حزب الجمهورية الإسلامية كنت أتابع عن قرب ما يجري في المجال السياسي وكانت علامات التغيير تتضح يوما بعد يوم من خلال المقالات الصحفية والأخبار الإذاعية أو الرصيفية. وللذكرى، كم اندهشت يوما حينما قرأت في نص أدبي إنجليزي خلال دورات تعلم الإنجليزية في أمريكا الجملة: arabic radio الإذاعة العربية للتعبير على النشر السريع للخبر والدعاية، فالثقافة الأمريكية تستعمل هذا المثال للتنبيه على سرعة انتشار الخبر عن طريق القيل والقال.. قلت للأستاذة أوَتعبرون على الدعاية الشعبية عندكم بأنها تشبه الإذاعة العربية.. قالت هذا مثال عندنا نضربه للتعبير عن سرعة انتشار الخبر وبسرعة فائقة.. عودة للموضوع كان واضحا للمتتبع لأحوال البلد أن الحكم الجزائري منقسم إلى مجموعة مساعدية والحزب والرئاسة والشاذلي بن جديد. أويعقل أن يلقي الرئيس خطابا في الأمة بلغته الدارجة والبسيطة وتأتي تعليمات من الحزب لإقامة ندوات لشرح خطاب الرئيس ويعرك عركا ويدمج بأفكار أخرى وتخرج من القاعة مقتنعا بأن البلادة هي السائدة في بلدنا ولابد من تغيير هذه الوجوه الخبزيسة، الملهوفة التي لا تخدم إلا مصالحها بمؤسسات الدولة.. أحداث أكتوبر والتحرك للمساهمة في التغيير قال لي أحدهم بعد مرور سنين على أحداث أكتوبر وتبخرت جبهة التحرير إنه كان يكتب تقارير عني للحزب حول نشاطاتي ولكنه كان يقول الحقيقة، فالرجل كما قال يقوم بواجبه كالناس كافة ويضحي من أجل تلاميذه ولا غير.. ومرة أخرى طلب أحد العلماء في أمن الدولة عندنا من أستاذ زميل معي في الثانوية أن يخبره ماذا أفعل في المركز الثقافي الفرنسي.. فكان رد هذا الأستاذ فتحي المحنك بتجارب سياسية يسارية وحزبية والمحب للمؤمنين، إنكم حقا أنتم الكارثة في هذا البلد تشكون في الرجال الصادقين وتخمرون مع الموسخين وماذا تريده أن يفعل في مركز ثقافي فرنسي، ألا تعرفون أن الصحوة الإسلامية ومثله هم الذين تخافهم فرنسا وتريد خدمتهم والتزلف إليهم.. إنه يطلب الكتب لدروسه فتلبي طلباته وتشتري وتقدم له لأنهم يعرفون أن المستقبل طال الزمن أو قصر سيؤول لهؤلاء.. وأنتم همّكم أن تشوهوا سمعتهم وهم لا يحبون لكم إلا الخير.. ولماذا لا تتعرف عليه وتسأله عن ما يدور في رأسك.. أما أنا فأقول لك لو كان كل الإخوة في الحركة الإسلامية مثل هذا لركعت أمريكا وفرنسا وطلبت مساعدتها في إصلاح مجتمعاتها، إنه يمثل الإسلام المدني الذي يحبه العربي والعجمي بدون طقوس وتعصب يحب للناس كافة أن يصبحوا مسلمين مؤمنين أهل خير وصدق لا حسد، بل يتمنى لليهودي الخير فكيف لا يتمناه للعربي.. ذاك رجل يعرف دينه ويعرف نفسه وللأسف لا يعرفه الناس. شكرا لك يا الحاج فتحي وماذا تريد أن ترى في هذه الأمة غير البلادة واحتقار بعضها بعضا.. "حاش التراريس اللي فيها أمثالك ومن أنا حتى يأتي آل كعالة مثل هذا يشكك في ويتمنى أن ينال وسام وترقية على ظهورنا".. لو كان البكاء بالقلب لعصرت قلبي أبكي من هذا الهم ولكن لا أجد ما أقول إلا أن أدعو الله: يارب أعز دينك بأمة قوية برجال أقوياء علما وعملا.. يارب أدخل الأمريكيين والإنجليز للإسلام من خيرة أبنائهم وعلمائهم أشدد بهم أزر عبادك المؤمنين العرب يحيون بهم الفهم الصحيح النقي التقي، فهم الصحابة وآل البيت لا فهم من سنّوا في الإسلام سننا سيئة سنن التقليد والحكم بالسيف.. بدأت أكتب مشاريع تحضيرية لإنشاء جمعيات ثقافية واجتماعية وأحفز هنا وهناك من كنت أظن أن لهم كفاءة لتحضير أنفسهم لإنشاء جمعيات وتعبئة الناس للانخراط فيها، وقلت للإخوة يجب أن ننشئ مجموعة من الجمعيات في شتى الميادين ونحضرها ليوم الانفتاح السياسي فتندمج في حزب سياسي إسلامي يقدم مشروعا للأمة تختاره وتجتمع حوله فيكون بإذن الله نموذجا للدولة الإسلامية التي يحلم بها كل مسلم وآمال المسلمين منذ زمن بعيد.. كنت معجبا منذ صباي بمسلسل مسرحيات حول التاريخ الإسلامي تذاع على أمواج الإذاعة المغربية تحت اسم "وإسلاماه"، فألهمتني منذ صغري حماسا شديدا وبقيت أنشد ذلك اليوم الذي سأشارك في إرجاع ذلك الصرح والمجد الذي أصبح عند الأمة الإسلامية تاريخا فقط والأمل في إحيائه شبه معدوم.. شددت على نفسي وكتبت مشاريع لجمعيات متعددة عسى أن تصبح يوما ما مؤسسة للحزب الإسلامي.. حاولت مع زعماء الجماعات الإسلامية المعروفة أن نبادر في تأسيس جمعية ثقافية تكون أول لبنة اجتماع للإطارات الإسلامية المحلية، ولكن كنت أحلم، فالجماعات الولائية تسير وفق نظام السمع والطاعة للزعامة الوطنية في العاصمة وبما أن الرؤوس مختلفة ومصممة على إبقاء عناصرها تحت عباءتها فلم يستجب لي، بل ثبطوني وبردوا الفكرة وجمدوها تجميدا.. لله در أخينا الداعية الخبير رشيد بن عيسى في وصفه لعقلية المسلم اليوم مقارنة بالغربي، قال: إن الغربيين لهم دين صغير وعقل كبير تمكنوا من توسيع دينهم ليشمل عقولهم الكبيرة وحاجياتهم الواسعة. أما نحن فعندنا دين كبير وعقول صغيرة فذهبنا إلى تجحيم و"كرفسة" ديننا حتى نتمكن من إدخاله عقولنا.. لذلك أصبحت أفكارنا المستنبطة من الدين ناقصة ومشوهة.. الإشتراك في إخراج الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الوجود بدأت الأحزاب بالخروج وظهر للعيان حزب الطليعة الاشتراكية وبدأت أصوات كل الناس تنادي بإخراج حزب للحركة الإسلامية ولكن للجماعات الإسلامية الموجودة فهم آخر للأحداث: فواحدة تدعي أن الديمقراطية فخ تريد الحكومة أن تضعه للصحوة الإسلامية لتخرجها للساحة فتضربها كما فعلت في تونس، والأخرى ترى أن الحركة الإسلامية لا تملك الإمكانات البشرية والعلمية لتأسيس حزب سياسي.. هكذا قال لي أحد الإخوة، أننا قمنا بجمع المعلومات والإحصائيات وتوصلنا للخلاصة أننا غير "واجدين" لتأسيس حزب.. هل اتصلتم بنا يا أخانا أم جمعتم فقط كواليسكم الهادئة المطمئنة الآكلة الشاربة وعرضتم عليها الفكرة فردت بأنها لا تستطيع القيام بعمل كهذا.. وحقا لم تكذب عليكم، فهي مجموعة اجتمعت على الرضى بالقليل والهروب من حمل أمانة البناء الكلي الشامل للدولة الإسلامية مع كل جزائري يود المساهمة ونصرة هذا المشروع.. كتبت مشروع تأسيس حزب سميته: حزب الجمهورية الإسلامية مستفيدا من وثائق أحزاب إسلامية أنشئت في إيران والأردن ومن وثائق أحزاب وطنية كحزب الشعب الجزائري وكل ما ورد في موضوع السياسة والديمقراطية من مراجع أمريكية وفرنسية.. وذهبت أعرض الفكرة على أحد الأخوة قلت، يجب أن نؤسس حزبا إسلاميا فهاهم الشيوعيون واللاوطنيون تشجعوا وأسسوا أحزابا فماذا ننتظر نحن.. قال لي هناك أمر في الأفق وسأستدعيك قريبا إن شئت المشاركة.. مرت بعضة الأسابيع وجاء الخبر أن جماعة في العاصمة يحضرون لحزب إسلامي وسوف نذهب لنرى ما في الأمر.. انطلقنا ذات يوم من سنة 1989 والتقينا في مسجد بالحراش قريب من منزل الأخ قمازي في جهة المكتبة، وجدنا الاخوة سعيد قشي وعلي بن حاج وقمازي وعباسي مدني وبن عزوز زبدة وهاشمي سحنوني وقمر الدين خربان وسعيد مخلوفي وعبد الله حموش وحسن ضاوي و.. ونحن القادمون من وهران محمد كرار، المتكلم، ذيب عبد الحق، بشير فقيه و... كان لقاء دافئا عالي المستوى في كل شيء فكرا وعقيدة وأخوة. بدأنا بالتعارف على بعضنا فلم أكن أعرف عباسي مدني وبن عزوز زبدة وهاشمي سحنوني وقمر الدين خربان وسعيد مخلوفي وقمازي. وأما الآخرون سعيد قشي وعلي بن حاج وذيب عبد الحق وكرار محمد وبشير فقيه فلقد كنت أعرفهم والتقينا في محنة سجن البرواقية في قضية مراح وبوعلي التي حشرت فيها حشرا.. تكلمنا عن ضرورة تأسيس حزب مفتوح لجميع التيارات الإسلامية والوطنية، وأسهب الشيخ عباسي مدني في عرض أسباب ضرورة تأسيس حزب يلم جميع الجزائريين وأن الأزمة الحالية تشبه الأزمة التي مرت على التيار الوطني حزب الشعب وكيف خرجت مجموعة الإثنين والعشرين لتفك الحصار على الشعب وحررته من قيود الزعامات وأعطته الفرصة في إطار جديد ليعبر عن حبّه للوطن وضرورة تحررّه من الاستعمار وانتهى الأمر بتأسيس جبهة التحرير الوطني.. وأدلى كل واحد بدلوه في الموضوع خاصة سعيد قشي الذي كان أصغر مجاهد سجن مع الشيخ حماني وأعضاء جمعية العلماء المسلمين، ذكّرنا بمآثر تلك الجمعية ورجالها ويا ليتها واصلت السير والعمل لولا حكم الشيوعية الملفق بالوطنية والاشتراكية.. وأما عبد الله حمش مجاهد حقا عرف الجبال والثورة ومآثرها الفقر والحقرة ولكنه بعدما تحررت الجزائر آثر أن يترك العمل السياسي وتجند في العمل الإصلاحي وامتهان التجارة، رجل ذو خبرة واسعة ومعرفة بمعادن الرجال.. كل منّا حكى قصة حياته وما فيها من فوائد وكيف يحترق قلبه ليعمل صالحا ويزيل الغمة عن أبناء جلدته ويعيد للإسلام في هذه الديار مكانته وهو مستعد للبذل من أجل ذلك كل ما يستطيع.. فهذه ساعة تاريخية وفرصة للأمة أن تعود إلى ربها ونحن مسؤولون أمام الله إن لم نعمل على توفير لها هذه الفرصة وإخراج قيادة صالحة لها.. فنحن لبنة أولى وهذا لا يعني أننا القيادة، فسوف يلتحق بنا من قد يكون أكفأ منا ويتأخر بعضنا إلى الصفوف الأخرى ولا حرج في ذلك. كان يردد الشيخ عباسي مدني، وقد شدني هذا الكلام وسجلته ودار الكلام حول هذا الموضوع.. فالذين تقدموا في ساعة العسرة والخوف ولبوا نداء المسؤولية ووضعوا أنفسهم في الخطر غير الذين ينتظرون ما يفعل بأولئك المتحمسين والمتهورين فإن قبض عليهم وسجنوا أو قتلوا فسيقولون لقد كنا نعرف نتيجة تلك الخرجة فهي فخ وضع للحركة الإسلامية ونحن أخذنا حذرنا ولم نتورط أو نورط أحدا في عمل انتحاري وإن نجحت العملية وخرج الحزب بسلام فسوف يقولون لم يشاورونا وسارعوا ولم يستدعونا ولكن في النهاية بما أنهم إطارات سامية في المجتمع الحركي فسوف ينضمون إلى الحزب ولكن بشروط.. هكذا تداولنا موقف الجماعات الإسلامية وتساءلنا، هل تم الاتصال بهم خاصة الشيخ محفوظ ومحمد السعيد.. والمهم أنه يجب العودة إليهم وإخبارهم بأننا مصممون على الانطلاق وأنهم مدعوون للالتحاق بنا والمشاركة في التأسيس هذا الحزب.. ثم تداولنا في تسمية المولود الجديد وأخيرا تم الاتفاق على تسميته بالجبهة الإسلامية للانقاذ حتى يكون اسمه دالاًّ عليه بأنه جامع للتيارات الإسلامية والخيرية الراغبة في إنقاذ البلاد بأسلوب ومنهج إسلامي.. ثم وضعنا الخطة كيف نبدأ وكتبنا عناصر الخطة بعد المداولة وأخذ رأي كل حاضر ثم رتبت العناصر كالتالي: أولا: تعريف الجبهة وذلك بوضع مواصفات لها.. ثانيا: كتابة برنامجها السياسي.. ثالثا: وضع شروط ومواصفات الانخراط.. رابعا: البدء في نشر الفكرة وجلب المحبين والإطارات لها.. على كل واحد منّا أن يستدعي من يقبل بالفكرة للاجتماعات القادمة للمشاركة معنا من العناصر الكفؤة المعروفة والقديمة في الساحة، ساحة الصحوة الإسلامية.. كتبنا مواصفات الجبهة الإسلامية للإنقاذ في ذلك اليوم وانطلقنا كالبرق نطبع منها وننشرها. وأتبعناها بلقاءات ماراطونية أغلبها في منزل الشيخ هاشمي سحنوني لكتابة البرنامج السياسي.. يتبع...