية، فلقد كنت دائما أنفر من العنف المادي واستعمال الخشونة في الدعوة ولكن ها أنا مطلوب من فرقة البحث من وهران، هكذا قال لي مسؤول الدرك في تلمسان، فلما وصلنا إلى وهران أدخلت عند الضابط المسؤول عن الملف، فسألني: ماذا فعلت هذا الصيف؟ قلت خرجت إلى فرنسا. وماذا فعلت في فرنسا؟ قلت: ذهبت لشراء بوسيت خاصة بالتوأمين وأغراض أخرى لأطفالي كجميع الناس، فالجزائريون كلهم يخرجون بعدما فتح لهم الباب.. قال ولكن فعلت شيئا آخر؟ قلت نعم، كان عليّ أن أذهب إلى النزل وبما أنني كنت على علم بأن مؤتمرا يقام في باريس في ذلك الوقت ضربت بحجر عصفورين. أحضر المؤتمر وأشتري أغراضي. قال: هذا مؤتمر من تنظيم المعارضة وهل لقيت رشيد بن عيسى؟ قلت لم يكن فيه معارضة للجزائر ولكن كان هناك معارضون لأنظمة عربية مثل العراق. قال: "نحن نعرف كل شيء وأصحابك قالوا كل شيء إما تعترف أو سنهوّدك الْتَحتْ وتتكلم. وهو ما يعني سنستعمل العنف والعصا. قدمت لي أوراق لأمضيها بدون قراءتها وحملنا في سيارة إلى العاصمة ليلا، لما قدمنا إلى فرقة الجزائر تمكنت من قراءة المحضر فإذا به يحتوي على شيء مدهش. محكمة أمن الدولة بالمدية تحت عنوان "قضية مراح وبوعلي"، اندهشت لهذه الفرية وقلت للحاج محمد إنهم ذاهبون بنا إلى محكمة أمن الدولة بالمدية.. قلت للذي سألني عن بوعلي أنا لا أعرف هذا ولم أسمع به، قال ألم تقرأ الصحف فهو مبحوث عنه وقد نشرت صوره وأذاع التلفزيون صورته وجماعته، قلت لا أملك تلفزيونا، لقد تزوجت مؤخرا وليس عندي مال لشراء التلفزة الآن. قال أنتم الإخوان المسلمون لا تحبون التلفاز، قلت أبدا فأنا درست في أمريكا ومتفتح على الثقافات الأخرى، ولكن للأسف ها نحن الآن في محكمة أمن الدولة أمام قاضي التحقيق ليلا يسألنا عن هذا المؤتمر وعن بوعلي. المسألة تتطلب شيئا من الصبر، بضعة أسابيع للتحقّق من أقوالكم وعلاقتكم بجماعة بوعلي وستكونون أحرارا، هكذا قدم لنا الأمر السيد قاضي التحقيق المعيّن لجمعنا في غيابات السجن لذنب لم نقترفه " تهديد أمن الدولة" يا لها من دولة يهدد أمنها بحضور مؤتمر في فرنسا. عندما وصلنا باب سجن البرواقية حيث البرد قارس في شهر فبراير ولم أكن ألبس إلا قميصا و"بالطو" بدأت أسناني تصطكّ، اقترب مني الحاج محمد نهار رحمه الله وخلع جلابته، قال لي ألبس البرد هنا قارس، قلت وأنت قال لا عليك "راني لابس وحدة ثانية"، لبستها مباشرة، لما سمعت الدق في الباب وصوت الجندرمة عرفت أن في الأمر شيئا يجب أن أتحزم له، قلت: يا الحاج واش درنا احناي اللي نهدد أمن الدولة؟، قال: يا ولدي هذا حكم العرب، اصبر ربي أيدير لنا مخرج" أدخلونا ليلا في زنزانات في عمارة قيل لنا إنها بنيت في عهد الاستعمار لمناضلي حزب الشعب الجزائري، فهم الأوائل الذين سكنوا هذه الديار وتبعهم ألوف أثناء الثورة ثم أغلقت في الاستقلال ولم تفتح إلا بمجيء الإخوة أي نحن؟ وها نحن اليوم في زنزانات الاستعمار ينكل بنا باسم حماية الوطن بنفس التهمة التي كانت فرنسا تلصقها بالأحرار والمجاهدين البواسل، وها هو أحد البلداء من الذين كانوا يرفعون أصواتهم بالجهاد والتحضير له يقول لي :أيوا يا أصحاب بالّتي هي أحسن هاهو جابكم الشاذلي... قلت..لا مشي الشاذلي اللي جابنا أنتما بتهوركم ورطتمونا معكم والله ما نسمح لكم، الدولة دولة ميكي ما تعرفش أتفرق بين الأعمى واللي بعينيه ولكن أنتم السبب، لو امشيتو بالتي هي أحسن ما وصلنا الى هذا وإذا ما عجبتكش فهذه آية في القرآن روح أقعلها حتى ما نقراهاش وما نعملش بها. وفي اليوم التالي وزعنا على زنزانات انفرادية ولا نخرج إلا فرادى إلى الساحة، قال أحد الحراس هذه تعليمات قاضي التحقيق... بعد بضعة أسابيع وخلال زيارة قاضي التحقيق مع زملائه، فتحوا الباب على الحاج محمد الذي مباشرة طلب منهم أن يجمعونا في زنزانات ثلاثا ورباعا بدلا من فرادى، فاستجاب له وفتحت لنا الأبواب ودخل الحاج محمد مهرولا يجر بعض أمتعته وهم يقولون له "أرفد أصوالحك وروح... لما ذهبوا قلت للحاج، لماذا دخلت جريا؟ قال يا ولدي خفتهم يتراجعوا على قولهم. الحاج يعرف مكر العرب لقد كان من مناضلي حزب الشعب منذ الأربعينيات من القرن الماضي. في السجن تعرفت على الإخوة الذين اعتقلوا في قضية مراح وبوعلي وتعرفت على حقيقة هذه الحركة فلقد جيء بعائلة بوعلي كاملة حتى أبناء أخته وعائلات الجيران والأصدقاء، ففهمت منهم أسرار القضية خلاصتها أن أخانا بوعلي رحمه الله، كمجاهد، أراد أن يساهم في إصلاح البلاد بتكوين شبه حزب يقترح حلولا وينبّه إلى ضرورة الاهتمام بالإسلام كمرجع لأمتنا ولكن بعض المرجفين والمدسوسين صوّروا له أن الأمر يحتاج كذلك لإعداد شيء من القوة للضغط على الشاذلي لإدخال حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب، قال لي أحد أبناء العاصمة إن مراح أحمد كان يقول لهم لابد أن ندخل خمسة آلاف من الحركة الإسلامية للحبس حتى نرغمهم على التحول عن المطالب السياسية والمعارضة للنظام، لذلك أطلق النار على دورية للدرك الوطني ولاذ بالفرار وأخذ يدور على بيوت الإخوة كأنه يريد تنفيذ خطة إدخال الخمسة آلاف إلى السجن أينما حل يريهم الرشاش ويحرض على اللجوء إلى السلاح. يتبع...