بالرغم من كونه روائيًا متمرسًا استطاع أن يصنع لنفسه مكانًا بارزًا ومميزًا في خريطة الأدب السوداني خاصة والأدب العربي بشكلٍ عام، إلا أنه يروق ل "أمير تاج السر" أن يصدر بين حينٍ وآخر كتابًا من تلك الكتب النادرة المميزة التي يكشف فيها عددًا من أسرار الكتابة وشجونها الخاصة، ويبدو باستمرار حريصًا على رد الفضل فيما يتعلق بالكتابة و"الحكاية" إلى أصحابه الأصليين، هؤلاء "الحكائين" الذين يتصدر اسمهم كتابه الجديد الصادر مؤخرًا عن دار الربيع العربي. يغوص الكتاب ويتطرق لمواضيع متنوعة وعديدة، وإن كانت تدور كلها في فلك الكتابة والثقافة بشكل عام، يمكننا أن نقسِّم مواضيع الكتاب أو مقالاته إلى ثلاثة أقسام رئيسة، الأول: ما يتعلق بالكتابة وشجونها، والثاني: تعليقات على كتب وروايات خاصة قرأها أمير تاج السر وتفاعل معها، والثالث: إضاءات على عدد من المبادرات والأنشطة الثقافية، سواء ما شارك فيها الكاتب بنفسه أو سمع عنها.
(في الماضي كنا نطلق لقب الحكاء على أشخاص قليلين، نادرًا ما نصادفهم، كانوا يملكون تجارب إما خاضوها بالفعل، وإما تخيلوا أنهم خاضوها بما يملكون من موهبة تفعيل الخيال، وصبر في الاستماع للراديو الذي يزودهم بأدوات الحكي اللازمة، يتصدرون المجالس في أي مكان يزورونه، ويحكون وسط استغراب من يستمع إليهم. وغالبا ما يروون قصصًا لن تحدث لأمثالهم قط، لسبب بسيط، وهو أنهم يتجاوزون حتى الخطوط الحمراء للخيال). (أحس بشيء من الأسى تجاه عدم الاهتمام بأمثال هؤلاء الحكائين المبدعين، هم في الحقيقة يكتبون، أو يحكون شفاهيًا للمتعة الشخصية، أو الرغبة الجامحة في إيصال أفكارهم، لكن في حكاياتهم ثراء غير معقول وهم جديرون بالاحتفاء). (لقد عرفت حكائين شفاهيين كثيرين أثناء مصاحبتي للكتابة، وحقيقة، استلهمت منهم عددًا من تلك الحكايات التي كانت خامات جيدة، تبحث عمن يطورها، ويوثقها في نصوص مكتوبة). هكذا يرد الروائي الحكاية إلى أصحابها الأصليين، ويعترف ببساطة بالأخذ عنهم؛ بل وبأن معينهم خصب لا ينضب، وهو إذ يتحدث عن "الحكائين" والكتابة يبدو مهمومًا برصد وضع الكاتب والأديب في المنطقة العربية، ولا يخلو الأمر من مقارنته بغيره ممن يطلقون عليهم "نجوم المجتمع" في الفن أو الرياضة مثلًا، يقول في مقال دال يفيض بالحزن والشجن بعنوان (كلنا ماركو بولو): (لابد من الاعتراف بأن الكتابة لا تمنح شيئًا على الإطلاق، لا ثراء ولا نجومية، ولكن تراكمات من العذابات المتصلة، تنتهي بصاحبها إما إلى الجنون أو الموت، من دون أن يكون حقق شيئًا يذكر، وحتى أولئك العظماء الذين حققوا نجومية ما في الكتابة، لم يصبحوا من الشعبية بحيث يفلتوا من شباك الجهل بهم لدى بعض الناس). ولعل هذا الوضع المأساوي يتجلى بشكل أكبر حينما يتحدث "أمير تاج السر" عن حادثة حقيقية جرت في مصر مؤخرًا، وهي وفاة الشاعر السوداني (محمد حسين بهنس) مشردًا في شوارع "القاهرة" عام 2013، حيث لم يلق أي عناية أو رعاية لا من الدولة ولا من اتحاد الكتّاب، وهو إذ ينعي وفاة ذلك الكاتب يطالب ويأمل: (أن تفعّل أدوار اتحادات الكتاب المنتشرة في كل بلد، وتمنح لها ميزانيات معينة لحماية المبدعين من التشرد والبؤس، وأن تصبح السفارات في الخارج، صدورًا للاحتضان في زمن كثرت فيه الهجرات، ومحاولات اللجوء لما يظنه المبدع حياة أفضل، لا مضادات صادة، وأن تصبح الأوطان في النهاية، أوطانًا حقيقية واسعة الصدر تضم كل من انتمى لترابها بطيب خاطر، فحتى يصبح الإبداع إبداعًا حقيقيًا وتنويريًا كما أردد دائمًا، يجب أن يكون المبدع تحت حماية ما، إن لم يستطع أن يعمل تحت أي ظرف، أو اضطر لترك وظيفته التي تحميه، لأي سبب) لعل هذه الكلمات تلقى آذانًا تسمع أو تستجيب! من جهة أخرى، تثور لدى "أميرتاج السر" وربما أكثر من مرة "أسئلة الكتابة" و"حكاياتها الطريفة"، والتي يبدو أنه موعودٌ بها باستمرار؛ إذ يصله تعليق من أحد الصبيان (واسمه مؤمن) إلى أن ما يكتبه إنما هو "كذب"، وكذلك تعقب عليه عجوز (اسمها آمنة) فتنتعته بأنه "كذاب"، والكاتب لا تفلت منه تلك التعليقات التي قد تبدو للآخرين سطحية أو عابرة، وإنما يتوقف أمام دوافع تلك النظرة التي أصبح عليها المجتمع من تصوّر أن الكاتب (لاسيما الروائي) ومن "يختلق القصص والحكايات" إنما هو كاذب بالضرورة، يحلل "أمير" في مقاله (رأي لمؤمن وآمنة) تلك النظرة، فيعتبر أنها ليست بالضرورة ذمًا للإبداع، وإنما هو اتساقٌ مع شروط الكتابة الجيدة، أي تلك التي تأخذ شيئًا من الواقع وتبني عليه لتضع في النهاية هيكلًا يملك ملامح الحياة الواقعية وملامح أخرى ليست من الواقع في شيء! ذلك أنه يرى أن "الكذب هو الخيال الذي يطوّر بذرة الواقع، يلقحها ويغرسها في تربة صالحةٍ للحكايات لتنمو حكاية قابلة ليتذوقها كثير من الناس". ومن القضايا التي تكرر طرحها في الكتاب أيضًا وفي أكثر من مقال، قضية العلاقة بين الكاتب والناشر والمجتمع وطريقة الترويج للعمل الأدبي، كل ذلك لا شك يثير موضوع "المحرر الأدبي" أو "الوكيل الأدبي" الغائب في مجتمعاتنا العربية، والتي يبدو أمير تاج السر حريصًا على وجودها وتفعيلها في أسوة بما يحدث مع الكاتب والأديب في بلاد الغرب؛ بل إنه يعتبرها "من ضرورات الكتابة". إننا بحاجة لوظيفة المحرر الأدبي الرسمية في العالم العربي، وحين تكون رسمية، قطعًا هي ملزمة بخلاف رأي الصديق أو الزوجة، وهو رأي ربما يلتزم به الكاتب وربما يلقي به بعيدًا. قطعًا ستضيف مثل تلك الوظيفة كثيرًا للإبداع المكتوب، وسنتخلص من الزوائد التي تملأ الروايات بلا معنى. الرواية المكتوبة بفكرة خلاقة وأسلوب ذكي، ومرت على محرر ذي دراية وموهبة، تحدث في رأيي أثرًا أعمق مما لو أنها كانت مسؤولية الكاتب وحده. وإذا كان الكاتب مهتمًا بالكتابة والنشر وقضايا الواقع الثقافي العربي حريصًا من خلال ما يكتبه على رصده، فإنه في البداية وبين هذا وذاك فهو "قارئ" محترف، حريصٌ -فيما يبدو من تعليقاته وكتابته- على مواصلة إثراء لغته وخياله بالمزيد من الحكايات والقصص المنثورة هنا وهناك بين الروايات والكتب الجديدة، مهتم بجمع ما تناثر من أفكارها في عدد من مقالاته، يأتي ذلك بشكل مفصل أحيانًا عندما يعلق مثلًا على أثر السينما على الأدب في مقال بعنوان (السينما أداة لترويج للرواية)، ويتحدث عن رواية (حياة باي) التي تم تحويلها إلى فيلم سينمائي بنفس العنوان، ويرى أن ذلك الأمر مهم وإيجابي في تقريب جمهور السينما العريض من قراءة الأدب، لاسيما إذا كان النص المأخوذ عنه الفيلم السينمائي نصًا بثراء (حياة باي) وقيمته. كذلك يلتقط "أمير تاج السر" بحنكة الروائي الشغوف بالعوالم المختلفة ورصد الظواهر التي يدور حولها الكتَّاب يلتقط عددًا من الكتابات التي يبدو التميز واضحًا لكتابها، فيتحدث في مقاله (اكتشاف الغامض) عن عوالم الصحراء مثلًا التي قدمها "إبراهيم الكوني" باقتدار في رواياته فيقول: (الكوني قدم لي الصحراء التي لا أعرفها حقيقة، واكتشفت أن وراء ذلك القحط الذي يبدو للعيون، حيوات كاملة تتشكل وتنمو، وأيضًا تستقر في بقعة ما، برغم الرحيل الظاهري. توجد ميثولوجيا فريدة، سحرة ومتنبئون، وقراء بخت، وزعماء وتوابع وذلك المجتمع الذي تحكمه قوة التحمل، ولا يوجد فيه سكن لضعيف أو مستهلك، ولأنني لم أكن أتوقع أن أرى حبًا جارفًا أو عواطف تندلق عبر تلك الرمال، فقد فوجئت بوجود نساء رقيقات، يعشقن ويتغزلن ويترنمن شعرًا، ورجال لهم ملامح أسطورية تتمدد في خيالات النساء). كما يشيد برواية "سلطانات الرمل" للروائية "لينا هويان الحسن"، وما تقدمه في روايتها في أدب الصحراء غير المكتشف أو المعروف، بالإضافة إلى كم المعلومات الذي تحمله الرواية. ويشير في مقالٍ آخر إلى "الليل والرواية" منذ كانت الحكايات متعلقة "بليالي ألف ليلة وليلة"؛ إذ يرى أن "الليل" هو الزمان الأفضل لاستعارته في فنون المأساة، وهو ملهم لكل الأجيال الكتابية، ثم يتطرق للروايات التي يحمل اسمها "الليل" فيذكر منها (باب الليل) لوحيد الطويلة، و(أعمال الليل والبلدة) لإبراهيم إسحاق. ويتحدث عن رواية "ليلة لشبونة" للألماني "إريك ماريا"، التي تصور رعب الحرب وذلك الظلام الخانق الذي كانت تعيشه أوروبا في أربعينيات القرن الماضي. وفي معرض حديثه عن (إلهام الكوارث) يتناول بعض الأعمال الروائية التي استحضرت كارثة "هيروشيما" اليابانية، وخاصة رواية (الظلال المحترقة) لكاميلا شمسي التي يراها تتميز بأسلوبها الشاعري الذي يجعلك تعيش الليل كله مع جثة دون أن تحس بغربة أو وحدة أو فزع، ويرى أن تقنية الرواية في كتابتها كانت متميزة حيث تنتقل الكاتبة من مكان لآخر متتبعة سير الشخوص، ثم تعود لمكان الكارثة دون أن يحس القارئ أنه خدع في خط السير، و"أمير تاج السر" إذ يشير إلى إبداع ناتج عن رصدٍ لكارثة كبيرة من تلك الكوارث، فهو يرصد تلك الأفكار التي يستوحي منها الكتّاب كتاباتهم وإلى أي مدى يبرعون في تمثل تجربة من التجارب في كتابتهم. وإذا كانت الكوارث من محفزات الكتابة، فإن "الديكتاتورية" أيضًا تبدو كذلك، يشير "تاج السر" في (لدينا قصص عن الديكتاتوريات) إلى أن "هيرتا مولر" الروائية الرومانية التي منحت جائزة نوبل للآداب عام 2009، لديها قصة ترويها حيث عاشت في ظل حكم "شاوشيسكو" أحد أشرس ديكتاتوريي أوروبا، يتحدث "أمير تاج السر" عن رواية "مولر" ثم يعقِّب بأن تلك الدوافع للكتابة لا شك موجودة بوفرة في البلدان العربية، وأن تلك الحكايات موجودة طوال الوقت لدى أشخاصٍ كثيرين ولكنهم قد لا يتمكنون أو لا يستطيعون أن يحكوها. ولأن "أمير تاج السر" حريص على المشاركة في النشاطات الثقافية المختلفة، يرصد لنا عددًا من المبادرات الثقافية الهامة التي ربما لا يعرفها الكثيرون، مثل المبادرة الثقافية (اقرأ) التي أقامتها شركة "أرامكو" السعودية التي تستهدف تنمية موهبة القراءة لدى الشباب من الطلاب بدءًا بالمرحلة الإعدادية (المتوسطة) وحتى الجامعة، يذكر "أمير تاج السر" كيف كانت تلك التجربة ثرية وممتعة في آنٍ معًا؛ إذ لم يعد الأمر مقتصرًا على "ورش الكتابة" ولكن هناك قرّاء يختارون بين عدة كتب تم التصويت عليها ويقدمون تلخيصهاتهم لما قرأوه من تلك الكتب أمام جمهور ويعرض على لجان متخصصة لتصفيات مبدئية ثم يختارون من بينهم "قارئ العام". ويشيد "أمير تاج السر" بتلك المبادرة التي يرى أنها مهمة جدًا وأنها مفيدة لتشجيع القرّاء والكتَّاب على حدٍ سواء، ويتساءل لماذا لا يكون هذا البرنامج عامًا بحيث تحتضنه أو تتبناه كل الدول العربية كل حسب طاقته وتقدم فيه جوائز للقراء المميزين؟ ويتحدث كذلك عن زيارته لمعرض "الشارقة الدولي للكتاب" ومشاهداته هناك لعدد من المشاريع الثقافية الجيدة، مثل إطلاق مبادرة لترجمة الأدب العربي للغات أخرى، ومبادرة أخرى لتكوين مكتبات للأسر أو مكتبات في البيوت (برعاية معرض الكتاب) وغيرها من المبادرات التي يرى أنها وسيلة هامة وفعالة لربط الأجيال الجديدة التي تستهويها التكنولوجيا الحديثة بالقراءة والكتاب بكل شكل متاح. وهكذا تدور في هذا الكتاب بين عدد من المواضيع الثرية والممتعة في آن واحد، حتى تخرج منه بحصيلة معرفية وشجون أخرى تتراكم في ذهنك الأسئلة والتعليقات، لاشك أنك سترغب في قراءة الروايات التي أشار إليها أو عرضها (لاسيما بجعات بريّة وليلة لشبونة وحياة باي مثلًا) وستفكَّر أكثر من مرة في متابعة الكثير من الأنشطة الثقافية، وربما يحالفك الحظ في التعرف على بعض "الحكائين" الشعبيين أو ترهف السمع لحكاية من حكايات الأجداد وكبار السن، وربما يستوقفك كذلك عدد من أسئلة الكتابة المؤرقة التي يجيب عنها "تاج السر" بكل بساطة.