أتابع أعمال الروائيين الجزائريين وأعتبر “قسيمي" من الكتاب الرائعين لا يمكن الحديث عن “الأدب الروائي" السوداني الحديث دون التعريج على تجربة “أمير تاج السر"، الطبيب الذي داوم على كتابة “الرواية" ولفت إليه أنظار القراء والنقاد في آن واحد.. وقد حققت إصداراته رواجا كبيرا في العالمين العربي والغربي؛ حيث صدر له 19 عملا روائيا، ترجم بعضها إلى عدة لغات عالمية. ورغم العلاقة الأسرية، التي تربطه بالروائي الكبير “الطيب صالح" (خاله)، فإن “أمير" يعتقد أنه غير متأثر روائيا بتلك التجربة، رغم إقراره بأهميتها في الواقع الروائي العربي والعالمي؛ حيث خلق لنفسه مسارا فنيا مختلفا... في هذا الحوار يتقاسم “السر" مع قراء “الأثر" تجربته ورؤيته للمشهد الروائي العربي والجزائري. أنت أحد الذين زاوجوا بين الرواية والطب، هل تعتقد أن ثمة علاقة بين “السرد" والتطبيب، فأين تجد القواسم أو الفوارق الموضوعية بينهما وأنت تمارس عملك الروائي والطبي؟ ظاهريا لا توجد رابطة بين ما هو علم يمكن دراسته وما هو فن يوهب للإنسان بلا حيلة له، لكن أستطيع أن أقول أن الطب والفن كلاهما يهتمان بالإنسان، وقد استفدت من الطب كثيرا في معرفة الناس ودراستهم، ومن ثم إنتاج شخوصي في الكتابة، أيضا تعلمت الصبر الذي كان مهما في الكتابة. ماذا أضافت حياتك العلمية إلى تجربتك الروائية.. لجهة الصقل أم تشكيل الرؤى؟ أضيف هنا إلى إجابتي السابقة، أن التنقل من مكان إلى مكان، والسفر الذي أتاحته المهنة، أدى إلى تنوع الثقافة، ورؤية مجتمعات جديدة، مما أثر كثيرا على الكتابة. المعروف عن “أمير تاج السر" كثرة النتاج الأدبي، البعض يعد ذلك بمثابة “غلبة الكم" على النوع، كيف يمكن أن ترد على هذه القراءات؟ كوني أنشر مرة أو مرتين في العام، لا يعني أنني أكتب كثيرا، إنها أعمال متراكمة أكتبها على مدى سنوات، وأنشرها حين أحس بأنها جاهزة للنشر. أيضا لا أكرر نفسي أبدا، فكل عمل كتبته مختلف عن الآخر كلية، في الفكرة والعوالم والصياغة، ولا تجد لي رواية نسخة عن أخرى، كما يحدث عند بعض الكتاب. عموما، لا أعتبر ما كتبته حتى الآن كثيرا، بالمقارنة مع آخرين أصغر مني سنا، وأتوا بعدي. تقول في إحدى أعمالك الروائية (صائد اليرقات) على لسان شخوصها، أن الرواية هي جزء من الواقع وجزء آخر من الخيال، (توليفة).. هل ينطبق هذا التعريف على تجربتك الروائية، وهل هناك شخوص حقيقية في أعمالك؟ نعم ينطبق بكل تأكيد؛ ففي كل أعمالي أزاوج بين الواقع والخيال، هناك أحداث واقعية وأحداث متخيلة، شخوص واقعيون وشخوص تخيلتهم، وفي بعض الروايات مثل “صائد اليرقات" و«زحف النمل" و«العطر الفرنسي"، انطلقت من أحداث حقيقية وأكملتها بالخيال، وشخصيات مثل الممرضة كاتيا وزيتون، وعبد الله فرفار، هم أشخاص أعرفهم في الواقع. في رأيي أن العمل الجيد يجب أن لا يكون واقعيا بحتا، يحكي للناس يومياتهم، ولا خياليا بحتا، يبتعد عن الناس. غالبا ما يرتبط ذكر “أمير" بالروائي الكبير “الطيب صالح"، نظرا لكونه من أسرتك الصغيرة، أين تجد الطيب صالح ضمن تجربتك الروائية؟ وهل تسعدك المقارنة أم تزعجك بعد هذه التجربة الطويلة؟ لم أسمع أن أحدا قارنني بالطيب صالح في أسلوب الكتابة، لأنني أملك أسلوبي الخاص الذي عملت عليه سنوات طويلة، عموما المقارنة مع الطيب إن حدثت لا تزعجني إطلاقا؛ فالطيب أستاذ للجميع حتى أنا، برغم أنني لم أتأثر به على الإطلاق. يقول ماركيز إن الروائي في الأصل يكتب رواية واحدة.. ثم يعيد كتابتها بطرق وشخوص مختلفة، كيف تجد هذا التعريف؟ أختلف مع ماركيز هنا، وهو لم يكتب فروعا لروايته “مئة عام من العزلة" بل كتب روايات بديعة قبلها وبعدها، إنها مقولات قد تكون أطلقت حقيقة في مناسبة ما وقد تكون منسوبة لماركيز، الذي كتب “الحب في زمن الكوليرا"، وكانت رواية شاهقة.. كل رواية لها فكرتها وشخوصها، وربما كان العالم مختلفا أو نفس عالم روايات سابقة هذا كل ما في الأمر. يُعرِف الكثير من النقاد العصر الحالي على أنه عصر “الرواية" بعد أن ظل الأدب العربي، يوصف بأنه “أدب الشعر" وأن “الشعر ديوان العرب".. فيما وصفه الروائي جمال الغيطاني بأنه “زمن الانفجار الروائي"، كيف يعرف “أمير" هذا العصر؟ الإنفجار الروائي، هذه كلمة صحيحة، الآن الكل يبدأ حياته الكتابية بالرواية، لدرجة أننا لم نعد نستطيع أن نميز بين الموهوبين وغير الموهوبين، كل يوم تصدر مئات الروايات، ودور النشر تساهم في ذلك.. وقد علقت مرة بأن “الرواية تسير إلى الهاوية" كما سار الشعر من قبل، وسيأتي يوم لا يجد الكتاب الحقيقيون من يقرأهم. هل ساهم “الكم الروائي" في صنع التراكم النوعي، أم الأمر يحتاج إلى وقت وتجارب؟ لقد قلت في أعمالي كل ما يمكن قوله، وحتى لو لم أكتب مرة أخرى، فالأمر سيان.. وكما قلت من قبل، كل رواية تحمل أفكارها الخاصة وعالمها الخاص. استحدثت الكثير من المؤسسات الثقافية والتجارية في العالم العربي جوائز أدبية سنوية، كيف تجد هذا الأمر، بما فيها “جائزة البوكر للرواية العربية" وجائزة “الطيب صالح" في السودان وغيرها؟ وجود الجوائز أمر جيّد، وأنا أشجعه كثيرا لأنه يتيح التنافس بين المبدعين، وإن كانت ثمة سلبيات، وهي تزايد الأعمال المكتوبة بصورة هستيرية، مما يراكم بعض الأعمال غير الجديرة بالقراءة، أيضا مسألة التذوق في التحكيم، التي يعتمد عليها المحكمون أكثر من اعتمادهم على الصياغة الفنية، وهكذا تصعد أعمال هشة على حساب أعمال راسخة. هناك تعريف تجاري أضحى يلاحق الفعل الأدبي العربي فيما يسمى ب “best seller books “ كيف تقرأ هذه الظاهرة خاصة وأنها غير مرتبطة بجودة المنتوج؟ ودورها في صناعة نجوم أكثر من قدرتها على صناعة أدباء؟ أتفق معك في ذلك، ليس كل كتاب يحصل على لقب الأكثر مبيعا، كتاب جيد، هناك شعوب عربية تقرأ لكتابها أو فلنقل تشتري كتب مواطنيها وبالتالي تزيد من عدد الكتب المباعة بغضّ النظر عن جودتها من عدمها، هناك أيضا كتّاب يملكون نجومية خاصة، وما يكتبونه في أي وقت يباع بشراسة.. هذا الأمر لا يهمني كثيرا، فأنا منشغل بالكتابة فقط والحمد لله لي كتب حققت مبيعات جيدة، سواء على المستوى العربي أم بعد ترجمتها إلى لغات أخرى. تحاول في كافة أعمالك الأدبية تقديم نماذج من الواقع السوداني، وتستلهم كثيرا من التراث، إلى أي مدى ساهم الموروث في تجربة أمير تاج السر؟ نعم اعتمدت على الموروث في أعمالي، التي استوحيتها من التاريخ مثل “مهر الصياح" و«توترات القبطي" و«رعشات الجنوب"... وحتى في الأعمال المعاصرة، لا أستوحي سوى من البيئة السودانية، هذا عالم أخبره جيدا ويتيح لي التحرك فيه بطريقة أكثر سلاسة من عوالم لا أخبرها. هل تتعمد اختيار أسماء غريبة كأسماء لشخوصك الروائية “فرفار"، نموذجا؟ الأسماء عندي مهمة جدا، وكل اسم له دلالته داخل الناس، كثيرا ما تأتي الأسماء وحدها بلا تدخل مني، وكثيرا ما أبحث عن الاسم الملائم، و«فرفار" كما أعتقد، كان لقبا ملائما لعبد الله حرفش، رجل الأمن المتقاعد الذي أراد كتابة رواية، وهناك أسماء في روايات أخرى، كانت تشبه الشخصيات إلى حد ما، مثل “آدم نظر" في “مهر الصياح"، و«ودعة المصاص" في “توترات القبطي" وغيرها. أي تجربة روائية تركت بصمة خاصة في حياتك وتجربتك الكتابية ولم تشف منها بعد؟ رواية “مهر الصياح" التي كتبتها عام 2002 ونشرتها للمرة الأولى عام 2004 هي درسي الخاص كما أسميه. قراءاتك الخاصة للأدب الجزائري.. كيف تجده الآن، وأي من التجارب الأدبية الجزائرية تثير اهتمامك ومتابعتك؟ الجزائريون مبدعون بلا شك، ولهم عوالمهم وفنياتهم الكتابية، وقد قرأت بالطبع لجزائريين واهتممت بتجاربهم مثل ربيعة جلطي في نادي الصنوبر، وأمين الزاوي في عدد من أعماله وبشير مفتي في دمية النار وسمير قسيمي، الذي قرأت معظم أعماله، وأعتبره من الكتّاب الرائعين، وكثيرون غيرهم. السودان بلد مترامي الأطراف تحده أكثر من 10 دول، إلى أي مدى ساهم ذلك في صياغة الرؤية للكتابات السودانية؟ نعم، الطابع الآفرو-عربي للسودان، ساهم في تنوع الثقافة إلى حد كبير، ولذلك تجد لدينا ثقافة هي مزيج من ذلك، وكل كتابة سودانية تستطيع تمييزها بسهولة لاحتوائها على تلك الخصوصية. أنت من بلد تشظى وانشطر إلى وطنين (بلدين) وهناك مخاوف من إعادة انشطاره مجددا، كيف تقرأ ذلك روائيا وإنسانيا؟ نعم، لقد آلمني ذلك بالفعل، وكنت قد كتبت روايتي “رعشات الجنوب" قبل الانفصال، وقلت فيها كل ما يمكن قوله، من جذور خلافنا مع الجنوب وما أدى إليه من تشظي. بالطبع لا أستطيع التكهن بالمستقبل، لكن كل شيء يمكن أن يحدث. كلمة أخيرة؟ أشكرك كثيرا على الحوار الجيد، وأتمنى أن أكون قد أجبت على الأسئلة بكل وضوح.