كل العالم يفهم الآن ما تعنيه لفظة "بلطجي"، لقد أدخل أبطال «ثورة الخبز والحرية» هذا الاصطلاح للقاموس العام فجعلوه في غنى عن أي تعريف لغوي دقيق. وظهر خلال الثورة في صور مختلفة، ويكاد يجمع المصريون على صورة نمطية له، يظهر فيها في معظم الأحوال كائناً متسلّطاً. هو شخص بلا رهافة، باع نفسه لأحد عرّابي الموت. البلطجي المعاصر تستورده ميليشيات الحزب الحاكم المصري من السجن عند الضرورة، أو يؤجّره أحد الأثرياء، لقاء مجهود إجرامي قد يصل إلى تصفية الضحية جسدياً. وعادة ما يكون مصنّفاً في سجنه تحت خانة «مسجّل خطر». وهو يتصدر المشهد الدموي المباشر، حاملاً سيفاً، خنجراً، أو (حربة)، أو سوطاً. ويوجّهه مشغله كما يشاء ليضرب هدفه ويغرز المدية الحادة في ظهر ضحيته بلا رحمة. هناك بلطجي متوسط، يتولى تجنيد البطلجيين الصغار الذين يتولون القتل. وتبعاً لحقوقيين مصريين، يكون المأجور المتوسط أكثر ارتباطاً بالسلطة. في أحيانٍ كثيرة تنتمي هذه الطبقة إلى رجال الشرطة، وأفراد المباحث المرعبين، على غرار أصحاب الأصابع السوداء، في «في فور فنديتا»، للمخرج الأسترالي جايمس ماكتيغ. أما البلطجي الرسمي فيقف على الحافة ويتابع أعمال صغاره. العرّاب الحقيقي هو البلطجي الحوت، الذي يلتهم النتائج ويحصد صمت العالم تجاه جثث الموتى. يضع عادةً ربطة عنق ويدسّ سيجاراً في فمه، راسماً صورة أبشع أنواع البورجوازية المتأخرة، التي يسير روادها وراء سلسلة الأوليغارشيين المتحكّمين في مفاصل حياة المصريين اليومية، مستعيناً بشبكة لا غنى عنها من البلطجيين. وفي عهد حسني مبارك، تحولت الظاهرة الفردية إلى عمل مافيوي منظّم، وبات لا ينقصهم سوى افتتاح نقابة. القتل بعشرين جنيه «عشوة لحمة» أو «عشرين جنيه»، أو تعهّد بإطلاق سراح مشروط. هذه هي مكافأة المرتزق في جمهورية حسني مبارك، ليقتل ويذبح ويطعن قلوب مواطنيه... في الأيام العادية. ففي الانتخابات التشريعية الأخيرة المزوّرة قطعاً تحدثت الصحف المصرية طويلاً عن ازدهار مواسم البلطجة. في الانتخابات ينقسمون إلى مجموعات. أولاها تحمي الدعاية الانتخابية، وثانيتها تهتف للمرشح، وثالثة تطلق الشائعات ضد المنافس. وهناك نساء بلطجيات أيضاً. وقد نشرت صحيفة الشعب، التي يصدرها حزب العمل المصري، تقريراً، في 2 ديسمبر من العام الفائت، تحدثت فيه عن بعض آليات عمل البلطجيين. ففي دائرة مينا البصل في الانتخابات عينها، نظّم المرتزقة أنفسهم جيداً. وضعوا شارات حول معاصم أيديهم طُبعت عليها عبارات «بحبك يا بلدي بحبك يا مصر». يخرجون في لحظة حاسمة، من سجنٍ صغير لوزارة الداخلية، إلى سجن كبير هو إمبراطورية الحزب الحاكم، يستطيعون في المساحة الفاصلة بين السجنين إفراغ الشر الذي ابتلعوه بجرعات كبيرة. هكذا، ينمو الشر في شرايين البلطجية من أيام الفقر العادية في أزقة الحرمان، وتغذيه الصيغة الأمنية المسيطرة على طبيعة مصر تزامناً مع حكم مبارك. ووفقاً لما ينقله متابعون لتفاصيل الحياة الاجتماعية المصرية، اقترب مصطلح الفتوة من مصطلح البلطجة. وهذا موضوع آخر. فأمام اضطراب الشخصية بسبب القمع المتكاثر، والفقر الشديد، نشأت مساحة هائلة خصبة لولادة سلوك عدواني، مشبع بالبحث عن نوافذ للهرب من الفقر والاضطهاد، البلطجية ليست إلا أعظمها بشاعةً. وفي اللحظة التي يمثّل فيها البلطجي دوره بفظاعة، تكتمل الصورة الطبيعية للوطن البوليسي. ذلك من دون أن يكره الضحايا جلاديهم. ضد البلطجي مع من يستخدمه كانت البلطجة في الأدب المصري نقيضاً للفتوة، وتالياً محصورة في إطار سوسيولوجي بديهي، قائم على تناقض الأضداد. الخير ضد الشر والفتوة ضد البلطجي. فماذا حدث لتصبح البلطجية هوية طاغية على شريحة من المنتفعين الرخيصين وتنعدم الفتوة؟ في إحدى حلقاته التلفزيونية، استغرب الإعلامي المصري الشهير، محمود سعد، ظاهرة البلطجة، في برنامجه على قناة «المصرية». وروى كيف أنه شاهد مواطناً يُضرب بالسيف، في شارع الهرم (محافظة الجيزة) الممسوك أمنياً. تجنّب الإعلامي اتهام النظام بقسوة. أبقى القسوة للمشهد ذاته، الذي تعرض فيه أحد المصريين للإذلال. الغريب هو إصرار سعد على أن الأمر لم يعد مقبولاً، وأنه فاق الحدود المعقولة، ما يشير إلى تكاثر الفئة الموجودة أصلاً. غمز من قناة الشرطة، وقال إن رقم لوحة سيارة المعتدي معه، لكنه لم يقل على الهواء ما يتبادله ثلاثة أرباع الشعب المصري، عن علاقة الشرطة بالبلطجية. ثمة من سبق سعد. ففي كتاب مجتمع القاهرة السري 1900 1951، لعبد الوهاب البكر، يسرد الكاتب حكاية الراقصة امتثال فوزي. حينها، ترافقت انطلاقة كازينو البوسفور، الذي يخص فوزي، مع عرض سخي من البلطجي المعروف آنذاك، فؤاد الشامي، لحمايتها، لكنها رفضت. دبّر الشامي اعتداءً عليها لاحقاً، فلجأت إلى شرطة الأزبكية، كما كان اسمها في تلك الفترة. وكان ردّ الضباط الأشاوس أن دورهم ليس حماية الناس من التهديد بل ضبط الوقائع بعد وقوعها. وفي الكتاب، تموت الراقصة على يد البلطجي بعد فترة بسيطة. وإذا رأينا أن المساحة الهائلة التي فردها الروائي المصري الشهير، نجيب محفوظ، لمتابعة النشوء والارتقاء الاجتماعيين للبلطجي المصري، قضى عليها الزمن لتفاوت العامل الزمني، واحتلال التكنولوجيا الرقمية مساحة الرواية بمسيرة متصاعدة، فإن الأفلام المصرية الحديثة ترصد نموّ البلطجة بطريقة غير مباشرة. فسعيد صالح، في «سلام يا صاحبي»، هو نفسه عادل إمام في «خمسة باب». الدور نفسه تقريباً. الرجل القوي الذي يحمي الأزقة. وللمناسبة، عادل إمام، وغيره من رموز النظام الشمولي السابق، لم يدافعوا عن البلطجية مباشرةً حتى الآن. دافعوا عن الرجل الذين حمل هؤلاء المرتزقة صوره واجتاحوا ميدان التحرير لقتل الأبرياء كرمى لعينيه، أو مقابل «عشوة لحمة».