المثلث الجيوسياسي الاستراتيجي: البعد التاريخي، والموقع الجغرافي، وإمكانات الحاضر، ثلاثة عوامل تعتبر أساسا في تشكيل توازن جيوسياسي لمنطقة المشرق العربي الإسلامي.. كما تعتبر أسّ تحديد الدور الإقليمي لكل بلد من البلدان الثلاثة في المستقبل القريب.. فلقد عاشت البلدان الثلاثة منذ زمن بعيد حالات تقارب وتنافس وتبادل مواقع في مثلث جغرافي تاريخي ظل على مدار القرون منذ العلاقات الحيثية - الأشورية - المصرية، وصولا الى العلاقات العثمانية المملوكية الصفوية.. وظلت هذه البلدان على طول تاريخنا العربي الإسلامي عواصم الفعل الحضاري ومخزون القوى الذي أسند الأمة بمدد جديد من العمر كلما تعرضت الفكرة الإسلامية الجامعة إلى اهتزاز أو سقوط.. ولقد ظهرت الدولة المصرية والإيرانية والتركية كأبرز كيانات سياسية عندما انهار النظام السياسي الإسلامي.. فعلى المستوى التاريخي السياسي لم تذب هذه الكيانات أو تفقد شخصيتها وتقاليدها الخاصة في الحضور السياسي والثقافي، رغم أنها انسجمت في السياق العام للكيان الحضاري الإسلامي.. * وتمثل الجغرافيا التي تقع هذه البلدان الثلاث على أطراف مثلثها موقعا غاية في الخصوصية الكونية فهي تمسك بتلابيب القارات الثلاث وبأهم المضائق المائية ومواقع النفوذ الحساسة.. فلئن كانت تركيا مركز التفاف البلدان الإسلامية العثمانية فإن إيران بوابة الشرق الإسلامي كما أن مصر بوابة العالم العربي على الأقل في شمال إفريقيا.. صحيح أن مصر محفوفة بجناحي الأمة في العراق والجزائر وهما ضمانتا صمود مصر وعلو شأن العرب ولا مستقبل لمصر والعرب بدونهما وفي هذا المشهد يتضح أن كل البلدان العربية التي تقع في وسط المركز كبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية تجد نفسها في غياب الدولة المركزية الواحدة مضطرة أو مختارة إلى الانحياز لأحد أقطاب المثلث في حال تنافر اتجاه القوة فيما بينها.. وواقعة في أتون العلاقات بين أطرافه أو مدفوعة إلى القفز نحو الغرب مستقوية به ضد استبداد الجغرافيا مقدمة تنازلات كبيرة إلى حد الارتباط العضوي بالمشروع الغربي.. وكلما صغر حجم البلد وقلت إمكاناته ك(فلسطين ولبنان والاردن وسوريا) أصبح عرضة أكثر لكي يكون انعكاسا للتجاذبات الاقليمية والدولية وعدم القدرة على الاستقرار على حال. ويتمتع كل بلد من البلدان الثلاثة (إيران ومصر وتركيا) بخاصية تجعل منه قدرة متجددة على الحضور غير قابلة للتغييب مهما كانت قوة العوامل الخارجية أو المشاريع الداخل الاسلامي فالبلدان الثلاث ملتقى التجارات ومهد حضارات ومركز التفاف إقليمي ويقع في إطار نفوذ كل منها مواقع استراتيجية اقتصادية وأمنية تمنحها مزيدا من أوراق اللعب الإقليمي والدولي. ولكن لابد من التركيز على معطيات التاريخ في دائرة المشاريع الاقليمية لهذه البلدان، حيث تتجلى حقيقة انه كلما كانت نهضة إقليمية في مشروع إقليمي كانت النتيجة التمزق والتناحر في أقطاب المثلث وتكون ضاعت المنطقة المتوسطة داخل المثلث.. والملاحظة الأخرى والتي هي حقيقة تاريخية كذلك، أنه عندما تنمو المشاريع القومية والاقليمية إنما تنمو على أنقاض الفكرة الجامعة وتفكك شبكة العلاقات الحضارية بين الاقطاب الثلاثة التي تعبر عن وحدة الأمة.. ويتمتع كل بلد من هذه البلدان بجنوح قومي أو وطني يتضخم عندما يصيب الوهن الرابط الحضاري للأمة الواحدة المتمثل في الرابط العقائدي والقيمي الخاص بالأمة.
المشاريع الغربية في المثلث الجيوسياسي: ولخطورة هذا المثلث الجيوسياسي ودوره في العالم الإسلامي، عمدت السياسات الغربية إلى محاولات دءوبة لتفتيته وتحويل قواه إلى اتجاهات متناقضة لتكون محصلتها دائما في السالب.. وبدأت حملة التشتيت لمكونات البلد الثقافية والاجتماعية في هذه البلدان في فترة زمنية واحدة وعلى نفس الوتيرة، حيث بدأ تكوين طلائع التغريب والعلمنة والنزعات القومية في القاهرة واسطنبول وطهران في خطوط متوازية متسابقة. وأشرفت المؤسسات الغربية على هذه العملية الضخمة واعتمدت لها إمكانات وفيرة، هذه العملية التي أنتجت رموزا ومنشآت ودور نشر انبثق عنها أحزاب ونخب ثقافية وسياسية كرست حالة الانشطار وأعطت مسوغات جديدة للدولة العصرية الباحثة عن دورها ومصلحتها القطرية في معزل عن إدراك علاقة دورها الاستراتيجية بقطبي المثلث الآخرين أو ضمن سياق حركة الأمة العام.. وبعد أن تمكنت حركات التغريب من السيطرة على مقاليد الحكم والسياسة على الأقل في اسطمبول وطهران ووجهتهما ضد مصالح الأمة وفي اتجاه خدمة المصالح الغربية الاستراتيجية وعلى رأسها وجود إسرائيل وأمنها وتفوقها وتهديد المنطقة العربية من خلال القواعد العسكرية الغربية على أراضيها ومن خلال سياساتها القومية الاستعلائية. وكانت القاهرة آخر معاقل المثلث صمودا ضد محاولات الاحتواء، حيث مثلت الفترة الناصرية خروجا إلى حد بعيد عن سياق الاستراتيجية الغربية رغم تعثرها في مواجهة المشروع الغربي في الحلقة الصهيونية.. إلا ان فترة الحكم المصري الأخيرة منذ كامب ديفد جاءت لتلقي بمصر في قلب أدوات المشروع الغربي ضد عناصر القوة في الأمة، كما حصل في موضوع العراق وإيرانوفلسطين..
التصادم والفراغ السياسي: وفي إطار لعبة تبادل الادوار أو طغيان إقليم على أدوار الاقاليم الاخرى، شهدت المنطقة فراغا مذهلا لدور مصر بعد أن نأى بها النظام السابق عن مكانتها وحرف توجهاتها.. وتحرك القطبان الاخران الايراني خلال ثلاثين سنة والتركي في السنوات العشرة الاخيرة.. وبعد ثورة 25 يناير المصرية هاهي مصر تتحسس الخطوات نحو استعادة دورها الاقليمي وستجد انسجاما مع القطبين الاخيرين للتقارب الايديولوجي معهما مع الافتراق السياسي الواضح مع القطب الايراني.. وستظل العلاقة بين الأقطاب دون مستوى المشروع الواحد مادامت إيران وتركيا تبحثان عن أدوار اقليمية قومية.. ومع أن إيران أكثر اقترابا من عناصر مشروع الأمة الواحد لما تطرحه من رؤية إسلامية راديكالية ولما لها من مواقف سياسية تتحلى باستقلالية كبيرة عن السياسات الغربية، لاسيما في الموضوع الفلسطيني.. مما يعني بوضوح احتمالات تصادم بين الاقطاب مرة أخرى إذا لم تحسم مصر خياراتها لاسيما في الموضوع الفلسطيني والعلاقة مع السياسات الامريكية في المنطقة.. صحيح أن الانتماء الفقهي لمصر يلتقي مع تركيا ولكن بالضرورة أن يكون انتماؤها السياسي يلتقي مع إيران وهنا سيتضح حجم الادراك من عدمه، هل نغلب الحس الطائفي أم نغلب مصلحة الأمة؟
فلسطين مرة أخرى: تبرز فلسطين مرة أخرى كقوة ناظمة لمشروع الأمة الذي يبدو بلا لون ولا طعم ولا رائحة إن هو تخلى عن جعل القدس لما لها من قيمة روحية قادرة على صنع القيم الإيجابية ولما لها من قدرة على كشف مخططات الاعداء وحجم قوتهم ولما لها من قدرة على الدفع لتوجيه الطاقات والقدرات نحو هدف كبير سام. ستظل الإقطاب الثلاثة متنافرة غير قادرة على الاقتراب الحقيقي من إمكانية بناء كتلة إسلامية ذات رسالة وفي ظل هذا الحديث يبدو كم هو هزيل الحديث عن بدائل صناعة القوة من شعارات فارغة عن الديمقراطية هدية الغرب الاخيرة لنا.. وهكذا نكتشف أن كل مطالبنا واستحقاقات كفاحنا تصبح كلمة حق يراد بها باطل ما لم تكن ضمن سياقها الطبيعي في توحيد الأقطاب مع المتوسط في المثلث حول مشروع واحد واضح يدور حول القدس.