فتح الرئيس بوتفليقة باب الإصلاحات السياسية رسميا أمس من خلال كلمته بمناسبة عيد النصر، وحتى إن فضل عدم الإفصاح عن التفاصيل إلا أنه أطلق إشارات واضحة على أن كل ما تم إنجازه على الصعيد الاقتصادي سيبقى في حاجة إلى خطوة سياسية . بوتفليقة اعتبر "إن رفع حالة الطوارئ الذي لا يعني التخلص من واجب اجتثاث بقايا الإرهاب هو خطوة جديدة يخطوها الوطن في اتجاه إزالة كل الآثار الناجمة عن سنوات المحنة والابتلاء وهي صفحة جديدة على صعيد المضي بالإصلاحات الشاملة التي أشرت إليها والتي لا يكتمل عودها ولا يستقيم قوامها إلا إذا أخذت الإصلاحات السياسية نصيبها من الرعاية والاهتمام والتي يكون فيها البناء المادي الذي يجري انجازه على قدم وساق صنوا للبناء السياسي الهادفين كلاهما إلى بناء وطن قوي ودولة قوية بمواطنين أقوياء". وهذه هي المرة الأولى التي يشير فيها الرئيس إلى كون رفع حالة الطوارئ هو إعلان بإطلاق إصلاحات شاملة لا تستثني الجانب السياسي، وتعطي هذه الإشارة مزيدا من المصداقية للأخبار التي تم تداولها مؤخرا عن نية الرئيس طرح مشروع لتعديل جذري للدستور والذي يجد مزيدا من الأنصار على الساحة السياسية، وهنا يمكن تسجيل بعض التحول في الخطاب السياسي الرسمي، فعندما أعلن بوتفليقة أول مرة عزمه على رفع حالة الطوارئ في اجتماع لمجلس الوزراء ترأسه في الثالث من شهر فيفري الماضي اعتبر أن القرار يهدف إلى إخراج ورقة الطوارئ من المزايدة السياسية، أما الآن فيجري الحديث عن كون هذا القرار "خطوة جديدة يخطوها الوطن في اتجاه إزالة كل الآثار الناجمة عن سنوات المحنة والابتلاء وهي صفحة جديدة على صعيد المضي بالإصلاحات الشاملة"، وهذا يعني أن هناك خطوات جديدة ستطرح قريبا. الرئيس لم يفوت الفرصة ليؤكد أن خيار الإصلاحات لم تفرضه الأحداث الإقليمية وهنا أشار صراحة إلى خصوصية الحالة الجزائرية وذكر أن موضوع التغيير والإصلاح "كان واحدا من المقومات الأساسية التي بنيت عليها البرامج المختلفة التي يجري تنفيذها منذ ما يزيد على العقد من الزمن، ولم تكن البرامج الخماسية المتعاقبة التي اشتملت على الإصلاح الإداري والقضائي والمالي وغيرها من المجالات سوى مقدمة لمضمون الإصلاح الشامل الذي يصبو إلى تغيير وجه الجزائر في جميع المجالات" ومن الناحية السياسية يمثل هذا الإعلان بداية لوضع سقف لعملية الإصلاح، فالتركيز على ما تم إنجازه خلال السنوات الماضية أو حتى منذ بداية الاستقلال وتثمينه يمثل رفضا ضمنيا لفكرة المجلس التأسيسي، بل إنه قد يذهب في اتجاه بعيد عن حل البرلمان رغم ما يشاع من أخبار عن وجود مشروع في هذا الصدد. أمر آخر ركز عليه الرئيس وهو الجهود الاقتصادية والتنموية التي بذلتها الدولة خلال السنوات الأخيرة والآفاق التي سيفتحها البرنامج الخماسي الحالي، وهو ما يعني أن الأهم بالنسبة للمواطنين في نظر بوتفليقة هو تحقيق الوثبة الاقتصادية وضمان مزيد من مناصب الشغل والحصول على السكن وتجسيد العدالة الاجتماعية، وهذا التصور قد يكون له تأثيره على سقف الإصلاحات السياسية التي قد يطرحها الرئيس خلال الأيام القادمة، ولعل الفاعلين السياسيين الذين يريدون تحريك الشارع سيتلقون هذه الإشارة الموجهة إليهم والتي تقلل من تأثيرهم ومن قدرتهم على التجنيد. من خلال هذه التفاصيل يمكن رسم ملامح المشروع السياسي الذي سيطرحه الرئيس، وأول ما يمكن تسجيله على هذا المستوى هو أنه لن تكون هناك قطيعة سواء مع السياسات التي اتبعها الرئيس منذ مجيئه إلى الحكم قبل 12 عاما أو مع كل مراحل ما بعد الاستقلال، والمقصود بالقطيعة هو العودة إلى نقطة البداية، والرد على مطلب المجلس التأسيسي تأكد بصفة نهائية، ثم إن التأكيد على المكاسب التي تحققت يعني أن الذهاب إلى حل البرلمان قد يستبعد هو الآخر، أما من حيث المضمون فإن التركيز على هشاشة الوضع، وعلى وجوب التحلي بالحذر، والتنبيه إلى المخاطر التي تواجهها البلاد من المتربصين بها في الداخل والخارج، يدفع إلى الاعتقاد بأن خيار تعزيز سلطة مركزية قوية ومنسجمة سيكون الأقرب إلى الاعتماد، وهذا سيرجح بديل النظام الرئاسي المحكم الذي يجعل السلطة كلها في يد الرئيس مع مزيد من التحديد لصلاحيات المؤسسات الدستورية وتنظيم العلاقة فيما بينها. الأخذ بهذا النهج سيجعل الإصلاحات السياسية بالفعل مرحلة جديدة في برنامج الرئيس بوتفليقة، فتعديل الدستور وإعادة صياغة النظام السياسي من حيث الشكل وتوزيع الصلاحيات بين المؤسسات كانت من بين الأهداف التي عمل بوتفليقة على تحقيقها، وقد كانت التعديلات الأخيرة للدستور في نوفمبر 2008 قد ذهبت في هذا الاتجاه رغم أنها بقيت دون التغيير الجذري الذي كان الرئيس يريده. وجهة نظر الرئيس التي بدأت تتبلور الآن قد تتغير في أي لحظة، ولعل عدم الإعلان عن التفاصيل يقصد منه قياس رد فعل الفاعلين السياسيين والمجتمع قبل الإقدام على الخطوة التالية، وهو ما يعني أننا قد نشهد تفاوضا غير معلن في المرحلة المقبلة خاصة إذا بادرت الأحزاب السياسية بطرح مزيد من المبادرات السياسية وهو ما طالب به عبد الحميد مهري مؤخرا.