حينما كان الجيش الإسرائيلي يكسر كاميرات الصحفيين و يحجزهم بعيدا عن ميدان العمليات فإنه كان على علم أن الكاميرا تناضل مثل الإنسان وأنها قد صارت جزء من الانتفاضة على حد تعبير على الله الغدامي، و حين كان الأمريكيون في حرب الخليج يسيطرون على تدفق الصور لخلق مشهد إعلامي يتسق مع ترويجهم لعبارة الحرب النظيفة ، كانوا على علم أن انتشار مشاهد القتلى و الجرحى من شأنه أن يكشف صنيعهم للعالم ، و يؤلب عليهم الجماهير داخل أمريكا و خارجها فتتعالى أصوات تنادي بوقف الحرب ، لقد اتضح آنذاك أن لا سلطة تعلو فوق سلطة الصورة ، لذا سعت أمريكا للسيطرة على الصور لخلق مشهد إعلامي يتسق و سياساتها ، فعمدوا إلى تغييب البعد الإنساني للحرب ، فغدت حربا دون ضحايا و بلا صور ، أو حربا لم تحدّث أبدا كما وصفها جون بودريارد . * إن أمريكا حين كانت تحرم التقاط الصور في العراق و في أفغانستان وعندما كانت تمنح امتياز تغطية الحرب لقناتها CNN كي تضمن لها التغطية الإعلامية التي تناسبها و تخدمها ، كانت تخاف فعلا من الصور التي تفضح حقيقتها للرأي العام ، إسرائيل أيضا حين كانت تلاحق الصحفيين و تصادر كاميراتهم و تغتالهم أحيانا كانت أيضا تخاف من الصور حتى لا تنكشف فضائعها و جرائمها أمام الرأي العام أيضا. * ليس فقط أمريكا أو إسرائيل من يتوجس من الصورة، و إن كان هذا الخوف التقليدي لدى هاتين الدولتين يدخل في صميم فلسفة الهيمنة لديها ، فهي تعد أدوات لممارسة التضليل الإعلامي لديها وجب السيطرة عليها . * الدول العربية أيضا كانت مهووسة بمحاصرة الصور و تحريمها و منعها على مدى عقود من الزمن ، فكان المواطن في أية دولة عربية خاضعا للإعلام الرسمي العمومي ، الذي يحدّث بانجازات الرؤساء و الزعماء ، و يكتم أصوات المقهورين والمستضعفين ، فكان الفضاء العام مصادرا لصالح الأنظمة يسبح بحمدهم ليل نهار ، و حين كان المواطن العربي في تونس أو مصر أو ليبيا أو في أية دولة أخرى يتظاهر أو يحتج مبديا سخطه أو جزعه كان فمه يربط بعقال حتى لا ينطق بما لا يرضي الأنظمة ، كما كان يحدث للشاعر العربي عبد يغوث الحارثي الذي كان يربط فمه بخيط نعل حتى يمنعوه عن قول الشعر ، فلا لا يسمع له صوت أو حس أو خبر كما يقول إخواننا المصريون . * إن الانتفاضات التي عرفتها مصر و تونس في السبعينات و الجزائر و تونس وسوريا في الثمانينات هي ثورات قوية لكن لم تدم طويلا فهي قوبلت بآلة النظام القمعية ، أيضا في نفس الوقت لم تحظى بالمشهدية الإعلامية ، أي كانت ثورات محصورة مكانيا ، لأن الإعلام الكلاسيكي بطبيعة الحال (التلفزيون ، الصحافة المكتوبة والإذاعة) كان محتكرا من قبل الأنظمة ودائما ما كان يصور المتظاهرين على أنهم حفنة من الرعاع المفسدين ، فلم تكن هناك فضاءات إعلامية بديلة حتى تبث مشاهد مصورة تنقل ما كان يحدث فعلا ، أو ترسم الواقع كما كان فعلا ، لا كما كان يصوره إعلام النظام التضليلي ، لذا لم تجد تلك الثورات صدى لدى الرأي العام ، و الرأي العام بطبيعة الحال يستمد وعيه بالواقع مما تنقله وسائل الإعلام على حد تعبير بودريارد ، سواء كان رأيا صائبا أو مزيفا. * إن ظهور الإعلام الجديد أطلق العنان للمشهدية الإعلامية فلم تعد حكرا على الإعلام الرسمي ، الذي استأثر بوسائل الإعلام و بحق الظهور فيها ، بل بدأت الصور تظهر الحقائق فعلا بعد أن كانت تقتلها و تزيفها ، لقد فارق الإعلام الاجتماعي الفضاء العام المحتكر و انتقل إلى فضاء جديد انهارت فيه الصفوة الإعلامية و حلت محلها صفوة جديدة صغيرة السن هم الشباب كما يقول نيكولاس نيغروبونتي، لقد كشف الإعلام الجديد عن نضالية الشباب العربي و أعطاهم قدرة على ابتكار أنماط جديدة من التعبير عن هوياتها و ذواتها كالتدوين ، والانضمام إلى شبكات الإعلام الاجتماعي مثل الفايسبوك ، التويتر ... * لقد قضت فئة الشباب على انغلاقية الأنظمة السياسية في الدول العربية على حد وصف الباحث التونسي صادق الحمامي ، و حررت الفضاء العمومي من سيطرة المؤسسات السياسية الجامدة كالأحزاب ، الجمعيات ، و المنظمات ...التي عجزت إيديولوجيا وعمليا على تأطير المجال العمومي و التعبير عن اهتمامات الناس و إيصالها إلى الطبقة الحاكمة. * لقد أعاد الشباب العربي تشكيل فضاءات النقاش العمومي ، فأصبحوا هم من يصنع الحدث ، و هم من يرتب أجندات وسائل الإعلام ، بعد أن كانوا مغيبين عن الفضاء العمومي التقليدي لسنوات طوال ، إذ أظهرت لنا الثورات العربية أن هؤلاء الشباب باستخدامهم لأدوات الإعلام الجديد استطاعوا أن يتحدوا السلطات الحاكمة و أن يعيدوا ترسيم حدود المعرفة في تحديد من يمكنه أن يعرف ماذا، وما يمكن إخفاؤه وما يتوجّب كشفه، فلم يعد الإعلام العربي الرسمي يستطيع أن يخفي الحقائق أو يزيفها ، لأن أعين الشباب بكاميراتهم و بهواتفهم المحمولة ترصد و تراقب ، و لم يعد النظام يستطيع أن يقمع المتظاهرين أو يعتقلهم لأن مواقع التواصل الاجتماعي كاليوتوب و الفايسبوك ستكشفهم لا محال ، كما حدث مع الفتاة المصرية التي تم سحلها أمام شارع مجلس الوزراء ، و التي أثارت قضيتها جدلا واسعا في مصر وفي كل دول العالم. * لقد سقطت بالفعل رمزية الأنظمة العربية في زمن الإعلام الاجتماعي و تلاشت النخب السياسية و الثقافية و الاقتصادية و فقدت دورها القيادي و الريادي ، و حلت محلها نجوم رمزية جديدة هم شباب كانوا مغمورين في السابق كشباب ميدان التحرير ، أو المدونين التونسيين ، أو شباب اليمن الذين غيروا قوانين صناعة الثورات و غدوا هم من يصنع الثورة ، فألهموا كل شباب المنطقة العربية من حولهم ليفجروا فجرا إنسانيا جديدا في المنطقة العربية أعلت فيه التكنولوجيا من قوة الشخصية العربية فأصبحت شخصية تحررية ترفض الهيمنة والاستبداد . * وإذا كانت الشعوب العربية سابقا عانت كثيرا في صمت لم يحدّث أبدا على حد تعبير بودريارد ، لأن الصور لم تكن تحدّث عن معاناتهم و عذابهم ، بسبب أن الإعلام كان بيد من يمارس هذا العذاب ، فالإعلام الجديد لم يعد يسكت عن الحديث ، بل إن الصور و المشاهد أصبحت جزء من الثورة ، أضحت بدورها تناضل كما يناضل كل الشباب العربي. * * أستاذ جامعي في الإعلام