بقلم علاوة كوسة / سطيف.الجزائر (تابع.. ويتمزق وشاح الصمت فجأة عندما سمع الحاضرون صرخة سيارة مغتاظة تنبعث من بعيد فاستداروا نحوها جميعا وهي تتجه نحوهم..وأنفاسها تكاد تنقطع من عناء سفرها الشاق ورحلتها الثامنة فأسرع الجميع وقفزوا على الرصيف تاركين السيارة الخضراء تنهب الطريق نهبا وتطويه طيا فاخترقت الصفوف ودخانها ممتد مستقيم في شارع أول نوفمبر كما امتدت سحب الفراق في سماء المحبين .. وتوقفت بعيدا عن عين الفوارة وأنظارهم مشدودة إليها.. وإلى أبوابها متى تفتح ويفتح باب السائق فينزل مرتديا بدلة سوداء وبنظاراته السوداء ..وشعره الأسود .. ويترك الباب مفتوحا وبخطوات ثابتة يسير نحوهم.. مرفوع الهامة فيدنو رويدا رويدا ولا أحد عرفه إلا أخوه عبد القادر الذي ” صاح” سليم ..شقيقي..سليم ” ولكنه لم يتحرك نحوه فيده مشدودة بيد الآخرين .. ويفتح الباب الأمامي فينزل منه شيخ شديد بياض الثياب .. يحمل بسبحة بيمينه وعصاه الموشاة بالفضة بشماله .. ويسير خلف سليم .. نحوهم بوقار وثبات ولكن بعينيه نظرات عتاب فهمها الجميع ولم يعرفه الجميع ويفتح الباب الخلفي الأيسر وينزل شخص ثالث بشعره الحريري الأصفر .. وعينيه المحجوبتين بنظارة سوداء وقميصه الأبيض اللماع .. يتقدم إلى الأمام خطوتين ..ويتوقف ثم يتجه صوب الباب الخلفي الأيمن والكل يتابع عندما صاح الأصدقاء الأربعة معا وأسعيد معهم :”إنه عبد السلام .. عبد السلام ففاضت عيون الأصدقاء ..وامتدت يد عبد السلام إلى قفل الباب وهو ينظر إلى الواقفين أمام عين الفوارة نظرة لم يفسرها أحد .. وينزع نظارته فبدت عيناه الزرقاوان من بعيد كبحر غارق في عيون السندباد أو كجنة مكسوبة في ضلع آدم المخدوع .. ويفتح الباب أخيرا وينزل الراكب الأخير .. من المقاعد الخلفية لسيارة أخيرة .. وتطأ قدماه أرض المدينة .. يحتويه الشارع الطويل كطول رحلته ..شعر يخطه الشيب .. نظارة طبية بإطارها الأسود سواد لياليه في الغربة .. وبدلته الرمادية الحزينة .. حزن عينيه المدموعتين غداة ذرّت الفجيعة رماد الأسى بهما ..بقرية “رمادة ” نظر إلى السماء حيث القمر نادم خلف الغيم ..تأمّله مليا .. ثم طأطأ رأسه .. وكفكف دموعه .. وشدد القبض على يد عبد السلام .. والكل ينظر .. يتابع ينتظر .. وصاح “أسعيد ” فجأة وقد عرفه :” لقد عاد أخيرا .. عاد أخيرا ” ” عاد إلى أهله ومدينته وأمه ” في هذه اللحظة تفتت قلب العجوز .. وهي تسمع كلام أسعيد عن عودة الابن لأمه “ وقبل أن ينطق اسمه !! فتابع “أسعيد” صيحته المحلقة في الأفاق : ” إنه ...ذو الشيب الصغير ...يا رفاق ذو الشيب الصغير عاد يا سيغورني .. أنا ما رأيته قبل اليوم لكني أعرفه .. وجهه عيناه شعره مشيته ..” ولا أحد تجرأ وسار نحو ذي الشيب خطوة واحدة .. كل الأيادي مشدودة ببعضها ..ذو الشيب هو من يمشي نحو الآخرين ..هكذا ألفه من عرفه وصاح الجميع وردد: عاد ذو الشيب الصغير ...عاد ذو الشيب الصغير.. ولكن أمه لا تشدها يد ولا تمنعها شرائع وقيود ولا تقف في وجهها حواجز ولو كانت من نار عندما يتعلق الأمر بابنها وحيدها صغيرها ذي الشيب الصغير .. فراحت تهرول نحوه في جنون ووحشية وشوق فتعثر حينا وتنهض وهي الكفيفة الضريرة .. وما إن تبينت لابنها من بين تلك الجموع الغفيرة حتى فاضت عيناها بدموع لا يحس بحرقتها إلا من هجر قرية ولد بها .. وفارق مكرها أما والدته وابتعد عن حضنها الدافئ لتضمنه بعدها أحضان الغربة الباردة .. من نأى عن والدته .. وصاح ذو الشيب الصغير مناديا مستنجدا ..هاربا..كسيرا” أمي ....أمي..” وارتمى في أحضانها وضمها إلى صدره ضمة مشتاق معذب وضمته إلى صدرها ضمة طفل صغير .. وعجوز ضريرة وأم مفجوعة وراحت تتحسس بيديها وجهه وأنفه وشعره .. وتصيح باكية ..إنه هو ..إبني..إبني ..عرفته .. حينها فقط أدرك الابن أن أمه صارت كفيفة لا تبصر بسببه ومن اجله ..جزنا عليه فانكسر وانفجر بكاء مريرا ...وأبكى الحاضرين والأصدقاء .. وحتى البلابل على أفنان الأشجار الأربعة المحيطة بعين الفوارة .. وسارا معا نحو عين الفوارة .. نحو الأصدقاء نحو سيغورني .. وأمه تشد القبض على يده تخاف أن يبتعد عنها ثانية .. وإلى جانبه صديقه ..رفيق أحزانه مكمن أسراره .. عبد السلام .. وفسح له الواقفون الطريق حتى بلغ أصدقاءه الأربعة فارتمى عبد القادر في حضنه وقد استبد به الحنين إلى تلميذه في الخط.. وصديقه في الحياة وزميله في التدريس .. وضمه قيس إلى صدره ضمة كانت أمه أولى بها لكن أم قيس صارت تسكن القبور منذ شهور .. رشيد وتوفيق أحاطا ذا الشيب الصغير بأحضان الأوفياء المتحابين .. وراحا ينظران إلى بعضهما مليا في صمت ... ثم تقدم ذو الشيب الصغير الصغير من عين الفوارة ومد يده وشرب حفنة ماء .. وغسل وجهه ومسح عينيه المدموعتين ثم نظر إلى سيغورني وأطال النظر .. وتحاورا بالعيون لأن لحظة كهذه تتقزم فيها الكلمات وتنسحب كل اللغات .. وعاد إلى جوار أمه ثانية فلم يعثر على صديقه عبد السلام وإذابة يراه منسحبا من بين الصفوف مطأطئ الراس ويداه على عينيه ..فهرول نحوه وأعاده إلى مكانه وتكلم أسعيد حينها معه قائلا : -ما الذي يبكيك يا عبد السلام .. فذو الشيب عاد إلينا وهو الآن معنا ..؟ سالت من عيني عبد السلام دمعتان جريحتان وقال والكل يصغي : -أجل..ذو الشيب بيننا وعلينا أن نفرح.. ثم انفجر باكيا ..فأبكى ذو الشيب ثانية...بكاء مرا..واحتضنته وبللت دموعهما أكتافهما.. وحدهما يعرفان سر هذا البكاء وحده عبد السلام يعرف ما الذي أبعد ذا الشيب عن أهله.. وحده يعلم أين كان ذو الشيب مختفيا غائبا لاجئا طوال هذه المدة.. وحده يعرف أن جرح ذي الشيب الصغير غائر..جدا وقد لا يبرأ..وحده عبد السلام يعرف ما سر تلك القصائد الأسية ... والأشعار الحزينة .. واللوحات المفجوعة.. وحده يعلم أين غاب القمر .. وحده يعرف ما قاساه ذو الشيب من أهوال في رحلته الثامنة.. فأعاد للمدينة أفراحها.. ومازال فرحه مؤجلا.. أنار مصابيح المدينة بعودته ومازالت زوايا نفسه مظلمة برحيل قمره المفقود ... * * * المكان هو مكتبة الزين.. بقرية رمادة .. الزمان : مساء الجمعة . كان ذو الشيب رفقة أبناء قريته وأصدقاء العمر ..ا لسعيد (أبو أسامة ) وفاروق..نور الدين ..عاد الأمل بعودته .عادت الجلسات الحميمية بعودته وعادت المواضيع الطريفة بعودته .. عادت القرية لصباحاتها .. الجميلة بعودته .. ويقطع حديثهما “رمزي” ابن أخته قائلا وهو يكاد يطير من الفرح: خالي ..خالي ..جدتي استعادت بصرها ..جدتي ترى كل شيء جدتي رأتني .. وصفت لباسي ..لون لعبتي ..شكلها .. خرجت من البيت رأت الطبيعة.. رأت جبل براو.. رأت السماء .. والشمس.. رأت خم دجاجاتها .. وصفت لونهم واحدة واحدة واحدة ” ثم بكى .. وما أدراك ما يبكي الصغار ... المكان: بيت ذي الشيب الزمان : لحظات بعد سماع الخبر .. احتضن أمه بشدة ورأت وجهه لأول مرة منذ غيابه.. رأت عينيه المدموعتين ..رأت الشّيب الذي وخط شعره ..بكى ..ذو الشيب للفرح هذه المرة .. وليس له إلا الدمع..../.. كانت القرية ليلتها تشهد عرسا مزدوجا ..عودة ذي الشيب الصغير .. وعودة النور إلى عيني أمه .. آخر البوح..
1-تقطع القناة التلفزيونية الإيطالية بثّها وتعلن خبرا عاجلا على لسان مقدمة الأخبار: “استيقظ سكان العاصمة روما هذا الصباح على مشهد عجيب .. رجل بزيه الغريب الذي يعود إلى قرون مضت.. وامرأة شابة بفستان الفرح الأبيض يسيران من أطلال قصر عتيق صوب الدير الذي كان به القديس سان فالونتان .. وكان يخاطبها قائلا :” حبيبتي سيغورني.. ها قد القينا أخيرا.. فتجيبه :” حبيبي “فيدال ” وهذا مصير كل المحبين بإخلاص “ - 2في إحدى شرفات ذلك القصر بضواحي باريس كانت منكبة تبكي وتقول ” أمازلت تذكرني لحد الآن يا ذا الشيب الصغير “؟ - 3كانت الصحفية” بالجريدة الأيام ” س.ع” تحرر مقالا تعتقد أنها تنال به سبقا صحفيا يدور حول مكان اختفاء ذي الشيب طيلة تلك المدة. - 4في ساحة بيتها المتكئ على جبل قريب من مدينة عين الفوارة كانت (سمية) تساءل نفسها : أهو مجرد تشابه في الأسماء ؟ - 5في ساعة من سحر.. كان ذو الشيب الصغير يحمل قلمه الأسود ويدون على دفتره بعضا من ذكرياته.. المنقوشة على جدران ذاكرته المتعبة.. فالأمس لازال يلاحقه.. والذين يحبهم رحلوا.. وبعض من أحداث وعجائب رحلته الثامنة جديرة بأن تدوّن .. لكن تبقى شاهدة على أن قوافل الأسى مرّت يوما من هناك.. هناك حيث الحب الصّادق.. والقلب الطيب والعقل الراجح.. والعيون... الجريحة “.