بقلم: الطيب طهوري/ الجزائر غصن الدم جنب الجدار العالي جلسوا..الأيادي على الركب والرؤوس على الأيادي.. أخذت الساحة التي كانت تمتد أمامهم تفرك عينيها، وتنظر ببلاهة إلى المارين وهم يعبرون مسرعين.. كانوا يجلسون والنعاس يداعب أجفانهم .. حين اوقف الشاحنة نهضوا.. وجهوا أبصارهم إليه جميعا.. نزلت البطن المنتفخة تجر خلفها رجلا طويل القامة ممتلئ الوجنتين..تأملهم الرجل واحدا واحدا.. أنت..أنت..و..أنت..أشار إلى الثلاثة الذين كانوا يقفون جنبه ..واستدار إلى الخلف.. تحرك الثلاثة..لم يشأ تضييع الفرصة، ولحق بهم.. حين فتح الرجل باب غرفة القيادة وأدار المحرك كانوا قد ركبوا.. قال أحد الثلاثة: لقد أشار إلينا نحن الثلاثة فقط.. أدار الرجل ذوا الوجه النحيف والعينين الغائرتين جسده إلى الوراء..ولم يقل شيئا..نظر الثلاثة إلى بعضهم البعض وانخرطوا في حديثهم الذي كانوا قد بدأوه قبل الصعود.. شقت الحافلة المهترئة بهم طريقا ترابيا..كان الغبار يصعد من شقوقها المختلفة .. هذا ثالث يوم.. تذهب وتعود كما ذهبت..قالت المرأة.. نظر الأطفال الثلاثة إليه.. ونظروا إلى أمهم.. مدت المرأة إليهم ذراعيها.. ضمتهم إليها بحنينها الغامر.. واصلت الشاحنة سيرها المؤلم.. وضعت المرأة قطع الجاوي في وعاء الجمر ..سيزول النحس الذي لازمك.. سيزول.. كان الرجل ذو الوجه الشاحب ينظر إلى الطريق التي كانت تمتد وراء الشاحنة.. أخذت المرأة تعد: واحد..إثنان..ثلاثة.. حين توقفت الشاحنة..فتح الرجل الباب ونزل..نزل الرجال الأربعة.. أنت وأنت وأنت.. و.. هل أشرت إليك أيها الرجل؟! طأطأ الرجل ذو الوجه الشاحب رأسه.. لابأس ..قال الرجل..سنرى.. هذا هو الحقل أمامكم.. أروني همتكم .. توجه الرجال الأربعة إلى الحقل..علقوا صدريات الحصاد في أعناقهم وربطوها بإحكام إلى أخصارهم.. وقفوا أمام حقل السنابل الصفراء الذي كان يمتد ويمتد.. اختار كل واحد مكانه .. رفعوا مناجلهم وابتدأوا.. كانت العصافير تملأ الفضاء بزقزقتها.. والرجال يحصدون.. كانت الفراشات تتطاير أمامهم مبتعدة.. والرجال يحصدون.. كان بخار الجاوي يلف رأسه.. والمرأة ترفع يسراها: يارب.. كان الجمر رغيفا..والمرأة تنأى:... يارب.. كانوا يحصدون.. حين تمتلئ القبضة بأعواد السنابل يربطها..يضعها جنبا..ويمد منجله.. والحقل صهيل.. أخذ الرجال الثلاثة يغنون: عزلةْ حوْ حوْ انّحوها وانروْحوا أخذ الرجل أيضا يغني.. المناجل تتسابق.. والرجال يغنون.. لن تعود هذه المرة كما ذهبت..لن تعود. عزلةْ كُبْ الزيت انحوها وانروْحوا للبيت. يمد يده إلى الأصغر.. يضمه..يقبل وجنتيه.. يبتسم الأصغر.. تكرر المرأة: لن تعود هذه المرة فارغا.. لن تعود.. يقبض منجله بشدة.. والحقل عويل..تتساقط قطرات الدم..يمد إصبعه إلى الرجل جنبه ويشير إلى قميصه الممزق.. يربط الرجل الأصبع: انتبه لنفسك يارجل.. يرفع ا لمنجل.. الرجال يحصدون.. والحقل جنون.. حان وقت الغداء أيها الرجال..يضع الرجال مناجلهم..يفكون صدرياتهم..ويبتسمون.. يجلس الرجال.. ويجلس.. تمتد أياديهم إلى كسرة الشعير.. وتمتد يداه.. يرتشفون اللبن.. ويرتشف..يضربون حبات البصل بقبضاتهم.. ويضرب.. لقد تخلفت كثيرا عن زملائك أيها الرجل..حصادك بطيء جدا.. تتوقف اللقمة في الحلق .. ينظر إلى أصبعه الملفوفة.. واللقمة في الحلق رماد.. تمتد إليه يد الرجل.. يمد يده.. هذه أجرة يومك..مع السلامة.. يقف الرجل ذو الوجه الشاحب والعينين الغائرتين.. ينظر إليهم..يتدحرجون حصى في الصمت.. بعيدا.. لن تعود هذه المرة فارغا.. لن تعود.. يجري الأطفال إليه.. يتعلقون بساقيه.. يخرج حبات الحلوى.. ينطلق الأطفال إلى الداخل فرحين.. يناولها الزوادة.. يرمي جسده الأغبر فوق حصير الغرفة.. تخرج قطع الخبز وكيس الحليب.. ترفع كفيها: يارب.. يرفع عينيه المغرورقتين إلى الأعلى: يارب.. تأخذه الغفوة:... يارب.. يا.. ر..ب.. كان الحقل بعيدا..