يمكن لكل متتبع لانتخابات المجلس التأسيسي التي جرت في تونس يوم 23 أكتوبر الماضي أن يستخرج دروسا كبيرة وكثيرة من هذا الحدث التاريخي الكبير. يمكننا أن نتحدث عن المستوى الحضاري الراقي لعملية الإعداد للانتخابات ونزاهة نتائجها، أو عن المستوى العالي لأداء الطبقة السياسية التونسية، أو عن الروح التنافسية السامية للفائزين والخاسرين، أو عن مزاج الاعتدال السائد عند العلمانيين والإسلاميين، أو عن القامات الفكرية والثقافية، ناهيك عن السلامة اللغوية بالعربية عند قيادات الأحزاب بمختلف توجهاتها، أو عن الإقبال الكثيف للمواطنين على القيام بواجبهم حين شعروا بأن أصواتهم لها وزن وقيمة، أو عن حكمة التونسيين في إقصاء المال السياسي وفلول النظام السابق والمتعاملين معه، أو عن تكريم الرموز السياسية من مختلف الاتجاهات التي ثبتت في مواجهة القمع والإغراء، أو عن مكانة المرأة في القوائم المتنافسة وأهليتها السياسية ودورها في إقناع الناخبين في الحملة الانتخابية، أو عن دور الإعلام في صناعة المفاجآت بالنسبة للعارضة الشعبية. يمكننا أن نقف طويلا عند أية ظاهرة من هذه الظواهر ونتتبعها بالشرح والتحليل. غير أن أهم درس يمكن التوقف عنده في تقديري هو موقف الناخبين من الهوية ومغزى ذلك في مستقبل التناقس السياسي في العالم العربي وتحدي النجاح الذي يواجه الإسلاميين. * من أجل المحافظة على كرسيه في مواجهة حركة النهضة الإسلامية اتبع زين العابدين بن علي استراتيجية تجفيف المنابع التي تُرجمت على أرض الواقع إلى محاربة الإسلام نفسه الذي يعمل له التيار الإسلامي ويتغذى منه. فحارب الحجاب وصُنِّف العاملون في مختلف مؤسسات الدولة على أساس أدائهم للصلاة واعتيادهم المساجد. وقُدِّم للترقيات والمناصب الموظفون الأكثر جرأة على تحدي شرائع الدين والأكثر عدوانية ضد الإسلاميين. وأُزيلت كلُّ مرجعية للشريعة الإسلامية في المنظومة القانونية التونسية حتى التي تتعلق بالأحوال الشخصية. ولكن بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن، وعند أول فرصة للتعبير الحر بلا خوف ولا وجل في انتخابات المجلس التأسيسي، اتجه غالبية التونسيين إلى حماية هويتهم وصيانتها. فأقصوا إقصاء مُدوِّيا كلَّ الأحزاب العلمانية المتشددة التي أرادت أن تفرض قطبية ثنائية بينها وبين حركة النهضة، باعتبارها ذات مرجعية إسلامية، مثل الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يرأسه نجيب الشابي وأحزاب القطب الديمقراطي الحداثي الذي يتزعمه حزب التجديد الشيوعي. وفي نفس الوقت رفع الناخبُ التونسي للمقام الأول الحزبَ الذي يرمز للهوية الإسلامية وهو حركة النهضة، واختار من الأحزاب غير الإسلامية بعد ذلك تلك التي أقرّت الانتماء الإسلامي للدولة التونسية مثل حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يرأسه منصف المرزوقي وحزب التكتل من أجل العمل والحريات الذي يتزعمه مصطفى بن جعفر. لقد بيّنت هذه الظاهرة بأن الإسلام غير قابل للاستئصال في بلادنا وأن الذين يحاولون المحافظة على كراسيهم بمواجهة الإسلاميين بواسطة ضرب الإسلام نفسه أو إخراجه من الحياة ليكون مجرد طقوس تعبدية خالية من أي بعد حضاري نهضوي وتنموي واهمون وهم يعملون لحتفهم ولتقوية خصومهم طال الزمن أو قصر. لقد أضحى جليا من خلال التطورات القائمة في البلاد العربية والإسلامية بشكل عام، وفي البلاد التي وقعت فيها ثورات وتحولات جذرية بشكل خاص، بأن الدولة العلمانية قد دالت، وأن الدائرة دارت لصالح المشروع الإسلامي، وأن الصراع المرير بين العلمانيين والإسلاميين في بلاد العرب والمسلمين سكن في سِجل التاريخ، ولن يكون موضوعا في المنافسة السياسية في العهد القادم. لم يصبح ممكنا محاربة التيار الإسلامي بإنهاء أو تقليص دور الإسلام في الحياة العامة، ولا بد من طريقة جديدة لمنع الإسلاميين من احتكار الإسلام والاستقواء به في المنافسة السياسية. على القوى الفكرية والسياسية والاجتماعية في الوطن العربي التي تخشى المرجعية الإسلامية للإسلاميين أن تنافسهم عليها وأن تتفوق عليهم في خدمتها. لقد صار اليوم جليا بأن منع هذا الاحتكار لن يكون إلا إذا تبنى الجميع المرجعية الإسلامية، لتصبح المنافسة في المسرح السياسي بين فهم البشر للإسلام وطرائقه في تحقيق التنمية والحرية والعدالة، ضمن هوية موحدة للدولة والمجتمع تكون محل إجماع بين المتنافسين على الحكم. وحينما يتحقق ذلك ستتحقق النهضة المنشودة وتزول المكابح التي تمنع الانطلاق. إن حالة التردد والتجاذب بين المشروعين العلماني والإسلامي تسببت كثيرا في إعاقة الأمة العربية والإسلامية، لقد صنعت صراعا سياسيا مغشوشا على الحكم غابت فيه الكفاءة والعقلانية، واستُغلت فيه العلمانية كما استغل الدين، واستُعمل كلاهما كمطيّة من أجل الوصول أو البقاء في السلطة. ومهما طال زمن ذلك الصراع النكد لن يحسم لصالح العلمانية كما بينته التجربتان التونسية اليوم والتركية بالأمس. لقد وُلدت العلمانية في بيئة غير بيئتنا، وكانت ولادتها في القرون الوسطى في أوربا تطورا طبيعيا لصراع دام بين الدين والسياسة وبين العقل والوحي لم تشهده أمّتُنا. لقد كانا لُبوس الدين ومزاعم الوحي في البلاد المسيحية آنذاك هما المُعتدِيان على العقل والسياسة، ولا يمكن لأي إنسان سويٍّ وعاقلٍ إلا أن يكون مع العلمانية في ذلك الزمان والمكان. ومهما ذكرنا من سلبياتٍ في التاريخ السياسي والعلمي لأمتنا، فإن الدين الإسلامي كان دائما هو سبب النهضة العربية ومجدها وقوتها وتطورها. ولم يشهد تاريخ العرب زمانًا كان الدينُ فيه غائبا عن الحياة كما هو وضعنا اليوم وكان حالهم في نفس الوقت إلى خير وتوفيق ونجاح. فهل سيكون العهد الذي أَذِنت به الثورات العربية فرصة الأمة الجديدة لتفجير طاقاتها وإبداعاتها في ظل هويتها ورسالتها، بلا مصادمة لضميرها ولا تنطُّع باسم دينها.. في جو الحرية والديمقراطية والأمن الاجتماعي والسكينة النفسية. لا يمكن القول بأن النتيجة التي وصلنا إليها على صعيد الهوية في العمل السياسي سببها فقط خسارة العلمانيين في الانتخابات. لقد ساهمت المجهودات الكبيرة التي بذلتها الحركة الإسلامية الوسطية على الصعيد الفكري والسياسي مساهمة كبيرة في تهدئة أجواء الصراع وتقليل منسوب المخاوف وتنسيب فكرة التنافس السياسي على أساس الدين. لقد شهدنا تطورا كبيرا لأداء الإسلاميين وخطابهم في مجالات كثيرة، كالحريات والديمقراطية، والتداول على السلطة، والمشاركة مع الغير، وحقوق الإنسان، وحرية المرأة وغير ذلك. ولئن لم تظهر هذه التطورات بشكل واضح من قبل ولم يُقِر بها الغير فذلك لأنها بقيت في أغلبها مجرد أفكار على أوراقٍ في كتب المفكرين الإسلاميين، ولم تُتح الفرصةٌ لهؤلاء وأتباعهم ليتناولوا أدوات الحكم بأيديهم ولتكون لهم الأغلبية في مؤسسات الدولة في جو من الهدوء والسكينة حتى يتمكنوا من إظهار صدقية ومصداقية أفكارهم الجديدة، كما كان الحال في تركيا، وكما هو الحال اليوم في تونس التي أقر الجميع فيها بنجاح حركة النهضة ولم يهدد أحد في الداخل والخارج بالانقلاب عليها أو عدم التعامل معها. إن وصول حركة النهضة للحكم هو الامتحان الأول الحقيقي للتيار الإسلامي في البلاد العربية في مجال الحكم وإدارة الشأن العام وضمان التنمية وديمومة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة واحترام الحريات. لا شك أن شخصية راشد الغنوشي تدفع إلى كثير من الاطمئنان، باعتباره مفكرا حسم خياراته منذ زمن طويل عبر كتاباته القديمة ومواقفه الواضحة، ولكن مجال العمل غير مجال التنظير فهل تستطيع حركة النهضة أن تعطي أخيرا النموذج الناجح للمشروع الإسلامي العصري المتجدد لتجعل تونس رائدة أولا في الثورة ورائدة ثانيا في الديموقراطية ورائدة ثالثا في الحكم الراشد في ظل هوية الأمة وسيادتها وثوابتها..... اللهم آمين.