لو يتاح لي أن أعود ثانية إلى تلك الشواطئ لألمح الوجه الذي صيغ من مليون زهرة..فأهديه بعضا من جراحاتي القديمة..وهذا ما أملك...هل ترانا نلتقي أم أنها اللقيا على أرض السراب؟ ثم بانت وتلاشت واستحالت ذكريات للعذاب ؟ أوّلُ الوحي.. اقرأ اقرأ..اقرأ بعضا من حكايات الدراويش الغامضة حين روتها أفئدة تلك النجوم المتثورة فوق سطح الآفاق ..فدونتها وحشة ليلة مقمرة على صفحات الأبدية .. حروفها من رعشة الأحلام .. وململة الأمنيات .. وتشقق الأمال الضائعة .. والآلام الخالدة ..حكايا في ساعات من سَحر ..ينصّب فيها جبروت الذكريات وتتهاوى صروح الغد المبتور .. وتعلو للحاضر معالم حيرة بحجم الأكوان والمجرات .. . اقرأ.. اقرأ..اقرأ المقطع الأخير من قصة مدينة افترشت صدر الماء .. وتوسّدت هضبة مرمرية ..وتوشّحت نخوة شرقية.. وعيناها تصطافان على شواطئ من دموع وخصرها محاط بتلافيف عاجية كسمّ على عسل .. صدر تنفخه الغيرة الناضجة .. صامت دهورا ..فراودت خاتما من نار عن طهرها ..فكانت كفارة خطيئتها صوم الدهر .. لا تقرأ كتاب نبيّ تسلّل إلى قلبه حبّها ورفع عنها القلم .. وقال .. دعوها حتى تستيقظ فإنها .. نائمة ..دعوها حتى تستعيد عقلها إنها مجنونة ..دعوها حتى تبلغ ..إنها0..إنها طفلة ..صغيرة .. نبيّ ضّيعته الرسالة .. خانته الأمانة .. عبدته الأصنام ..طافت حوله الفجائع صلّت خلفه المدائن الساحرة, تركها ساجدة وفرّ من محرابه صوب مدينة أحبها .. شكّلها كما أراد وتمنى ..بناها بشظايا أمنياته الهاوية .. زينها ..بلوحات نفسه الغامضة أسكنها روحه فأسكنوه المنفى ... مدينة أسكنها عينيه الجريحتين وسكبها في مآقيه فأبكوه لتغرق تلك المدينة ..ولكنّ بكاءه كان في داخله وما غرقت ... مدينة مدّ إليها ذراعه كي يأخذ بيدها وتركب ظهر سفينة النجاة ليلة الطوفان فقطعوا ذراعه..سقطت أرضا ..أخذها وضرب بها أعداء المدينة التي تسللت حينها بين خصلات شعره الكثيف ..أضرموا فيه النيران فاشتعل الرأس شيبا .. وفرّت المدينة بطهرها صوب شرفات سمرة وجهه الحزين وأطلّت من شفتيه اللتين كانتا شرفتين نأت عنهما البسمة .. ختموا على الشفاه بنسيج العنكبوت ..حمل مدينته على كتفيه .. نوى الرحيل بها إلى أمكنة بعيدة ..بكت الحمامة التي حاكت عشّها على الأكتاف ... المدينة أو الحمامة .. اختر واحدة وتخلّ عن الثانية ..فحملهما معا يثقلك وجسر حسّك المرهف لن يتحملهما معا ..وإلا فالجميع الى الجحيم .. المدينة في عينك اليمنى والحمامة في عينك اليسرى .. وأنت تسير الآن وحيدا في دروب موحشة .. والليل يمكر بك .. والقمر لاه عنك خلف الغيم .. والنجوم تضاجع التنكر وخيوط الصبح لن تتبين أيها المسافر ..أليس الصبح ببعيد ؟؟..عليك ان تقرأ أيها النبيّ حكاية مدينة غسلت المدائن بطهرها .. ومازالت ممدة على فراش من صفاء.. مدينة تفور منها عيون نقيّة .. مدينة فيها ولدت..وأحببت..وغدرت.. وعنها نفيت وهجّرت .. مدينة قد تعود إليها يوما فتغسّلها من جنابة الفتنة بقطرات زيت زيتونة لا شرقية ولا غربية ..مدينة ..مدينة....جعلتك تعود إلى فراشك باكرا هذه الليلة .. تمتد إليك أنامل النعاس .. فتبدأرحلتك الثامنة .. أوّل الجرح... كان مشتّت الفكر حتى في نومه ،و الكوابيس تطارد أحلامه ،..و تشرد هدوءً طالما تمناه في نفسه الثائرة المعذبة طوال ساعات النهار.. و ينتفض فجأة في سريره الخشبي على صوت الرّعد المدوّي..و كأنّ زلزالا مدمّرا أتى على المدينة ومن فيها يطلب ثأرا ..تملكه الخوف و استولت عليه الدّهشة و الذّعر..تقدّم شيئا فشيئا من النافذة ..أزاح ستارها بأصابع مرتعشة وراحت نظراته تتفحص العالم الخارجي...البرق يمزق السماء و يقسمها أنصافا...ويرسم عليها خطوطا متقاطعة مستقيمة ومنكسرة ودائرية ..كأنها إمضاء يد مرتعشة على وثيقة مدون فيها حكم بالمؤبد ..استعاد بعضا من أنفاسه المزدحمة..تمتم..و همهم..يسّبح حينا ،و يحوقل أحيانا أخرى.. يكرّر الرعد زمجرته بصوت غليظ قاس على قلبه المرهق فيقرأ سرّا بعض الآيات .. «يسبّح الرّعد بحمده و الملائكة من خيفته ».. تتفتح عيون من السماء فينطلق المزن.. وينزل على شاكلة لم ير مثلها من قبل ..الشوارع صارت تستحم و السيول موشات بحبات البرد الصلبة التي أحدثت طرقا عنيفا على أسقف البنايات ..تبادر إلى ذهنه أن شيئا ما يتربص به ..بل بالمدينة كلها..الرياح العاتية أيضا بدأت تستفز شموخ العمارات و تخلخل الهوائيات المقعرة المنتشرة على السطوح و الشرفات ..و تعبث بالأسلاك الكهربائية ..وتكاد تقتلع اللافتات الإشهارية المغروسة في جسد الشوارع المتعبة ..!يزداد نبض قلبه وينفرط عقد صبره فيعيد ستار النافذة إلى مكانه ..ويعود مهزوما إلى سريره الخشبي ..يتمدد عليه وهو يسائل نفسه و يجيب: -ما الذي حل بالمدينة ؟ -إنه موعدها من الخراب . -ولم ثارت ثائرة الطبيعة في هذا الوقت بالذات ؟ -لأن نفسي هي الأخرى ثائرة مهتزة . في هذه اللحظة انقطع التيار الكهربائي فازداد هلعه واستيقظ جنونه بعد غفوة قصيرة ..وراح يكلم نفسه بصوت جهوري ممزوج ببحة تكشف انكساره وضعفه: وهل قدري أن أظل كالقشة تعبث بها أمواج العذاب ؟ - ولن تستطيع مع الذي يحدث صبرا..فشاطئ الأمان مازال بعيدا .. -و أين المفرّ ؟؟ ..البوليس من ورائي..ورجال الجبل من أمامي وليس لي ..وليس لي . -وليس لي والله إلا الرحيل ..الرحيل ...نهض من مكانه ..لبسته ثيابه التي لم ينتق منها يوما شيئا و لا لونا بإرادته.. ولا ذوقه.بعد أن ألغى الشرود كل أزيائه المفضلة.. ومسح حزنه كل الألوان الزاهية من لوحات نفسه الصافية فأحالها نفسا منكسرة..غبشة غامضة..واستبدّ به الحنين إليها .. إنها هي فقط ملاذه و مهربه..ومكمن أسراره..إنها.."عين الفوارة "..يبرح مسكنه ..تاركا الباب مفتوحا..يجد نفسه في الشارع الرئيسي للمدينة ..وجهته الجهة الغربية ..نحوها..صوبها..إليها.. يسير الآن بخطى مهزومة يشجعها الشوق لرؤية محبو بته القابعة على صخرة صمّاء .. والماء..يجري من تحتها .. ..المطر سيل لا ينقطع من السماء..البرق لا يكف عن تجريح الآفاق ..الرعد مازال يعزف على وتر السكون فتبعث بين اللحظة والأخرى قهقهات و ربما تنهيدات تثير فيه القشعريرة.. الليل باسط جناحيه على المدينة الوجلة..وهو يسير..و المصابيح أفقدتها الرياح عذريتها فبايعت الظلام ..وهو يسير .. الخوف يحلق فوق هامته ..و الرعشة تسكن جلده ..و المجهول هنالك ينتظره..وهو يسير..والصمت ينبعث من النوافذ الموصدة والأبواب المغلقة ومن الشرفات المهجورة..وهو يتمتم ويهمس في مسمعه : أين هم ؟لماذا تركوني وحيدا ؟لماذا غاب القمر في هذه الليلة الظلماء؟إلى أين أنا ذاهب؟.. -إليها يا...(اسعيد)..هي في انتظارك..ترتسم على شفتيه المشققتين ابتسامة لقيطة خجولة ويدوّح رأسه يمينا و شمالا ساخرا من واقعه ..متعجبا لحاله..مشكّكا في أفكاره..وهو يسير..شارع "أول نوفمبر"طويل جدا..طول أحزانه..ومقدس أيضا قدسية أحلامه..وموحش جدا ..وحشة روحه..تتباطأ خطاه..يتوقف عن السير ينظر شماله وقد تحسس صمتا ينبعث من أطلال المحطة القديمة "لانقار". -إيه...من هنا مرّ الكثير ..إلى دروب مجهولة!! وأخذ الكثير قسطا من الراحة ..ووا صلوا سفرهم وكثيرا كانوا سيمرّون من هنا ..كلهم..جميعهم..هل عَلِمَ هؤلاء أو تخيلوا أن الأيام جرّتهم إلى أهاليهم وذويهم معززين مكرمين ..وأنه سيأتي من بعدهم من يلعق بقايا وحشتهم الممزوجة بالحسرة و الاغتراب؟ -وما شأنهم يا سي (اسعيد).ومن أدراهم بغريب مثلك ستنكره المدينة من بعدهم ؟ ولكننا كلنا أبناء آدم..فأين إنسانيتهم ..أين ؟ -كل إنسان احتواه دربه ..وتلقفه مصيره فلا تحزن على ما فاتك ولا تسعد بما سيدركك.. آه صحيح ..كل الدروب تؤدي على الفرقة و الشتات..وكل نفس تساق إلى حيث كتب الله لها ان تساق.. ويقطع دويّ الرّعد خيوط تيهه وشروده فيواصل السير صوبها..نحوها..إليها..إنها "عين الفوارة"حبيبته.. ملاذه مكمن أسراره..وكلّه شوق للوقوف أمامها.. هي وحدها من تعترف بوجوده..تصغي إليه..تنصت عندما يتكلم..لكنها..لا تجيب..أجل لا تجيب...