(تابع).. " حبيبك يا سمية ما انفكت تلاحقه خيالاتك وتمكر به الذكريات ..مازالت عيناه مشدودتين إلى السماء تلومان الأفاق التي لحقت بها تلك الطائرة اللعينة "صوب سان دوني " المدينة التي هربتك منه ..وهربته من سعادته ..أبعدتك عن وطنك وأسكنته وطنا آخر.. وطن الشعر.. وشرفات القوافي وشوارع الحنين إليك ..وطن كله نوافذ . حزن مشرعة ..فصار يرسم طيفك على صفحات أدمعه .. ويشكل من جراحاته أمسه لوحات صامتة أبت ألوانها أن تتجانس وتتعايش وكانت قصائده تنسحب من إنشاده عندما تردد شفتاه طول الوقت بيتين من الشعر كنت لكتابك إياهما على ذلك المنديل قد حطمته .. المنديل لازال محتفظا به مازال يردد هل ترانا نلتقي أم أنها اللقي على أرض السراب ثم بانت وتلاشى ظلها واستحالت ذكريات للعذاب ذعر أسعيد في هذه اللحظة لأن هذين البيتين نفسهما مكتوبان على المنديل الاحمر اللماع الذي وجده ملتصقا بأحد الأسلاك الكهربائية في الجهة الشرقية من مدينة عين الحجر التي يقفون الآن في احد شوارعها !!! .....ا ندهش عبد السلام وقد عرف أن هذا الخطاط شاعر ..وقال في نفسه ألا يمكن ان يكون .....؟ وقبل أن ينطق شيئا تكلم رشيد الرزين الهادئ وقد ثارت زوابع فضوله وتفتحت أشرعة شوقه فتسرعت سفن كلماته قائلا : -ومن يكون هذا الخطاط الشاعر يا سي عبد القادر ؟ -رد عبد القادر وقد ارتعشت شفتاه لذكر اسمه فقال أمام مرأى دمعتين مغتاظتين .. إنه ذو الشيب الصغير ومن غيره .. === دوّح خالد رأسه وقد قرأ في عيون حبيبته هدى ما كانت تقرِؤه في فصول هذه الرواية وقال في نفسه عجيب ..ما الذي يحدث ؟!! ونظرت إليه من كانت تجلس جنبه .. ولكن هذه المرة بعينين مدموعتين .. سرعان ما تدفقتا ..ضمّها خالد إلى صدره .وهمس في مسمعها: هدى ركاب الحافلة كلهم ينظرون وأنت تبكين ؟ ماذا سيقولون ؟ فرفعت رأسها وأسكنته في عينيها الساحرتين وقالت : وماذا سيقول ذو الشيب الصغير لسيغورني يوم يلتقيان ويعلم بما قاسته من اجل أن تعرفه في فك هذا اللغز المحير الذي يؤجل معرفة المكان الذي يسبق إليه حبيبها ؟!!! ماذا ستقول سمية لذي الشيب الصغير لو التقته يوما وعلمت بما كابده وقاساه بعد رحيلها ؟! غلبها البكاء ..هزمها الموقف فعادت إلى حضن خالد من جديد وأكملت الحافلة المتوجهة إلى الشرق سيرها === (بعد أن قال عبد القادر هذا الكلام ..) " عبد السلام .. لا يصدق .. حزين لحال هذا الشاعر الخطاط .. سعيد بأنه قريب منه ..فهو ابن قرية "رمادة" لقاؤه لم يعد مستحيلا .. توفيق متعصبا ..وأين يمكن أن نجده الآن و قد عرفناه .. ولم نعرف سر تلك الكلمة الغامضة التي فيها سعادة سيغورني وأسعيد .. وانتفض أسعيد لحظتها وقد خاطب سيغورني هذه المرة وبلهجة قاسية لأول مرة : -"سيغورني " ألست من اخبرني عنه كم من مرة ... قلت لي انه يحضر أمسياتكم بالنادي الأدبي ويجلس في الصف الأخير ..قلت هذا وأنت تمثال لا يتحرك فكيف عرفت ذلك بالأمس ولا تعرفين مكانه الآن وأنت بشر مثلنا أجيبيني ماعاد صمتك يخدمني ؟ -تصمت سيغورني ..وما أدراك ما صمت الأنثى !! -وتبكي الأميرة ..وما أدراك ما دموع المظلومين !! ... فقيس بينهم كنجم ضيعه مداره .. ومازالت كلمات الدرويش تخدش مسامعه .. ومازال قيس مصرا على انه لن تجف عين الفوارة ... (كلهم يقررون العودة ثانية إلى قرية "رمادة ".. ذو الشيب هناك .. كلمة منه تكشف السر الذي يعيد لسيغورني وأسعيد ما كان ينقصهما) عبد القادر وحده من قال : عبثا تحاولون يا رفاق ..فاندهش الجميع وقالوا بصوت واحد: " وماذا ترانا فاعلين ..أنتظر أكثر من هذا ..قرية" رمادة " أقرب من طرفة عين وصبرنا صار أبعد من "درب التبان " دمعت عينا عبد القادر وقال : " الم أقل لكم في أول حديثي ما أصعب أن تحب رجلا بلا وطن ولا عنوان ؟!" -ماذا تقصد ( قالها احدهم ولا أريد أن أعرف من يكون ) – -ذو الشيب الصغير يا رفاق .. لم تعد "رمادة" وطنه .. لقد غادرها ذات ساعة من سحر بعد أن طاف حولها سبعة أشواط .. ولا أظنه عائدا إليها ليطوف حولها مرة ثامنة ؟! السندباد لم يجرب الرحلة الثامنة : (فزع جميع من كان في الحافلة ..وذعر خالد عندما قامت هدى من مكانها وهي تصرخ باكية .. سيعود..سيعود في الرحلة الثامنة ..انا أعلم هذا ..لوحته المرسومة على جدار مطعم مدرستنا تقول هذا سيعود ..خالد أرجوك قل لعبد القادر سيعود ..؟!!!!...... قالت أمها ..رواية تطرح صغيرتي "هدى" فراش الموت .. من قال لها اقرئيها .. ما الذي فيها ؟ يدخل سي رابح .. الأستاذ الجامعي .. عين الفوارة مدينته الثانية ..قرأ الرواية سبع مرات ..يدنو من فراشها وقد ارتمت أخته في حضنه وهي لا تصدق ما يقع وما الذي أصاب ابنتها .. تدمع عيناه ودموع ..رابح.. غالية ..إنه العزيز على أخواته ولا أخا له ..إن جراح وفاة أمه لم تندمل بعد .إنه أشد تأثرا منك " فكا تب الرواية أحد طلبته.. وصهره بعد ذلك وهو أدرى بما فجر صمته ..فتكلم ونطق .. ولما نطق فلندعه يقول ما يشاء ..فإلى متى والجراحات تكبر في داخله إلى متى وهو لا يصدق ما وقع ..إلى متى هزمه الدمع وفي نفسه يقين انه سيكتب ويكتب .. ولا يفي جرحه حقه .. وسرعان ما أدرك رابح قافلة الدعابة التي تجري على لسانه دائما فقال وقد قبل جبين ابنة أخته : ولكن مياه عين الفوارة لن تجف ..." كادت البسمة أن ترتسم على شفتيها المحمرتين ن دون أحمر الشفاه لولا أن أختها "!.!" انفجرت بالبكاء وهي ترى شقيقتها في هذه الحالة .."بالأمس كانت تضمد جراحاتي وتسكن الحمى صدرها قبل أن تصلني .. ولا تترك حتى النسمات تلمسني بسوء ..وتسهر ليلها كي انعم بسنة من نوم .. واليوم صارت طريحة الفراش وليس بوسعي فعل أي شيء ؟!!......./............/.............!!/؟) ..توقف عبد القادر عن البوح لحظة كانت فيها الزفرات أفصح منه.. وتابع يقول : " السندباد لم يجرب الرحلة الثامنة ذو الشيب الصغير رحل من قريته..تاركا وراءه أمّا كسيرة ثكلته في حياته ولم يمت بعد .. مازالت تنام على طيفة ووتستيقظ عليه مازالت ترفع يديها بالدعاء دبر كل صلاة فتدعو الله سرا وعلانية والدموع ما استراحت من عناء سفرها الدائم بين المآقي و الوجنتين .. مازالت تخرج بعد صلاة الفجر وتمشي في الأزقة متفحصة المارين حينا وسائلة إياهم حينا آخر ..ألا تعرفون أين رحل ابني ؟ .. مازالت تسائل الجدران واللافتات التي خطها بيده . لم تكن لتقرأها .. ولكن تدري وتحس أنه جسد فيها بعضا من أحلامه ومآسيه .. مازالت تنتفض من مكانها .. كلما سمعت طرقا على الباب .. مازالت تبكي أمام سريره الذي كثيرا ما تجافى عنه جسده المنهك ...مازالت تضم أوراقه و التي نفث فيها أحزانه إلى صدرها وتحاول أن تتهجأها .. فلربما يكون فيها ما يدلها على مكانه ..مازال الصغار يسألونها عنه كلما مرت أمام المدرسة التي كان معلما بها ... مازالت تفتح خزانته كل مساء وتجس بدلاته الرمادية وتقبلها وتشمها فتخضبها بالدموع .. مازالت المنشطة التي استضافته يوما ببرنامج دروب الإبداع تذكرها به كل ثلاثاء .. مازالت تذكر يوم سألته بكل أمية : يا ذا الشيب الصغير من أين تأتي بذاك الكلام الذي تقرأه على السامعين ؟ وكيف انه بكى وقام من مكانه صوب السرير ونام دون أن يتناول عشاءه ..مازالت تذهب إلى تلك الربوة التي كان يجلس فيها ناظرا إلى السماء حينا ومطأطئا رأسه حينا مازالت تذكر ..كل شيء..ذو الشيب خلد اسمه في كل مكان في نفوس الناس ..في قلوب الصغار.. في عيون اليتامى على الجدران ..في الجرائد والمجلات .. في لافتات المحلات وفي الأمسيات .. ولكن كيف يهجر أمه ..كيف يسمح في أخته الصغرى ... كانت لا تقرب أحدا غيره تناديه دوما" أمي " كان دافئ الصدر كصدري ..إنها تحترق في صمت .. تخاف أن تدنو من سريره .. تحمل فقط قلمه الأحمر المفضل .. الذي يرسم به آهاته فقط ..لحظة الفقد والكمد .. مازالت عيونها تسألني .. وبماذا سأجيبها .. وهل أجبت نفسي ..مازال.. مازلت .. مازالوا .. فمتى تزول عنك المواجع وتعود إلينا ..يا بني ... متى تعيد للبيت نوره .. وللقرية حياتها متى .../