بعد صلاة جمعة الرحيل في ميدان التحرير بالقاهرة لم يعد من الناحية الجوهرية مهما يكن الرئيس المصري حسني مبارك قد غادر القصر الجمهوري أم بقي فيه.. ذلك أن الرحيل رحيله ورحيل نظام كامب ديفيد الذي يترأسه قد أنجز تاريخيا منذ أن خرج الشباب المصري في 25 يناير الماضي، ففي ذلك اليوم أكد هذا الشباب على سقوط التحالف المافياوي بين السلطة والثروة وكلاهما في الوطن العربي يشترك في الجهل، فالحكام عندنا جهلة حقيقيون والأثرياء اكثر جهلا، وقد أسقط الشاب التونسي محمد البوعزيزي وشباب الأنترنيت التونسي هذا التحالف بين السلطة والثروة وقاسمهما المشترك الجهل. وقد ارتعد النظام العربي المكون من تحالف الجهلاء، ليس في مصر وحدها بل في كل العالم العربي، إرتعد من حركة الشباب العربي وبدأ رحلته في التخبط في محاولة تكسير حركة الشباب المصري فقام بهجمة مرتدة صفتها الأولى الهمجية في الضرب ووسائل القرون الوسطي من الهجانة والفرسان واللصوص والعسس وفي قطع لسان الصحفيين وسمل عيون العالم.. فقد ضاق النظام العربي الجاهل بكل العصر ومستجداته فلم يقف عند حجز الصحفيين ومنهم زميلتنا الشابة ميساء الطويل ابنة صديقنا المناضل الطبيب العربي - الأمريكي خلف الطويل موفدة قناة ''الجزيرة'' إلى القاهرة بل توغل مرتدا إلى القرون الوسطى وأحضر فرق الشرطة الصحراوية الهجانة على الإبل وفرق الفرسان على خيول وحمير العهد العثماني.. ومن أساليب الهجمة المرتدة أن حسني مبارك استجدى دول المتروبول بتعيينه لرجلها عمر سليمان، فعمر سليمان هذا هو الذي أبلغ الإدارة الأمريكية، قبل 8 أيام من وقوع أحداث 11 سبتمبر ,2001 بأن ''أسامة بن لادن وتنظيمه يخططان لشيء كبير جداً ضدكم''. ولم تأبه واشنطن بكلامه، ولكنها بعد ذلك جعلته من أهم عيونها في المنطقة وقوت موقعه في مصر ولم تلتفت إلى تقارير سفيرها في القاهرة ''وولكر'' عن سلوك سليمان وجهازه الحافل بالتعذيب وبخرق حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، وظل يدير الملفات الأمنية الكبرى في المنطقة مثل الملف الإسلامي وملف الحفاظ على الأمن الإسرائيلي. وفي سبيل ذلك قام سليمان بتشكيل خلايا لإثارة القلاقل في دول المغرب العربي والمشرق العربي وفي إيران، وهو الذي يقف وراء صفقة بيع الغاز الإسرائيلي لمصر بأقل من سعره الحقيقي، وتحفظ إسرائيل له جميل أنه أول من أهان ياسر عرفات وأسهم في حصاره بمقره في رام الله، وأنه هو الذي يؤلف حكومات محمود عباس، وأنه سعى لتركيع حركة حماس في غزة، ولايزال يحاصر الفلسطينيين الغزاويين بجدار الفولاذ؛ لذلك لا تذكره الصحافة الإسرائيلية إلا مع كثير من الإطراء، وكانت ترى فيه خليفة مبارك فعلا.. وها هو مبارك في محاولة أخيرة للحفاظ على كامب ديفيد يسلمه القيادة العلنية في هجمة مرتدة منه على الشباب المصري الثائر على هذا النظام. وطبعا كان مبارك يعتقد أن هذا التعيين سيلقى قبولا من دول المتروبول وإسرائيل والدول العربية. لكن الوقائع تقول أن هذه الدول تعاني من رعدة شديدة أصابها بها الشباب العربي في كل من تونس ومصر على التوالي، ولم تعد تأمن على نفسها من أن يقوم شبابها نفسه بهجمة شبيهة.. لذلك لم تفكر بإغاثة نظام كامب ديفيد بقدر ما اهتمت وتهتم بتجنيب نفسها المصير نفسه. وهو مصير مرتبط باتفاق كامب ديفيد نفسه، وفي كل الأحوال فإن كل أطراف كامب ديفيد سواء منها الأطراف العلنية أو السرية لم تعد ذات مستقبل، فنظام زين العابدين الذي كان طرفا سريا كان هو أول الساقطين، وسببا انكشافا للنظام السعودي الذي فشل في تحقيق صياغة جديدة لكامب ديفيد وسيتبين هذا النظام حجم الخطأ الذي ارتكبه في الآونة الأخيرة سواء باستضافة زين العابدين أو بالسكوت عن حركة الشباب في مصر.. وها هو النظام الملكي في الأردن يحاول أن يلتف على أية حركة شبابية شعبية ضده فيغير الحكومة.. لكنه يفعل ما فعله مبارك بالضبط، فيكلف سفيره السابق في تل أبيب معروف البخيت بتشكيل هذه الحكومة، وهكذا قام بإغلا ق حجارة الدومينو على نفسه.. ولا أعتقد أن ملك الأردن يستطيع أن يجد حماية من أخواله الإنجليز حيث عائلة أمه طوني غاردنر، ولا من إسرائيل الغارقة في التفكير في مستقبلها.. ذلك أن حركة شباب تونس وحركة شباب مصر منعت من الناحية الجوهرية إمكانية تقدم أي نظام عربي بخطوة سرية أو علنية نحو إسرائيل، فالبوعزيزي التونسي لم يحرق نفسه فقط بل حرق جميع الدكتاتوريات العربية التي تحمي إسرائيل.. وبالتالي فعلى الإسرائيليين أن يفكروا جديا بمستقبلهم. ذلك أنهم واجهوا منذ 1967 حتى الآن 2011 ثلاث حركات شبابية متميزة في العالم العربي: - أولها: حركة رفض الشباب العربي المصري استقالة جمال عبد الناصر عام 1967 وعدم إحداث أي فراغ وأن عليه التخلص من متخاذلي نظامه والإعداد للثأر من إسرائيل، وفعلها جمال عبد الناصر وتخلص من المتخاذلين وفسح المجال واسعا للشباب وخاصة شباب الجامعات في الجيش واستعد للمعركة المنتظرة، وقد حصل الشباب المصري على تأييد واسع له في صفوف الشباب العربي مشرقا ومغربا فرفض استقالة جمال عبد الناصر وانطلق متطوعا في حركة الكفاح الفلسطيني. - ثانيتها: واجهت إسرائيل حركة الشباب العربي في أكتوبر,1973 فالشباب العربي أظهر كفاءة قتالية عالية في تلك الحرب سواء على جبهة السويس حيث العبور أو على جبهة الجولان وترنح الجيش الإسرائيلي فعلا.. ولم تنقذه سوى دول المتروبول وبقايا المتخاذلين الذين توفي عبد الناصر قبل التخلص منهم. - ثالثتها: حركة شباب البوعزيزي التونسي التي امتدت إلى مصر وهي حركة تمتاز بأنها تتكون من شباب صاحب كفاءة تكتنولوجية متفتحة ووعي سياسي متقدم، ولا يعتمد على المكافاة فهو شباب محروم حتى من حق العمل.. وبالتالي فهو لم يستفد لا من أموال النفط ولا من أموال المتروبول والدول المانحة أي أنه يجمع بين الكفاءة والفقر ويواجه بهما سطوة زواج الثروة والسلطة.. وبالتالي فإن إسرائيل ومعها أنظمة الغرب تجد نفسها أمام ضرورة إيجاد وسائل غير تقليدية لحماية مستقبلها. فمن الواضح أن شباب الكفاءة والفقر في مصر وفي الوطن العربي أدركوا تماما أن فقرهم هو صناعة سياسية من أهل الثروة والسلطة ولم تعد تجوز عليهم حكاية أن السلطة يمكنها حل مشكلة فقرهم لذلك هم يصرون على رحيل هذه الأنظمة برمتها لأنه برحيلها سيرحل الفقر معها، فالخلاص من الفقر يعني الخلاص من سياسة أنظمة كامب ديفيد وعدم القبول بالترقيعات أوالإستدراكيات. ولعل هذا معنى مطالبة الشباب بمحاكمة حسني مبارك وإعدامه، فلم يعد مسموحا لإيران أو أمريكا أن تعيد ما فعلتاه بصدام حسين في العراق، فمحاكمة رأس أي نظام عربي هو من اختصاص الشعب العربي لا غير. وقد حصل شباب تونس وشباب مصر على إجماع من الشباب العربي لم يحصل عليه أحد في العقود الثلاثة الماضية سوى حسين نصر الله تحت عنوان مقاومة الصهيونية، ولكنه لم يعرف كيف يحافظ عليها ويطورها نظرا لمرجعيته الطائفية وغير القومية. ويبدو أن دول المتروبول وبعض دول الإقليم تريد أن تركب حركة الشباب في مصر.. وتبدو أمريكا أكثر دول المتروبول حرجا، فضباط أمريكا في الجيش المصري يتحركون في بطء شديد لركب هذه الحركة ويعكسون بذلك انقساما في المؤسسة العسكرية التي أبعدها ساسة نظام كامب ديفيد عن الثروة وعن القيم الوطنية.. لذلك وجدنا المشير الطنطاوي يضع قدما في ميدان التحرير وقدما في القصر الجمهوري. ومهما يكن من أمر فإن الذي حدث في تونس ويحدث في اليمن وغيرها من البلدان العربية يؤكد ما يلي: - 1أن سلطة التزاوج بين القوة والثروة وصلت إلى أفق مسدود في الوطن العربي ولم يعد بإمكانها الإعتماد لا على المال العربي ولا العقل اليهودي ولا على ازدواجية النظام العالمي، فهذه الأطراف كلها تعاني من مشاكل كبيرة. - 2 أن شباب الكفاءة والفقر لا يثقون بأحد من القوى السياسية السرية والمعلنة، الدينية أو التغريبية أو المحلية، فلا يمثلهم بن لادن ولا بديع ولا الغنوشي ولا آل سعود ولا الحوثيون ولا السيستاني ولا خامنئي، كما لا يمثلهم البرادعي الذي يريد أن يتسلل إليهم من باب الكفاءة، ولا منصف المرزوقي. وهكذا يدخل الصراع العربي مع العدو الغربي (الأمريكي اليهودي الأوربي) مرحلة جديدة ليس فيها أي ضمان قصير المدى أو متوسط لمصالح هذا العدو سوى أن يتخلى عن فكرتين أساسيتين هما فكرة الإستعمار برمتهما، وفكرة الصهيونية بكل مشاريعها.. ومن غير هذا التخلي فإن التحالف العربي مع الدول الآسيوية الناهضة وعلى رأسها الصين ستملأ المشهد متحالفة مع قوى أمريكا اللتينية.. وستبدو هذه الصورة أكثر من قريبة لو فاجأتنا الأخبار صباح يوم قريب بتحرك للشباب المغربي ضد المخزن أو لشباب الجزيرة ضد آل سعود. فساعتئذ يمكننا القول أن العرب أثروا في الفكر السياسي الغربي المعاصر وبأدواته الحضارية، فمن الواضح أن شباب مصر أكد على أن شباب تونس بدأ عهدا جديدا في الأمة العربية وفي العلاقات الدولية.. لقد كان يوم استشهاد البوعزيزي يوم لا ينتهي، فهل تفهم الجهل المكون من السلطة والثروة العربية.. أعتقد أن أوانه قد فات وورقته سقطت، وسيكون ذكيا لو استطاع أن يرتب جنازته فيوم جمعة الرحيل وصلاة ميدان التحرير علامة فارقة بين عهدين لمن يفهم.