قبل عشرة أشهر من الآن كان وزير الخارجية مراد مدلسي قد حذر من مخاطر التدخل الأجنبي التي باتت تحدق بمنطقة الساحل، ولعل ذلك الارتياب في نوايا القوى الكبرى هو الذي دفع الجزائر إلى التركيز على وضع أسس تنسيق إقليمي لمواجهة التحديات الأمنية دون فتح الباب أمام القوى الخارجية التي تضع عينها على ثروات المنطقة. من جملة ما قاله مدلسي في مطلع السنة الجارية : "منطقة الساحل لا ينبغي أن تكون محل تغطية إعلامية مبالغ فيها كما نحاول القيام به بإفراط. دول الساحل مجموعة من البلدان لها مستقبل، وتتوفر على ثروات طبيعية، وعلينا العمل من أجل أن تحل بلدان الساحل مشاكلها بنفسها"، والحديث عن التغطية الإعلامية "المفرطة" التي تقوم بها وسائل إعلام أجنبية، وتتبعها في ذلك وسائل الإعلام المحلية بكل سذاجة، لمنطقة الساحل، يحمل إشارة إلى أن هذه التغطية تشوه الحقائق القائمة على الأرض، وتخفي في المقابل نوايا غير بريئة من جانب بعض القوى الدولية التي تبدي مزيدا من الاهتمام بهذه المنطقة، ومن الواضح أن هذا الاهتمام يستند في جزء منه إلى الرغبة في السيطرة على ثروات هذه البلدان، ويقول الوزير بكل وضوح : "الساحل مجموعة من البلدان لها مستقبل، وتتوفر على ثروات طبيعية"، ومعلوم أن أهم الثروات في هذه الدول ومحيطها المباشر، والجزائر من هذا المحيط المباشر، هي النفط والغاز واليورانيوم، المتوفر بكميات كبيرة جدا في النيجر، والأمر هنا يتعلق باستراتيجيات الدول الكبرى التي تبحث عن تواجد مباشر في المنطقة، ويضاف إلى ذلك الاقتراب بشكل غير مسبوق من احتياطات هائلة من النفط والغاز في الجزائر وليبيا، بالإضافة إلى إمكانية السيطرة على احتياطات محتملة في موريتانيا. في إشارة أخرى ذات دلالة عميقة قال الوزير : " إن بعض الجماعات الإرهابية تنشط في منطقة الساحل مستغلة بذلك اتساع هذه المنطقة وطبيعتها الجغرافية"، وهو ما يعني أن النشاط الإرهابي في المنطقة ليس بالحجم الذي تصوره وسائل الإعلام أو حتى الجهات الرسمية في الغرب، بل إن التهويل جزء من عملية التمهيد للتدخل من خلال إيجاد المبررات، وفي مرحلة لاحقة يأتي الدليل على شكل أرقام بحجم التواجد الإرهابي في المنطقة، فقد نقلت تقارير إعلامية عن أجهزة أمن غربية تقديرات تقول بأن هناك ما بين 300 و 400 إرهابي في منطقة الساحل، وتؤكد هذه الأجهزة تواجد كل الفارين من العدالة وقطاع الطرق في المثلث الحدودي شمالي مالي، وتشير التقديرات الأمنية إلى أن ما بين 20 و40 إرهابي فقط من بين كل هؤلاء لديهم تدريب قتالي ومجهزون بسلاح ويمكنهم التنقل بواسطة سيارات الدفع الرباعي، بينما تفتقر البقية للتجهيز والتسليح. وفي مقابل هذه التقديرات تقدم أجهزة الأمن الجزائرية تقديرات بوجود 108 إرهابي نشيط في المنطقة منهم 21 جزائريا و34 موريتانيا و5 مغاربة و3 من تونس، و6 ليبيين و14 نيجيريا و7 تشاديين و21 ماليا، وهو ما يعني أن التقديرات المتداولة تعكس محاولة تضخيم النشاط الإرهابي لتحقيق أهداف سياسية وجيو استراتيجية من قبل بعض الدول المهتمة بالمنطقة، وأكثر من هذا فإن الجزائر تفطنت إلى محاولات التسلل مبكرا، ومن هنا كان إعلان وزير الداخلية في وقت سابق عن الموقف الرسمي الذي يقوم على نفي وجود تنظيم القاعدة في منطقة الساحل، وهو ما يغلق باب التدويل ويسقط مبرراته، وإلى حد الآن لا يوجد أي دليل يؤكد ارتباط الإرهابيين في الساحل بأي تنظيم خارجي. إبراهيم عبد الله الخيار الذي لجأت إليه الجزائر هو التعاون الإقليمي في مجال مكافحة الإرهاب، وقد تجسد هذا التعاون في إنشاء هيئات مشتركة بين دول المنطقة تعمل على تبادل المعلومات وتنسيق عمليات مكافحة الإرهاب، غير أن هذه الجهود تعرضت لمحاولات تجاوز قامت بها فرنسا على وجه الخصوص، فالاجتماعات الأمنية التي عقدت في الجزائر واجهتها تدخلات وضغوط من قبل فرنسا التي تبحث عن تواجد عسكري على الأرض، وهو أمر ترفضه الجزائر بشدة، ولا هي لا تفرق في هذا الرفض بين فرنسا وأمريكا وأي قوة أجنبية أخرى، ولعل مقاطعة الاجتماع الذي عقدته مجموعة الثماني على مستوى الخبراء ببماكو الأسبوع الماضي إشارة واضحة إلى هذا الإصرار على رفض تسييس القضايا الأمنية أو استعمالها لتحقيق مكاسب، أو اتخاذها مطية لإعادة ترتيب التوازنات الإقليمية بحسب الأهداف التي تتوخاها تلك القوى.