استطلاع/ نوّارة لحرش هل عبر الشعر عن مآزق الفرد والحياة والإنسانية في الوطن العربي كما يجب؟، هل واكب الأحداث الصعبة وقضايا القومية والمجتمع بحرارة فنية وبحساسيات شعرية أكيدة وزاخرة بالإبداع والإبداعية، أم ظل يسجل المآسي والنكبات بتقريرية فجة وبجمالية أقل؟ وهل لهذا الشعر دور حقيقي في الحياة العربية والإنسانية، أم هو تغريد بنبرات خافتة وخارج السرب العام لهذه الحياة والإنشغالات. هذه بعض أسئلة وإشكالات وانشغالات الشعر ودوره، أسئلة لها الحق في أن تنطرح وتطرح استفهاماتها على أهل الشعر والكتابة، هؤلاء الذين تفاوتت وتباينت إجاباتهم وأطروحاتهم بشأن السجال المتصل بدور الشعر في الحياة والقضايا والإنسانية.هذا ما سنكتشفه في هذا الملف. ربيعة جلطي/ شاعرة جزائرية أكبر كذبة صدقها العرب: الشعر ديوان العرب الشعر ديوان العرب، لعلها أكبر كذبة معرفية قالها العرب عن ثقافتهم ثم صدقوها مع الأسف وظلوا يتوارثونها جيلا ثقافيا بعد جيل. أعتقد أن الشعر ديوان الإنسان أينما كان وبمختلف اللغات وجميع الأقوام والثقافات. الشعر في مفهومي الخاص واحد من عناصر تعريف الإنسان بغض النظر عن عرقه أو لغته أو دينه. لا شك في أن العرب وضعوا الثقافة الشعرية والشعر فوق كثير من تجليات المعرفة الأخرى. فقد أحبوا به وحاربوا به وقرأوه على موتاهم قبل أن يقرؤوا عليهم النصوص الدينية وعلى رأسها القرآن الكريم. إلا أن الشاعر العربي يبدو لي كما الشعر تماما، يكبر دائما في جدلية علاقته مع السلطات الدينية أو السياسية، إن بشكل مباشر أو غير مباشر، فالسلطان من يحدد إتجاه الشعر بالرفض أو القبول. أكثر من 60 بالمائة من شعرنا مدح و20 بالمائة هجاء وما بقي موزع بين الوصف والبيانية. في إعتقادي أن الشعر العربي الحقيقي بنسبة قليلة جدا يتجلى، وذلك خلال جميع حقبه المتواترة، في شعر التصوف وشعر الخمريات، ففي هذين الفضائين إستطاع الشعر العربي أن يحلق وأن يحقق الشعرية بمفهومها الفلسفي. ويمكن أن نذكر هنا بشار بن برد والحلاج والسهروردي وابن عربي في "الأشواق". وهذا ما يجعل الشعر العربي شعرا. قال لي ذات مرة الشاعر الجزائري البروفيسور جمال الدين بن الشيخ الذي إشتغل كثيرا على بشار بن برد، إنه حين ترجم بعض أشعار هذا الأخير إلى الفرنسية وقرأه الفرنسيون تساءلوا قائلين: أهذا شاعر معاصر؟ إن حداثتكم الشعرية تشبه وتتلاقى مع الحداثات الشعرية العالمية. إن قصائد الخمريات والتصوف، وأعتقد جازمة أن بينهما كثيرا من نقاط الإلتقاط، إستطاعت أن تنقذ الشعر العربي الكلاسيكي من الموت بإنغماس الأولى أي الخمريات في شعرية اليومي بكل قوته وتجلياته ومفاجآته، بينما تعمقت الثانية في الروحي بكل إختراقاته ووجودياته. وإني على يقين أن يد الشعر التصوفي البيضاء أنقذت الشعرية العربية حتى الآن، ومنها خرج الشعراء العرب المعاصرون والحداثيون: أدونيس ودرويش وسعدي يوسف وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور... هل يملك الشعر مهمة؟ دون شك للشعر فعل نخبوي من خلال تفكيك اللغة التي يكتب بها. فالثورة التي تنتظر من الشعر أولا هي تثويره للغة وثورته عليها، وإني لا أرى مُجددا للغة سوى الشعر. فالشعر، كما يقول روني شار: هو إلتقاء كلمات لم يكن من المتوقع لقاؤهما، وفي كيمياء اللقاء هذا تصنع الدهشة التي تحيلنا على المجتمع والذات في وجوديتهما. لا شك أننا نلمس تراجع وجود الشعر بمفهومه الكلاسيكي تراجعا عالميا، إلا أنه يتأكد من خلال أشكال أخرى من الوجود الجمالي والمعرفي، كالموسيقى والغناء والمسرح التجريبي والدعاية والموضة وغيرها. لا شك أيضا أن الشعراء الإستفزازيين الذين يعكرون النظام العام قل عددهم، لهذا فالشعر الجديد يحتاج كذلك إلى شاعر جديد بسلوك إجتماعي ومعرفي وجمالي جديد. على الشعر أن يخلق نماذجه من زمانه الجمالي كي يدهش ويخلق الإنتباه الثقافي والجمالي. إن وسائل الإعلام إستثمرت حتى الآن في صورة المغني والممثل السينمائي والرياضي ولكنها لم تستغل بعد صورة الشاعر. أنا متأكدة أن الزمن القادم سيتم فيه الإستثمار في صورة الشاعر وفي النص الشعري وسيكون دون شك إقلاع جديد للشعر على الأقل على مستوى الإستقبال والقراءة بكل أشكالها المرئية والورقية والإفتراضية. ولأن الشعر ديوان الإنسان وملتحم بمصيره فيبدو أنه تجاوز النقش على الحجر أو التمدد على الرقعة أو الورق في تطوره وسيصل مع العصر الحديث لا محالة إلى التشكل على الصفحات الضوئية وغيرها من وسائل التوصيل الحديثة الأخرى. سعدية مفرح/ شاعرة كويتية ورئيسة القسم الثقافي لجريدة القبس يكفي الشعر أن يكون وحده هو القضية وهو الهدف لا أدري يا عزيزتي إن كان يحق لنا مساءلة الشعر بهذا الشكل؟ أعني هل على الشعر فعلا أن يعبر عن مآزق الحياة والإنسانية؟ هل هذه هي وظيفته أو احدى وظائفه؟ هل للشعر وظيفة أصلا؟ هل ينبغي أن تكون له وظيفة؟ هل على الشاعر أن يكون بطريقة أو بأخرى وبدرجة أو بأخرى مسؤولا عن ملفات الحياة حوله؟. أنا الآن أصبحت مقتنعة أن الشعر ليس مسؤولا عن كل هذا ولا ينبغي عليه أن يكون أصلا، ولعلنا نحمله ما لا تطيق رهافته وعفويته إن نحن فعلنا ذلك، لأنني لم أعد أؤمن بوظيفة خاصة أو عامة للشعر، ولا بشروط محددة له. يكفي الشعر أن يكون وحده هو القضية وهو الهدف وليس مجرد وسيلة جميلة لبلوغ أي هدف. جمالية الشعر تحميه من كل إفتراضات مسبقة. لا ينبغي أن نضع الشروط ونؤطر الأطر ونحدد القضايا للشاعر قبل أن يبدع القصيدة. عليه أن يكون نفسه وحسب وهو بصدد الشعر. وطبعا هذا لا يعني أن الشاعر يكتب من فراغ معرفي أو أخلاقي مثلا بل كونه يعبر عن ذاته وحدها يعني أنه يعبر عن هذه الذات بكل مكوناتها المعرفية والأخلاقية، وبكل تاريخها في مراحله المختلفة. وهذا يحدث غالبا لحسن الحظ مع الشعر الحقيقي ومع الشاعر الحقيقي. فلا يمكن أن نحرم الشاعر من كتابة قصيدة عن قضية تعنى بما أشار إليه السؤال بأنه مأزق من مآزق الحياة والإنسانية لأننا لا نؤمن بوظيفة للقصيدة، أو لأننا ضد المباشرة والتقريرية في الشعر أو لأننا لا نرى للشعر أي دور فاعل في الحياة بل ما أقصده أن يكون هذا هو وظيفة الشعر وهو دور الشاعر بدلا من أن يكون وسيلة للشعر وأداة للشاعر أحيانا. ومع كل ما قلته عليّ أن أشير بإحترام وإعجاب إلى قصائد كثيرة كانت لها تلك الوظيفة التي رفضتها للتو. وإلى شعراء كثيرين قاموا بالدور الذي لم أعد أستسيغه ولا أعتقد أنني سأقوم به لاحقا. فالشعر يبقى دائما خيارا مفتوحا ولا نهائيا. نصيرة محمدي/ شاعرة جزائرية الشعراء منشغلون بتلميع أسمائهم و المتاجرة بكتاباتهم يبدو لي أن الشعر في الوقت الراهن ظل بعيدا عن الإنشغالات الحقيقية والمآسي الكبرى التي نعيشها خاصة في الوطن العربي كما لو أنه يغرد خارج السرب، ربما لأن هناك حالة إحباط عامة وفقدان للمعنى وإنهماك في تفاصيل تبعدنا عن جوهر الأشياء وعمق الوجود. وربما هناك تسطح عام أفضى إلى إستبعاد قضايا خطيرة في عالمنا وإستسهال التعاطي معها والنظر من زاوية ضيقة لما يمور ويتحول وينكسر ويخرب في حياتنا. ينشغل الشعراء أحيانا بتلميع أسمائهم والمتاجرة بكتاباتهم والركض وراء العابر والسطحي.. وراء مظاهر كاذبة تقتل روح الشعر وتحطم سر العلاقة السامية بينه وبين الإنسانية. الشاعر الحقيقي مجبول على الإنصات لهذا العالم وكائناته لأنه مجبر على الإنخراط في الحياة والتعبير عن الهواجس الكبرى ومجابهة الأسئلة العصية. خيرة حمر العين/ شاعرة وناقدة وأستاذة جامعية في كلية الآداب بوهران التحولات الحضارية تلزم الشعر اليوم بأن ينصهر في نظرية الإتصال إن سؤال الشعر ما يزال إشكاليا، لامن حيث الأفق الإشاري الذي يتمتع به، وإتساع مجاله الدلالي ولا نهائية الترميز وحسب ولكن من حيث الوظيفة التأثيرية التي إلتزمت بها الشعرية، ولكن التحولات الحضارية تلزم الشعر اليوم بأن ينصهر في نظرية أشمل وهي نظرية الإتصال وذلك لأجل تحقيق مرامي وغايات إنسانية تجعل الشعر يخترق الشعرية الأرسطية ذات التصورات الميتافيزيقية المتعالية، وتتجاوز البلاغة التقليدية التي إختزلته في إستعارات وتشبيهات ثابتة ومن المؤكد أن الشعر بوصفه حركة حضارية قد رافق حلم الإنسانية في التطور، وتخطي مرحلة الخرافة، والإبتعاد بالذات إلى أرقى مستويات التأمل. وقد حظي عبر العصور بإهتمام بالغ لأنه كان على الدوام محرك عصب الوجود، والأسئلة الكونية. فالوقوف على الأطلال يترجم إدراك الشاعر العربي لمعنى الفناء ومحاولة مواجهة معضلة الموت، وهي فكرة وجودية وليست مجرد بكاء على حبيب نجمه أفل. والملاحم اليونانية عكست بدورها صراع الذات مع الوجود والرغبة في الخلاص، ومحاولة إستكمال مصير الإنسان المنقوص. أما جيل الشعراء من الشباب اليوم، فهو يغرق في تشاؤمية لا مبرر لها تكاد تطغى على كل معاني الحياة، وقيم الإنسانية، وذلك بسبب إنعدام التأسيس الجمالي من جهة، وغياب الحس الدرامي الأصيل من جهة أخرى، ولم يوجد الشعر أبدا ليكون مجرد بكائيات ومراثي، وإنما الغاية منه هي إعادة تصور الوجود وفق تأملات خالصة تمليها مدارك الشاعر اللامحدودة، وأحاسيسه النبيلة، ومواجده وكل ما يحيط به، ويلعب الخيال دورا جوهريا في إثراء هذه الأحاسيس والمواجد حتى يتسم الخلق الفني بالخصوصية والتميز. ولا شك في أن أية محاولة لتنميط القول الشعري وحصره في قضايا ذاتية أو قومية أو محلية هي جناية على الشعر، وتعطيل لحرية اللغة في الإنعتاق، والتجلي لأن هوية الشعر إنبثاق أزلي، وفيض مستمر، ولا يمكن لهذه الأزلية والإستمرارية إلا أن تكون شاهدا على الأبدية. منى ظاهر/ شاعرة وكاتبة من النّاصرة في الجليل الفلسطينيّ الشّعر ماضيا وحاضرا معروف بتماسّه الحقيقيّ مع الهمّ الإنسانيّ بداية الإبداع لا يمكن أن يكون إبداعًا دون أن يكون موصولاً وطارحًا لقيم وقضايا مجتمعيّة نعيشها. هو أيضًا صوتنا ولكلّ واحد فينا هويّته، أيْ أسلوبه هنا في طرح هذه القضايا. المبدع الحقيقيّ غير منفصل عن قضايا وهموم وآمال شعبه لأنّه جزء من هذا الشّعب، لكن كلُّ له أسلوبه في طرح هذه القيم ومن هنا فإنّه ينزاح إلى الإبداع شعرًا ونثرًا أو أيّ جنس أدبيّ آخر. ولا بدّ من التّنويه إلى أنّّه ما تميّز من تجارب الشّعر الماضية والحاضرة هو ما جاء بتماسّه الحقيقيّ مع الهمّ الإنسانيّ والعربيّ وإرتكز على شعريّة اللغة والأسلوب الفنّيّ المرتبط بالمضمون. من هنا يمكن أن نتتبّع الصّدق الفنّيّ والمرجعيّة الواقعيّة للنّصّ الأدبيّ والّتي تتكشّف بعد تجربة مختمرة تتأتّى من تذويت في لبّ المبدع بإشتغال متمرّس وذكيّ. مع أنّ السّائد العام في الشّعر كان الإرتكان إلى النّبرة المستصرخة للمآسي والفواجع بأسلوب تقريري وشعاراتيّ. هذا وأعتقد أنّه حان الأوان لأن نعيد النّظر في كلّ ما نعنيه حين نطلق أحكامنا سواء على النّظريات أو على الموجود. وحان الوقت أيضًا لأن نعيد النّظر في كلّ الثّوابت ولو تلك الّتي تبدو مسلّمة وبديهيّة، بمعنى أنّه علينا إعادة النّظر في المسلّمات الرسميّة المجتمعيّة والمنعكسة في التّجربة الإبداعيّة النّصّيّة. ولا بدّ من الإلتفات إلى أنّه وعلى مرّ العصور، أفرزت المنظومات العامّة في العالم إجمالاً مدارس أدبيّة إتّفقت تارة وتناحرت فيما بينها كثيرًا، منها ما رأت أهمّيّة في المضمون ثم تأتي أهمّيّة الشّكل كالمدرسة الواقعيّة، أو ما نادى به الشّكلانيّون الرّوس من أهمّيّة اللغة والأسلوب، وبالتّالي هذا الملمح العام من رؤى المدارس المختلفة الكلاسيكيّة والحديثة المرتبطة بالمنظومة العامّة من سياسة وإقتصاد وإجتماع ونظام رسميّ، أفرزت ما هو مهمّ وجدير بالوقوف عنده وهو أنّ القوالب مهمَا كانت، من العسير بل المستحيل أن تتماشى ونبض المبدع الحقيقي صاحب الرّؤى هو الّذي إنولد أصلاً بثورة نحو الخلخلة والمغايرة كما أشار إلى ذلك كثيرون ومن بينهم أدونيس الّذي قال بأنّ الشّعر هو تجسيد نظريّ للثّورة. أمّا ما أستطيع قوله حول دور الشّعر والإبداع بهذا الصّدد فهو ما ينبع من تجربتي الكتابيّة الحاليّة الّتي لا تقف عند مسمّى النّص لأنّها تعبره، حيث بدأت بخوض تجربةٍ سطّرت فيها حرب تمّوز 2006، مرورًا واسترجاعًا بالذّاكرة الجمعيّة والفرديّة إنسانيّا ونفسيًّا وبالمكان هنا حيث الدّاخل الفلسطينيّ وبأرض فلسطين وما يمرّ عليها من أحداث، كلّ ذلك بتصوير مشاهد متنقّلة ومتراكمة من قبل النّكبة وحتّى يومنا هذا. في هذه التّجربة أنا أكتب نصًّا بملامح الإنسان في الدّاخل الفلسطينيّ، وفي المنفى قسرًا وفي الأراضي المنتفضة للآن، مع إطلالة على الآخَر أينما وجد. هذه الملامح تصوّر وتكشف وتطرح تساؤلات وتضع علامات إستفهام على القارىء الحصيف أن يتتبّعها ويتأمّل فيها ويفكّر. زينب الأعوج/ شاعرة جزائرية تقاطعات وتشابهات مرتبطة بالحالات الإنسانية المشتركة طبعا هذا وذاك في الوقت نفسه لأن الأمر مرتبط بالأساس بالشاعر، هو قبل كل شيء إنسان، ويعيش وسط الناس، إنه فيهم ومنهم، لا يعيش في قارة منعزلة حتى ولو أراد. طبعا قابلية تلمس الأشياء ولمس عمقها تتفاوت بين مبدع وآخر. كل ما وصلنا من الشعر العربي قديمه وحديثه إلى حد الآن لوح بالأقراح والجراح والنكبات والهزائم كما أنه إحتفى بالإنتصارات والأفراح وبالحب وبالعشق وبالوجد وبالتجلي وبقيمة الإنسان وبالحريات الفردية والجماعية. إحتفى بالآلهة وبالإله الواحد وبالمرأة والخمرة وبالطبيعة والآثار والأطلال وجمال الحياة وكل ما يبعث على زينتها والرغبة في عيشها بشغف. مثلا في تاريخنا الحديث ومنذ الحركات الوطنية والإستقلالات وبناء الدولة الوطنية في مجتمعاتنا ومع النضالات المتواصلة من أجل تحقيق مشاريع إجتماعية وثقافية وسياسية نيرة ومنفتحة على العالم برز شعراء كثر لا زالت قصائدهم إلى حد الآن بمحتواها وجماليتها ورهافتها وشفافيتها تعتبر مشروعا إنسانيا في حد ذاتها. يجب أن نعيد قراءة الشعر العربي والإنساني بشكل عام لأن هناك تقاطعات وتشابهات مرتبطة بالحالات الإنسانية المشتركة، ويجب أن يسترجع الشعر مكانته التي يستحقها في المدارس والثانويات والجامعات والشارع والأماكن العمومية، يجب أن يُحتفى بالشعر كما يحتفى بالمولود الجديد بعد يأس من مجيئه، بمثل ما يحتفى بكل شيء يجمل الحياة ويرغبنا في حبها وعيشها بشغف. صدقيني أنني أغار لما أرى في الميترو وفي الحافلات في كل الدول الأوروبية التي سافرت إليها مقاطع شعرية تواجهك أينما إتجهت وأسماء شعراء وملصقات لعناوين مجموعات شعرية، سوق الشعر في باريس أو ربيع الشعر في العالم. أو مهرجانات الشعر العالمية في كل القارات، لا يمكنني هنا أن أحصي كل المنابر والمساحات العالمية التي تحتفي بالشعر كما يستحق أن يُحتفى به، فقط يجب أن أقول وأن ألح وأن أطالب أنه يجب أن نعمل على إسترجاع العلاقة الحميمة بين الشعر وما يحيط به من مساحات إبداعية ممكنة كالمسرح مثلا توأمه الأجمل. أغار وأنا أعيش لحظة إحتفاء بشاعر ما أو بنص شعري ما في بلد من البلدان العربية (في ذهني وذاكرتي تجربة سوريا التي عشت فيها ما يقارب العشر سنوات)، الكثير من التقاليد يجب تكريسها وإعادة إحيائها فهي لن تكلفنا إلا ثمن إختياراتنا ومزيدا لعشق الحياة بكل بهائها بالرغم مما يتخللها من مآسي وفجائع. هناك تقاليد شعرية عريقة في الوطن العربي يجب أن تعطى لها القيمة التي تستحقها ودفعها للإنفتاح على الآخر مثل سوق عكاظ والمربد بعد تنقيته من شوائبه السياسية المرضية التي صاحبته طوال السنوات الماضية حتى أصبح منبرا مدحيا، ومهرجان جرش الرائع في جانبه الإنشادي والشعري، وملتقى الشعر العالمي بدبي الذي يربط بين مختلف الأمم، وتجربة شاعر المليون، هذا على سبيل المثال لا الحصر. الشعر هو اللغة المشتركة بين الناس التي لا تعترف لا بالحدود ولا بالحواجز ولا بالعرق ولا بالجنس ولا باللون. ديانة الشعر الأولى والأخيرة هي الحرية وهي هذه القيمة العليا التي هي الإنسان والعاطفة النبيلة والمتسامحة والسخية التي يسكنها فينا. مع الشعر تنتفي الديانات والثقافات واللغات كلها تنصهر لتصبح الواحد المتعدد. لذلك يجب أن نوفر كل المنابر الممكنة لإسماع الشعر ولقوله ولغنائه ولإنشاده ولنشره. ولما نتكلم عن الشعر لا يجب أن تأتي الأحكام والتقييمات هكذا بالجملة وبشكل جزافي، ولا يجب أن نحكم عليه كما نحكم مثلا على رواية معينة، فالرواية هي كلٌ متكامل لا يمكننا أن نقيّم فصلا دون آخر أو نفصلها ونجزئها، هي هيكل وبناء وشخصيات وعوالم متشابكة ومرتبطة مع بعضها، بالنسبة للشعر الشأن يختلف، يمكننا أن نستمتع بمجموعات شعرية بأكملها لشاعر معين كما أنه يمكن أن تستوقفنا قصيدة بذاتها عند شاعر حتى ولو لم يكن من الأسماء المكرسة والمعروفة. حسين سليمان/ كاتب سوري مقيم في هيوستن للشعر دور حقيقي في الحياة الإنسانية السؤال عن دور الشعر الحقيقي في الحياة العربية إن كان قد عبر عن مآزق الحياة أم لا، هو سؤال واسع عميق وللإجابة عنه يجب إستعراض شعر التفعيلة والنثر والشعر الشعبي ومدى إنجذاب وتعبير كل منهما إلى مآزق الحياة. لا أذكر الآن إلا بضعة شعراء في عالم تعداده هائل وثقافته في المقام الأول هي شعرية. وللإجابة عن السؤال خير إجابة سوف أعود الى الوراء عشرين أو ثلاثين عاما وهي فترة كافية كي تدلني على الشعر الحقيقي الذي لم يغلبه الزمن. في تلك الفترة برز شعراء من أمثال محمود درويش وأمل دنقل ومظفر النواب ونزار قباني، هؤلاء كان لهم تأثير كبير على جماهير (الشام) مقارنة مع مجايليهم من الشعراء الآخرين. (وهو الشعر، الدور الحقيقي الذي لعبه في الحياة العربية) وقد كانت الطريقة التي يكتبون فيها مباشرة... وهي السبب في إنتشارهم، إلا أن المباشرة لدى بعضهم كانت مباشرة راقية فيها ملامح فنية عالية المستوى كما في قصيدة "لا تصالح" لأمل دنقل. ما جاء به مظفر النواب لم يأت به الآخرون وذلك بسبب تطعيم قصائده بالثقافة الجماهيرية البعيدة نوعا ما عن ثقافة المدارس. وقد تناول من هذا المنطلق القضايا العربية عموما، قضية فلسطين وقضية النفط التي فصل فيها بدقة كبيرة. وربما وصل مظفر النواب إلى مكانة شاعر الأمة بما قدمه من قصائد حكت معاناة الوعي الجمعي ودلت على محاورته الذاتية مع الآخر. ما وصلت إليه العرب من تدهور وإنحدار يصعب على القصيدة أن تصفها إن لم تكن مطعمة بمادة جماهيرية، يقول مظفر "يزني القهرُ بنا.. والدينُ الكاذب.. والفكرُ الكاذب.." "ملل يشبه علكة بغي لصقته الأيام بقلبي" لا أدري إن كان هذا الشاعر قد أخذ حظه من النقد والدراسة التي تليق بمقامه كما أخذها محمود درويش وأمل دنقل ونزار قباني. فقصيدتاه وتريات ليلة والقدس عروس عروبتكم شاعتا على ألسنة الناس: "لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم/ إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم/ تتحرك دكة غسل الموتى أما أنتم/فلا تهتز لكم قصبة" وأغلب قصائده هي قصائد وصف الحال من دون إستشراف كما عند سعدي يوسف مثلا، وهذا النوع من القصائد يزيد الطين على الطين ويؤكده. والسؤال الآن هل هذا النوع من القصائد هو إيجابي أم سلبي؟ حين تصف المرض الذي أعرفه وأراه كل يوم ولم تعد لي قدرة ولا مزاج على وصفه وقوله على ما أظن أن الشعر يجب أن يمد ويتوسع ويخرج عن الوصف المألوف إلى حدوده الفنية والتخيلية اللتين ستدفعان المستمع إلى أن يقول أو يسلك طريقا لم يكن ليسلكه فيما قبل. حاول ذلك محمود درويش في قصائده المتقدمة أحد عشر كوكبا- لكن القصائد كانت تقال على لسان مراقب بعيد تلاحقه الخشية ويغلبه التأمل وهي واحدة عليه، لقد إبتعد كمراقب إلى مسافة ما كان يجب أن يصلها، وهذا بسبب الحزن الطاغي وإنعدام الأمل. "في المساء الأخير على هذه الأرض نقطع أيامنا/عن شجيراتنا، ونعد الضلوع التي سوف نحملها معنا...وسنسأل أنفسنا في النهاية: هل كانت الأندلس/ هاهنا أم هناك؟ على الأرض..أم في القصيدة؟". هناك شعراء عبروا بفنية عالية عما يجول في أنفسهم وكأنهم إستطاعوا أن ينقلوا التعبير عن ذواتهم إلى الذات الجمعية كما يفعل في أيامنا هذه الشاعر سعدي يوسف، فقصائده تمتزج مع الحب والوطن والغربة وعذابات العربي المقهور إلا أن القارئ يلمس أملا قويا في قصائده لا يلمسها مثلا في قصائد درويش الأخيرة. وهناك أنسي الحاج الذي يعبر في قصائده عن هم وجودي عربي لا قضية نضال واضحة فيها بل هي هم إنسان الشرق فيها من الحكمة مقدار أكبر من التعبير الشعري الخالص.