تابع ..ذو الشيب الصّغير ..مسافر في فجيعته .. وحامل سر الكثير في سفره..افتقدته الأمكنة .. فهل يدري بأن سعادة سيغورني مرهونة بعودته .. وحيرة أسعيد مقرونة بغيابه.. وهل يعلم أن أمه قد أبيضت عيناها من الحزن.. وان قريته صارت خرابا من دونه .. وأن مدينة سطيف تحمله مسؤولية الهجر .. وأن الأصدقاء كلهم ينتظرون .. وهل تعلم فقيدته سمية أنها سبب كل ما حدث لذي الشيب الصغير ... وان تشابه الأسماء لا يكون دوما بالمصادفة كل هذا كان يدور في ذهن أسعيد وهو برفقة صديقه عبد الكريم على متن سيارته متجهين إلى المدرسة التي كان ذو الشيب الصغير معلما بها ذات يوم .. بعد أن ألح اسعيد على صديقه بزيارتها ..فذو الشيب الصغير ما مر يوما بمكان إلا وترك آثار ومعالم من بعده .عله الحظ يبتسم لهما في مكان كهذا .. وعله الخط ينوب على صاحبه في موقف كذلك ؟!! * * ====فتحت هدى عينيها الناعستين على صوت زوجها خالد وهو ممسك بالرواية المأساة بيمناه مخاطبا نفسه : -ربما يكون الحظ حليفكما هذه المرة .. ربما تشرق شمس الحقيقة من بعد ليل طويل .. ربما تحقن دموع المفجوعين ولكن أنا على يقين بان غياب ذي الشيب الصغير يحمل سرا ويخفي وراءه الكثير ثم غرس خالد عينيه المشفقتين ثانية في ثنايا السطور .. وراحت "هدى" تتابع قراءة الرواية المأساة في هاتين العينين الساهرتين ..==== * * * لم يبك امرؤ القيس يوم رحلت عنيزة وأهلها إلى حيث لا يدري .. ولكنه بكى وأبكى غيره يوم وقف على أطلال بالأمس كانت مشيدة زاهية بمن فيها .. ولم يفجع روميو برحيل جوليت .. ولكنه فجع يوم وقعت إحدى رسائلها القديمة بين يديه بعد رحيلها.. ومهما نتأثر برحيل أحبتنا يوم الوداع .. قلن يكون ذلك التأثر بحجم الانهيار الذي يصيب أفئدتنا ونحن نقف ثانية في أماكن شهدت لقاءاتنا وجلساتنا وأنصتت لخفقان قلوبنا ونحن صامتين أمام أحبتنا تاركين ألسنة السكون تردد كلمات نسجتها مشاعرنا وأحاسيسنا .. ولم تكن فاجعة أسعيد لتتوقف عند آخر مشهد كان فيه جسد زوينة مخرقا بالرصاص في حضنه ..لكن الفجيعة تتجدد كلما تذكر زجاجة العطر .. والمصحف الشريف اللذين مازالا ينبهانه كل لحظة بان زوينة لم تمت.. وهاهو اليوم أماما المدرسة التي كان بالأمس ذو الشيب الصغير احد عناصرها ..احد أبنائها ..أحد اللاجئين إليها يدخل الساحة غير المسطحة .. تسارع دقات قلبه وكأن شيئا ما ينتظره كان عبد الكريم جنبه يتأمل نظراته .. يستقبلهما المدير بادئا بالترحيب بالمفتش الذي عرفهما ببعضهما بلباقة وأدب .. وبطريقته الخاصة .. ثم ساروا معا إلى مقر الإدارة وكانت عيون أسعيد قد بدأت تتفحص وتسجل .. بعض من المعلقات في مكتب المدير بخط ذي الشيب الصغير الذي صار يعرفه ويميزه من ألف خط .. وكان المفتش يتمنى ألا تتجرا الصدفة وتنطق على لسان المدير بذكر "ذي الشيب " تماما .. ودامت الجلسة طويلا ومن خلف زجاج النافذة كانت نظرات أسعيد تتهرب إلى الخارج ومن حين لآخر يسمع أصوات التلاميذ داخل الأقسام وهم يشاركون معلميهم سير الدروس فتتحرك في داخله مشاعر صار يخاف ثورتها .. وذكريات معلم راحل يؤجل استعادتها إلى حين فسحة في ساحة المدرسة كتاباته على الجدران ..رسوماته لمساته كلها تكلم أسعيد .. الأحرف تسائله: أين من رصفنا .. ورسمنا..بريشته وبقلبه ؟!!" العلم نور والجهل ظلام " "تاج المروءة التواضع " الأم مدرستك الأولى .. والمدرسة أمك الثانية .. أما المفتش فكانت الأمكنة تسائله ..أين من كان معك صباح يوم مشرق هنا .. أين من ...هنا ... كان يعلم أنه لم يأت في زيارة تفتيش للمعلمين .. بل زيارة تفتيش عن بقايا الأمس .. بقايا ذاكرة مثقلة بالأحداث.. ثم استأذن المدير في الدخول إلى مسكن المعلمين إذا كان هناك من بداخلها .. دق الباب ..فيفتح الأستاذ منير الذي رحب بالضيوف وتعرف بعدها على من رافق المفتش الذي راح يحث الخطوات إلى غرفة كان بالأمس ذو الشيب الصغير ساكنها .. لم يقو على الجلوس وقد تاه في هذا الجو الذي لا يستشعره أحد غيره ..استأذن المدير وخرج ..واستأذن منير وخرج ليحضر بعض المشروبات لضيفيه .. كان الموقف أصعب من أن يتمالك المفتش نفسه ..فأطلت دمعتان من شرفات جفونه سرعان ما أولهما بألا تفعلا.. كانت الآيات القرآنية التي كتبها" ذو الشيب " مازالت واضحة داكنة ..حكم.. أمثال .....أبيات شعرية.. رسومات مبهمة غامضة.. بألوانها الحزينة ..قرأ أسعيد كل ما هو مكتوب... فهم كل الرموز لكنه لا يعرف قصد ذي الشيب ..أبدا !! تكلم المفتش أخيرا وقال: ها هو ذو الشيب الصغير .. يؤرخ لجراحاته بكل الوسائل وفي كل مكان .. وهذه هي غرفته طيلة شهور وأعوام .. وهذا هو الركن الذي كان يختاره لفراشه... وهذه الخزانة التي كان يضع في رفوفها أغراضه وهذا هو المشجب لملابسه وهذه هي النافذة التي كان يطل من خلالها على قطع الليل وشظايا قمره الغائب وفتات أنجمه الغائرة ... وهذا هو المكتب الذي لم يكن يرتاح إلا إليه .. وعليه كانت أوراقه وأشعاره ورسائله ورسوماته وأسراره .. وهذه هي :...... وقبل أن يقول ما هي دخل عليهما منير المشروبات الباردة أثلجت صدريهما الملتهبين ..واستأذن متوجها إلى قسمه للتدريس تاركا ضيفيه اللذين عجلا بالخروج .. وهاهما يتوجهان صوب المطعم متفقدين .. باحثين لا متناولين لوجباته فالشهية انقطعت من يوم انقطعت فيه أخبار ذي الشيب الصغير .. كانت عيون الصديقين عبد الكريم وأسعيد تقعان على كل صغيرة وكبيرة.. ويلجان باب المطعم ويتنقلان من جهة لأخرى .. من جدار لآخر.. وعلى جدرانه الأربعة بقايا ذي الشيب الصغير .. كانت اللوحات المرسومة مكشوفة إلى حد فظيع .. يطغى عليها اللونان الأسود والأحمر.. لكن لوحة عنوان ....سأعود..أين غاب القمر ؟ "الخلاص" .." وداع" ماعدا لوحة واحدة كان إطارها مستطيلا ولم يكن مرسوما فيها أي شي لكن كتب أسفلها : " تتمها ريشة الأقدار حينها تسربت تنهيدات قاسية من قلبيهما .. وعرفا انه راسمها قد سلم أمره للقدر .. وفجأة وقعت عينا أسعيد على لوحة في الجدار جذبه إليها عنوانها .." الرحلة الثامنة " !! فقال وقد تبعه عبد الكريم : الرحلة الثامنة !! أأنت واثق يا ذا الشيب في النجاة من مخاطرها ؟!!ألم يعجز السندباد في حلته الثامنة ؟!! لماذا تغامر ؟! لماذا تعشق المغامرة والأخطار ؟..لماذا تعرض نفسك للهلاك !! وسترجع إلينا سالما ..واستدار إلى اللوحة الأولى التي كتب أسفلها "سأعود" وقال :.. يتبع