لقد قررتُ انتظارَ "هيبا المالطية" وشمسُ أكتوبر تلفح جبيني وتدفعني إلى الغثيان بينما كنت أذرع ساحة المحطة وأنظر ساعة يدي من حين لآخر• إنّ ظُهرَ هذا اليوم يُصرّ أن يكون رتيبا مملا مقرفا•• لست أدري لماذا أسميتها "هيبا المالطية" مع أنها لا تمت إلى المالطيين ولا إلى مالطا بأدنى صلة، ربما كان طائفا عابرا ليس بالضرورة لطيفا، هو الذي أملى علي هذه التسمية وربما كان نتيجة ترسبات الماضي البعيد الذي يعشش داخلي•• فلكل واحد منا ماض ليس بالضرورة أيضا يحن إليه ويفتخر به كما أنه ليس بالضرورة يفر منه ويتناساه؛ وربما وربما وربما•• فالمهم أنني أسميتها "هيبا المالطية" وكان ذلك قبيل خريف - لا بد وأن يكون ساذجا كعادته- وقد بدأ الصيف في الاعتلال كما بدأت أوراق الشجر تتهادى متساقطة؛ بعضهم يرى الأمر ترنيمة وجود يتفاعل معها ويعيش من خلالها شاعريته المفقودة؛ أما بعضهم فيصيبه الغثيان لمبدئه كما يصيبه الغثيان عند حلول أي فصل من فصول السنة حتى وإن كان ذاك الفصل ما تعارف الناس على تسميته ربيعا؛ "إن تتالي الفصول هو حيلة زمانية كي ننسى سبب وجودنا هنا" هكذا ذكر لي ذات مرة قد لا تتكرر أحد مجانين المدينة؛ وهنا يقصد بها الأرض كل الأرض وليس المكان الضيق تحت القدمين• وهكذا التقيت "هيبا المالطية"؛ وكان اللقاء مثلما يحدث في أفلام المصريين وحتى الأفلام الهوليودية صدفة؛ ربما لأنه دون قصد منا فنحسب أن أول لقاء مع الجنس الآخر صدفة والحقيقة أن كل ما في الأمر هو ضرورة اللقاء ليس إلا، فإن لم أكن قد التقيتها أنا يكون قد التقاها أحدهم فيحسب هو أيضا أنه التقاها صدفة كما تحسب هي أنها التقته صدفة وهكذا تضحك منا الأقدار مرة ثانية؛ فالمرة الأولى عندما حسب آدم أنه التقى حواء صدفة• لا علينا•• المهم أنني التقيت "هيبا" التي أسميتها مالطية لسبب ما•• وأنني التقيتها فترةَ كنت بحاجة إلى لقاء أنثى وكنت مستعدا للقاء أي أنثى، المهم أنها تحرك بداخلي ما رَكدَ مع الأيام وتبعث بعضا من الحَراك اللاإرادي لقلبٍ كنت أحسبه قد أسلم روح الحياة به واستسلم• وكانت "هيبا"•• هي لم تكن بفائقة الجمال كما أنها لم تكن مميزة بقدر يجعلها متفردة؛ حتى لغتها جاءت مبتذلة هزيلة تتخللها بعض التعابير السوقية من حين لآخر؛ وربما لأنها كما قلت سابقا ظهرت أمامي في فترة كنت بحاجة إلى أنثى من أي نوع فقد تلقفتها•• وربما تلقفتها لجسدها؛ ولجسدها فقط•• وكانت هي الأخرى غير ذات طموح•• وكان كل همها إشباع نزوة أو بعضا من الدراهم الفانية ولم أك أبخل عليها فقد كنت أتلذذ بها وبلهفتها إلى الدراهم؛ ولم تك تدرك ذلك•• إن أغبى نساء الأرض هي التي تحسب نفسها ذكية وبخاصة إذا ما تعلق الأمر بالرجل• وتركتها هكذا ودون سابق إنذار؛ كما أن الإعصار يكون بحاجة إلى حملة تنظيف وسيعة النطاق فلا ينظر خلفه ولا ينظر إلى ضحاياه؛ تركتها دون سابق إنذار ربما لتدرك بعدما يفوتها ما نسميه قطار الزمن ويحتال عليها تتالي الأزمنة أن اللعب مع الرجال أصعب بكثير من اللعب مع الحياة ذاتها•• أبرقت لي بعد بضعة أشهر تسعى جاهدة للعب دور جديد في حياتي؛ القضية أنني لم أك لأتردد في إجابتها إلى مبتغاها؛ غير أن تتالي الأزمنة جعل من "إيفا" تلك الشقراء الرومانية مكانها؛ وجعلها بطلة حكاية جديدة من حكايات شهريار داخلي ذلك البذيء الذي لا يمل الفاتنات؛ فتأسفت ل"هيبا" بكل أدب وقلت لها بكل بساطة إنّ أنكر الأزمنة عندي زمان بغير امرأة تنتشلني مني وتجربني وتعيشني• ولست أدري بعدها إن كانت تفهمت الأمر فلم أعر تلك الحوادث أيامها أدنى اهتمام فقد ملأت علي "إيفا" حياتي؛ إن المرأة كملح الطعام لا يمكننا الاستغناء عنه كما لا يمكننا الإكثار منه؛ كما لا يمكن لقلب يخفق أن يعيش بلا إحساس؛ كما لا يمكن لامرأة أن تتجاهل حبا حتى وإن كان كاذبا تماما مثل الحمل الكاذب؛ قالت لي ذات مرة إحداهن "أنت حمار حب"؛ حقيقة أسعد كوني حمار حب• اليوم وأنا أذكر "هيبا المالطية" تعجبت من خمس وثلاثين عاما مذ أول لقاء لي بها؛ مرت هكذا كلمح البصر عشتها طولا وعرضا؛ وعشتها ارتفاعا وانخفاضا بكل طقوس العمر؛ وعرفت خلالها كل نساء الأرض غير أنني أقر أن لكل قلب امرأة واحدة مهما اختلف الزمان أوالمكان؛ لتبقى "هيبا المالطية" ترنيمة حياة؛ أشرقت ذات خريف واختفت في زحمة الحياة• تعجبت أيضا من أنني وأنا المقبل على الستين من عمري لاأزال ذاك الفتى الحيوي المتقد عشقا؛ تعجبت أيضا من أن "هيبا" أبدا لم تبد أمارات السنين على محياها الذي لم أره مذ تأسفت لها؛ أو هكذا بدا لي الأمر• أيمكن أن يكون لي ذكرى منكوتة في قلبها تأبى أن تمحي؟•• ربما وددت لو أدفع نصف عمري ثمنا لمعرفة ذلك؛ وأكون ساعتها مستعدا وأنا في كامل قواي العقلية لدفع ما تبقى ثمنا لخلوة ساعة معها أراجع درسا في الحب لا زال يدغدغ شهريار فتنتابه رعشة الانتقام من كل نساء العالم• أيمكن أن تضحك الأقدار مرة ثالثة؟•• فتحت عيني بتثاقل نظرت حوالي بتثاقل أيضا؛ نظرت الساعة الحائطية أمامي كان الوقت قبيل الخامسة فجرا؛ كنت أحلم إذن؛ لم أبلغ الستين بعد بل موعدي مع "هيبا" ظهر هذا اليوم؛ لم أعرف "إيفا" بعد• أيمكن أن تكون "إيفا" على الأبواب؟•• أتصدقون لم أحاول بعدها لقاء "هيبا" كما لم أجب ولا مرة على اتصالها الهاتفي المتكرر؛ فبعضنا يمل بعض الزهور ليقينه أن وراء الأكمة زهرا مختلفا؛ أتصدقون أنني قررت انتظار "إيفا الرومانية"•