(تابع).. للجسد كذلك أسراره ..ليس كل من طوق جسدا يقول أنني مارست الحب ..بل أكثر الأحيان يسمى هذا التطويق عنفا ..بل ارهابا ..لكل شيء حرمته ..أسراره ومداخله لا يتقنها إلا أكثر الناس ألفة له .. ها أنا أيتها المعشوقة تركت على جسدك مساحة للاحتمال ..مسافة للوصال مرة أخرى .. قالت لي مستبشرة : يكفيني هذا اليوم .. أعدتها إلى البيت و كلانا يكلم الآخر صامتا ..أيات الرضى ترتسم على وجهها الطفولي ..و مشاهد الغبطة تستبد بي ..و وساوس الحيرة تأخذني بعيدا إلى شاب كان يشبهني قبل هذه الحادثة ..لتلطمني مشاهد الحيرة بالأمس فقط كنت أطرح السؤال : أتراني بالنسبة إليها نزوة ..أم أنني آخر القلاع للحرية التي طالما ناشدتها ،فرنشيسكا لا تتركني أقذف أسئلة لا أجوبة لها ..أدرى أن الأيام وحدها من ستعزف لحن حبنا..لم أشعر بنسماته يوما ،فهذا عندنا يسمى حراما ،هكذا هي تقاليدنا و اعرافنا مجرد إملاءات في المجهول ،وحدكِ من حطم داخلي أقنعة التقاليد و صار للحب طرقا أخرى لم أعهدها في فلسفة قريتي الصغيرة ،،الحب كالحرية إما أن تأخذه و إما أن يسرق منك .. لا أريد أن أنساك فحبك سكنني ،لأنه أنقذ آخر معاقل الإنسان داخلي ،هاأنا أكتب قصتنا لا لتصبح تاريخا ،بل لتظل تجربتنا حية في قاموسي ،لم أخدعك أبدا إلى الآن ما زلت صورا شامخا يحرس غربتي ،بل وحدك من قلب داخلي شريعة القبيلة الخرقاء ها أنا أخرج من سطور النسيان لأعقد معك مسافة للكتابة ،وكأني بالشاعر يكتبنا في قصائده : من أنت يا امرأة ؟ أيتها الداخلة كالخنجر في تاريخي أيتها الطيبة كعيون الأرانب و الناعمة كوبر الخوخة أيتها النقية ،كأطواق الياسمين و البريئة كمرايل الأطفال .. أيتها المفترسة كالكلمة .. أخرج من أوراق دفاتري أخرجي من شراشف سريري .. أخرجي من فناجين القهوة وملاعق السكر .. أخرجي من أزرار قمصاني وخيوط منادلي .. *** ماذا لو أخبرت صديقي سليمان بهذا الموقف .. لا لن أتعجل ..الحب يرادف السر ..أما سليمان فأنا أعرفه سوف يتلو عليَّ خطبة لا آخر لها ..صديق طفولتي المهربة من زمن الاحتلال ..سافر إلى مصر ..درس بها زمنا علوم الدين ..لكن لم ير أحد شهادة إجازته .. قبل أيام أثار ضجة عارمة في القرية بسبب الحضرة التي اعتاد سكان القرية فعلها ،كلما بخلت عليهم السماء مطرا ..كان يسميها كفرا و إلحادا ..قاموس جديد استنكره إمام المسجد ، الذي شكاه إلى والده الحاج ابراهيم : ولدك ياسي ابراهيم كفرنا ..وقال أننا نقترف البدع ..هل سمعنا هذا قبل عودة ابنك من مصر ..يقول انه درس علوم الشرع فأين إجازته ..بل ليذكر لنا العلماء الذين درس عليهم ..أم انه فقط يحب الافتراء ..حذره يا سي ابراهيم و إلا ... و لم يكمل الإمام.. تعاضم الموقف و تطور ..ليستدعي ابراهيم من قبل الجدارمية الفرنسيين ..حذروه وأشبعوه ضربا ..و عادوا به ليلا إلى بيته ..ذهبت لزيارته .. أخذت أخفف عنه ..لا تبتأس سليمان خويا .. لم أكمل هذه الكلمات حتى نسمع سي ابراهيم يستلحم..و يصيح الطريق ..جاو الضياف .. سليمان يشير برأسه من يكون يا ترى ..؟ سي ابراهيم : تفضل ياسيدنا ..هذا و الله شرف كبير لينا ..كون قلتنا كنا حنا لجينا ..ليسمع الصوت من الحوش بعربية تخالطها جزائرية ..الشرف كل لينا يا سي .. والد سليمان ..ابراهيم ياسيدنا .. الضيف : يا سي ابراهيم ليدخل علينا ..لم نعرف الرجل قبل اليوم .. سي سليمان : ماذا أصابكم ..سليموا على الشيخ البهلولي ..من كبار جمعية العلماء ..أنهض فأقبل رأسه .. أما سليمان فلم يستطع النهوض لأثر تلك الجروح .. سي البهلولي ..لا عليك يا ولدي ..لا تبتأس ..و لكن إني أعاتبك يا ولدي سليمان ..ما هكذا تكون الدعوة ..ليس بالعنف ..و إنما بالعقل ..ليمتعنا الشيخ بحديث لا أول له ولا آخر ..هنا فقط تعرفت على واحد من جمعية العلماء ..كنت كالأبله ..سأحكي له قصتي معك فرنشيسكا ..لم أخف من الشيخ ..وإنما من سليمان خشيت أن يسميها زنا ..أو أن يكفَّرني ..ليدخل الشيخ الوقور مع سليمان في حديث عن مصر استمر حتى آخر الليل .. أنت أيها الوطن و ما يحدث فيك تذكرني بحادثة مر عليها نصف قرن ..ها هو كل هذا الوطن يخطو إلى التوبة خطوات يغسل بها المتبقي من زمن الردة ..لينبت بيننا دعاة الفجوة الأولى ..مسيرة نحو اللاأفق كانت ..نحو المجهول سرنا ..عشر سنوات كانت كلها فناء ..لم يفهم الاخوة أن الحياة قابلة لكل الأشكال ..نسي الجميع صوت الضمير لننقاد بوحشية نحو المدى الرهيب .. عشر سنوات أفقدتني شهوة الحياة ..بل لا حياة لي إلا مع الذكريات .. بالأمس أهين سليمان واليوم أهنت أنا ..حين ذهبت إلى مركز الشرطة لأستفسر عن حال ولدي، على كرسي الإعاقة ذهبت أطوي الطريق طيا ..وصلت إلى المركز ..ليستقبلني أحدهم بعنف ..ماذا تريد أيها الشيخ ..أريد حضرة المُساعد .. أدخلني وبين شفتيه كلمات التقطتها رغم حدتها وخفائها ..قلت له لأعلمه أني سمعته ..الكل يرى أن فقدان الرجلين إعاقة ..و لكن فقدان الإنسان فينا أكبر إعاقة .. سألت عن ولدي الوحيد ..قالوا لي أنه صعد إلى الجبل مع الإرهابيين .. نظرت إلي الدر كي و قلت له في استغراب تشوبه حيرة مدججة بالماضي البعيد ماذا إرهابي ..؟ لماذا تلاحقني هذه الكلمة مرة أخري ، لا أزال أذكرها حين علقت صورتي على مسجد القرية الوحيد ، لقد طلبوني مقابل مبلغ باهض ..كان علي أن أختفي في الجبال هناك وجدت الثورة صنعت مني رجلا يُغَنِّي للعالم حبه لأرضه التي دنسها الاستعمار .. ها أنت يا ولدي تُبتَلى بهذه الكلمة و لكن الفرق بيننا أن عدوي واضح و عدوك وطن صنعناه من قماش الفضيلة لتحولوه عارضا للأزياء بكل سفور .. خُلقتم فقط كمشروع ضد الحب الذي ينثرنا على عتبات الأمم لأننا لم نكن عمالقة كما كان أجدادنا ..يتبع في تلك الليلة ومن زمن الاحتلال اكتشفت سرا طالما هربه الفقر الذي نشأت في كنفه ، سر من نوع لا يتقنه غير الغواص في آبار الحقيقة الدفينة ،اكتشفت مساحة للفرحة لم أشعر بها قبل اليوم ،لا أدرى لماذا ارتسمت على وجهي ملامحا زينتها الابتسامة .. أذكر جيدا تلك الصدمة كانت أول ضربات الحب العنيفة ... لم يكن ساعتها حبا ...بل كانت مسالكه من جعلتني أرسم مسافات للتفكير نحو أعضائي المنسية من زمن الاحتلال .. لم أجد مخرجا مما أنا فيه إلا حجر أمي العمرية .. دخلت عليها في تلك الأمسية فقلت: مساك الله بالخير يا ما .. قالت: و فرحة صغيرة تجتاحها كلما دخلت عليها: و أنت بالخير ياوليدي.. سبقتني فأخذت القفة من يدي لأقبل رأسها و يدها وأجلس أمامها .. و ضعت رأسي على حجرها : قالت: مابك ياولدي قلت : ألا يجوز لي أن أتذكر طفولتي مسحت رأسي بيدها و قالت لي: اليوم زرت سيدي الخير و جلبت معي هذه الشمعات و قليلا من البخور الشامي . نهضت من مكانها لتعد بخورها و بقيت أنا مع دخانك فرنشيسكا .. لماذا فعلت هذا ؟..ها أنا أعيش زلزالا رهيبا .. لماذا ابتسمت لي يا ترى؟ .. هل لمثلك أن ينظر لي .. ما أنا إلا خماسا عندكم ألتقط الرزق ..وأنت ابنة القاورى صاحب الأراضي و الأملاك.. هنا فقط تذكرت كلمة كان قد قالها لي العم حفيظ قبل عام من موته.. قالها لي في خوف شديد .. أخذ يهمس في أذني: اسمع يا ولدي ..أنت فتى وسيم ..إني رأيت الآنسة فرنشيسكا تنظر إليك أحسبها تريدك وتهواك.. و تمسكت بهذه الكلمة :تريدني و تهوانى ..لا ..لا يمكن ..لا يمكن لمثلها أن تحب شابا مثلي.. لأول مرة أطرح مثل هذه الأسئلة ...و قلت لي نفسي .. زيارة واحدة فعلت بي هذا ...زيارة واحدة بنت داخلي مشاعر من حرير .. أحسست لأول مرة بالدفء يجتاح جسدي المنهوك ...لأول مرة ينفتح قلبي المغلق على امرأة تتقن الولوج في الآخر.. لأول مرة ترتسم على ملامحي حقيقة الإنسان سعادة ونشوة ..ساعة خلوت فيها إلى نفسي ..أُذكِّرها أني إنسان عليه أن يفرح . و في زمن الاحتلال يبقي فضاء للأمل ..وحده الحب من يصنع طريقا من الحنين ..طريقا من البهجة ..فرحة لا يقدرها إلا من جرب قهر العدو وحدها الآهات من تعود لتأخذ مكانك أيتها الابتسامات الحجرية ..ووحدها الذكريات من تعيدك إلي مرة أخري في هذا الزمن المتوقف الذي حُبست فيها لحظات الحب تماما كما في ذلك الزمان ..الآن و نحن نقتل باقي الإنسان الذي أخذه الاستعمار ..ما بقي لنا إلا أن ننحت ابتساماتنا كل مرة ..فهل نجيد فن النحت؟ مع احتفاظي بعهود لم أخنها إلا أنني أشك، لأنني لا أعلم إلى متي تبقي الدنيا بعنفوانها لدينا ..؟ أنام تلك الليلة ..لأعود في صباح الغد و حيرة تضع أوزارها على وجنتي .. أضع أولى الخطى في - فيرمت ميشال – لأقترب قليلا من البيت فأراها ترمقني بالنظرات و في يدها دلو من الماء تسقي به وبعناية تامة حديقة الورد لا أعلم لماذا تراقبني بهذا الشكل .. دخلت إلى الإسطبل ، لأجدها خلفي .. قالت في كبرياء وابتسامة تكسر تكبرها في عنف : أرجوك..جهز لي حصاني وانصرفت خارجة .. سرجت لها الخيل و أخذت أخطو نحوها متثاقلا .. وصلت أمامها ، دون أن أتكلم ، و بإشارة سلمت لها مربط الحصان ..و همت عائدا إلى عملي ..لكنها فاجأتني بقولها: اسندني.. وضعت رجلها في مركب الحصان .. يدها اليمنى على ظهر الحصان واليسرى على كتفي المكشوف .. أحسست بيدها تعبث بكتفي، لم آبه لها، ظننت أنها تحركها لتستند جيدا .. رفعت رجلها اليسرى، فإذا بها تهوي علي و تهوي معها كل الشكوك .. أتراها فعلت ذلك عمدا ؟ هوت علي تحتضنني، وتضمني بعنف ..نسيت في تلك اللحظة أني مجرد حثالة كما يصفنا والدها ميشال ، تجردت عن كل المراتب ، وحده النسيان من كان سيد الموقف ، ووحده الجسد من استجاب ليلغي على الفور أنواع الاتصال ،نظرة إلى ملامحها زمنا لأعطل الصدمة و أطبق عليها بكل قوتي شددتها بعنف و قسوة ،آلمتها قليلا لكن سرعان ما انتفضت لم أتجاوز معها سوى ضم اليدين قلت مبررا صدمتي وانهيار إنساني إلى الحضيض ..أيها الانسان الرخيص أتسقط في أكثر لحظات المُنى طربا في التفكير في غير ما أنت فيه ..ها أنت بعد هذا العمر تذكر هذه التجربة بحسرة على ما فات ..تحبك و لاتدري ..ياه ..يا للغباء ..اعذريني أيتها المعشوقة إلى الآن ..مابين الحقيقة و الحلم ..حلم واحد يذكرني بك ..عقب هذه الحادثة قلت لها : ما بك يا سيدتي ؟ لاشيء.. ثم تجاوزت خطأها لماذا أسميه خطأ..ألا يجوز لها أن تنظر إلى شاب مفتول العضلات ..وإن كان عبدا عندهم ..وحده القلب من يختار رفيق دربه ..من يختار كيف تكون المناجاة ..بل و كيف تكون معبودته ..ولمن يهدي أحاسيسه ..مسألة نسبية تتماوت فيها التقدريات بالجزم ..كلها تخمين ..من كان يدرى أنني أصنع حبا في بيت رجل هوعدوي اللدود..هكذا هو الحب ... نحن لا نختار من نحب و إنما هو من يختارنا .. لم أقل لها شيئا بعد ذلك غرست لساني ككل مرة في التراب ..ثم أمسكت الحصان وجعلت أجره خلفي من الحبل يتبع