في آخر اجتماع للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني لم يستطع المشاركون حسم موقفهم إزاء القضايا الكبرى للإصلاحات السياسية، ولم يكن الخلاف بعيدا عن حسابات العلاقة مع الرئيس والانتخابات التشريعية المقبلة، فالرؤية لم تتضح بما يكفي لتحديد الطريق الأكثر أمانا في نظر قادة الحزب العتيد. منذ سنة 2004 على الأقل ربط الأفلان مصيره بالرئيس بوتفليقة، فقد جاءت الحركة التصحيحية التي أطاحت بعلي بن فليس على خلفية صراع سياسي حول ترشيح الأمين العام آنذاك أو تزكية بوتفليقة لعهدة ثانية، وكان انقلاب بن فليس على بوتفليقة، وهو الذي قلده أرفع المناصب السياسية وجعل منه أقرب مساعد له، بداية لانشقاق عميق جعل الحزب ينقسم إلى شطرين، وقد قاد بلخادم الحركة التصحيحية مدعوما بأعضاء قياديين لهم نفوذهم داخل الحزب ويعززون قوتهم بمراكزهم في الحكومة والمناصب السامية التي يشغلونها، وانتهى الأمر بسحق الأمين العام السابق وأنصاره الذين عاد كثير منهم إلى بيت الطاعة بمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية سنة 2004 والتي مني فيها بن فليس بهزيمة نكراء. مآل الانتخابات الرئاسية سنة 2004 عزز موقع الأمين العام للحزب عبد العزيز بلخادم الذي جعل تقوية العلاقة مع الرئيس القاعدة الأساسية التي تقوم عليها استراتيجية الحزب، ومن هنا جاءت فكرة ترشيح بوتفليقة لرئاسة الحزب، ورغم أن الرئيس لم يقبل المنصب رسميا فإنه لم يعترض على الرئاسة الشرفية التي تمنحه سلطة أخلاقية على الحزب دون أن تضعه في حالة من التناقض مع دوره كرئيس لكل الجزائريين انتخب بصفته مرشحا مستقلا، وقد اعتبر بلخادم أن الحفاظ على علاقة متميزة مع الرئيس يخدم الأفلان على مستويين، الأول هو ضمان الاستقرار الداخلي للحزب، حيث أن التجربة التاريخية أثبتت أن عمليات الإطاحة بالقيادة كانت تنجح كلما كان هناك دعم من جانب السلطة لها، وهذا ما حدث على الأٌقل مع عبد الحميد مهري ومع بن فليس بعد ذلك، بل إن عملية إزاحة بوعلام بن حمودة من القيادة نجحت بفضل قوة بن فليس التي كان يستمدها أساسا من دعم الرئيس الذي عينه كرئيس للحكومة آنذاك، وحتى إن كان مجيء بن فليس قد تم تقديمه على أنه انتقال سلس للقيادة فإن ما جرى حقيقة كان انقلابا أبيض تم تنفيذه بعيدا عن الضجيج الإعلامي بفضل تفهم بن حمودة وحرصه على الانسحاب في صمت، وقد حدث لبن فليس ما حدث لبن حمودة ومهري من قبله عندما انقسم الأفلان على نفسه بسبب خلاف حول الولاء للرئيس بوتفليقة. خلال السنة الماضية عادت ظاهرة التصحيح إلى الحزب من خلال بروز ما عرف بالحركة التقويمية التي قادها وزراء ونواب، وقد اتجهت الأنظار كلها إلى الرئيس مرة أخرى، وقد وصل الأمر بعبد العزيز بلخادم إلى تقصي الحقيقة في محيط الرئيس ولدى مقربيه، وأراد أن يتحسس موقف بوتفليقة وإن كان، هو أو من هم قريبون منه، على صلة بما يجري من عصيان، والإجابة التي قدمت لبلخادم كانت واضحة لا علاقة للرئيس ولا لمقربيه بما يجري، غير أن هذه الإجابة لم تكن كافية لتجعل بلخادم مطمئنا، وكان الحل هو ما أعلنه الأمين العام في اجتماع اللجنة المركزية الذي عقد في شهر ديسمبر من العام الماضي من ترشيح الأفلان لبوتفليقة لعهدة جديدة سنة 2014، ومن خلال ذلك أراد أن يبعث برسالتين مهمتين، الأولى تحمل إشارة إلى أن الذين يقودون المعارضة داخل الحزب إنما يريدون تغيير خطه السياسي وتحالفاته التقليدية، وبالنتيجة فإن أولئك يعملون لصالح أطراف خارج الأفلان تريد أن تستحوذ على الحزب استعدادا لمعارك سياسية بدأت تلوح في الأفق، والثانية موجهة إلى الرئيس لجس نبضه، وبحسب رد الفعل يمكن معرفة موقفه مما يجري، ثم هناك محاولة وضع الأفلان في الموقع الذي يراه بلخادم مناسبا تحسبا للاستحقاقات القادمة، ومبرر كل هذا هو الهدف الذي يريد أن يقنع الجميع بأنه قادر على تحقيقه، إبقاء الأفلان في السلطة إلى سنة 2030 أي إلى غاية نهاية العمر السياسي الافتراضي للجيل الحالي من المنتسبين للحزب. كل هذه الحسابات سقطت بعد الإعلان عن مباشرة إصلاحات سياسية عميقة، فقد اضطر بلخادم إلى التخلي عن فكرة ترشيح الرئيس لسنة 2014، وحتى مشروع تعديل الدستور الذي رفعه الأفلان للرئيس سنة 2008 لم يعد صالحا للمرحلة الحالية، وبدلا عن ذلك بدأت مراجعات عميقة للمواقف، لكن التوصل إلى صيغة تضمن التوافق مع الرئيس أولا وتحرم الخصوم من أي مكاسب سياسية يبدو أمرا صعبا في ظل تكتم الرئيس عن مشروعه وعن توجهاته بخصوص الإصلاحات، فالمشاورات السياسية بدأت تكشف عن مفاجآت لم تكن منتظرة، والسباق على طرح أكثر الاقتراحات جرأة انطلق بين الحلفاء أولا، وهو ما سيجعل مستقبل الأفلان، أو مستقبل قيادته على الأقل، مرهونا بما ستؤول إليه الإصلاحات السياسية.