نطلق الفيلم الوثائقي "نساء خارج القانون" للمخرج المغربي محمد العبودي بخطاب مكتوب على خلفية سوداء، مفاده أن بعض المجتمعات تنعت المرأة بالبغية إذا لم تفقد بكارتها من قبل زوجها، ترفضها عائلتها والمجتمع معا، وتعيش متخفية مجهولة الاسم. الوثائقي "نساء خارج القانون" لمحمد العبودي رصد تقلبات ومواجع الشابة هند ذات الأصول القروية، والتي تعرضت للاغتصاب في الخامسة عشرة من عمرها، هددتها أسرتها بالقتل وطردتها خارج البيت، فحاولت أن تكسب قوت يومها كراقصة في الأعراس، رغم أن مثل هذا النوع من المهن لا يدرّ دخلا كبيرا على ممتهنيه، فضلا عن الرؤية الدونية والاحتقارية التي يضمرها لها أفراد المجتمع، وفي المقابل يبدو ذلك أقل خطورة من ممارسة الدعارة، التي لن تجد مفرّا إلى اللجوء إليها في بعض الأحيان. لم تستطع هند أن تحصل على الأوراق الضرورية لإثبات هويتها الإدارية والقانونية، لأن الأسرة ترفض منحها كنش الحالة المدنية متنكرة لعملها الشنيع، والمرفوض جملة وتفصيلا.
الكاميرا مرآة
تمّ تصوير الفيلم بمدينة وزان المغربية التي تقع على الشريط الجنوبي لجبال الريف، وذلك بداية فصل الربيع من سنة 2010، حيث تنتقل الكاميرا من لقطات كبيرة تبرز الفتاة أثناء مزاولتها للرقص على إيقاع أغنية شعبية، تتحدث كلماتها عن ذئبويّة الأصدقاء، وكأننا أمام خطاب فلسفي يعلن انتماءه إلى النزعة المتشائمة التي أعلنها توماس هوبز معتبرا أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان. ثم تسلط الكاميرا الضوء على تفاصيل حياة الشابة، وترصد أسلوب عيشها البسيط، حيث تقطن في بيت شبه خرب رفقة صديقها الشاب وبرفقتهما قط وكلب. تتأمل الفتاة حال بيتها والمطر يتساقط وكأنها تطهّر نفسها من القلق وثقل الوجود، الذي ينتابها وهي المرفوضة والمهمشة، وسرعان ما تنخرط في الحكي عن قلة ذات اليد في مثل هذه الظروف المناخية الصعبة، إذ تضطرّ للتحايل بغرض الحصول على حاجياتها اليومية المتمثلة في قارورة مشروب غازي، وما تحتاجه لإعداد "طاجين" بسيط، وجلب ما تدخنه من نبات القنب الهندي، وهي مرتاحة رفقة معاشرها بلال الذي يتقاسم معها ما يحصل عليه، ويرغب في مساعدتها للعودة إلى بيت أسرتها. يطرح الفيلم مشكلة بعض الفتيات اللائي يتحولن مع مرور الوقت، إلى أمهات عازبات أو في وضعيات صعبة، إذ يمقت المجتمع إدماجهن، ويرفض التعاطف معهن والتسامح مع أخطائهن مما يقود بعضهن إلى الارتماء في أحضان الإدمان، والعيش على هامش المجتمع، والاشتغال في ظل ظروف استغلالية حَاطَّة من الكرامة الإنسانية. وهي ظواهر ذات طابع إنساني خالص، إلاّ أن المجتمعات التقليدية المنغلقة على ذاتها تتستر على مثل هذه الظواهر وتتركها تنتعش في الظل، فالكل يعرفها، والجميع يتواطأ ضدّها. ومن هنا تكون السينما وما شابهها من فنون وإبداعات قادرة على إخراج تلك الأصوات إلى العلن، مع كل ما يتطلبه ذلك من جرأة الطرفين: المخرج والفاعل (المعني بالأمر- الممثل)، وما عليهما إلاّ أن يصمدا في وجه الرافضين لمثل هذه الاعترافات الجسورة، وهذا التعرّي الذي يفضح هشاشة المدافعين عن طهرانية المجتمع، ورهافة الكائن. تتحوّل الكاميرا في هذا الفيلم إلى مرآة تجلو حقيقة بعض الهوامش: هامش فردي، جماعي، حضري، إنساني، جنسي، نوعي، والغرض من ذلك الكشف عمّا يقع في الأطراف والضواحي، كي يخرج إلى بعض المراكز: عاصمة، مقام، قرار، برلمان، حكومة، سلطة، خاصة وأن بعض جمعيات المجتمع المدني قد دقت ناقوس الخطر منذ مدة، وظلت تحتضن ما استطاعت من الحالات وتساهم في التوعية كي يتحمل الجميع مسؤولياته. تسافر الشابة بمعية أنيسها، حيث تقطن أسرتها، المطر يبلل الأرض ويغسل القلوب، تعانق حكيمة -اسمها الحقيقي إلى أن يظهر العكس- أفراد عائلتها بشوق عفوي عميق، تحكي حكايتها بتلقائية ساذجة وأمها تراقب أقوالها- اعترافاتها بعينين دامعتين، في حين يترصدها الأخ بمكر، وهي تتحدث عن ابنتها بقلب أمومي مبتهج. ستحدث مواجهة كلامية بين أفراد العائلة حول أحقية مغادرتها للمنزل وعودتها، وفجأة ينقطع التيار الكهربائي؛ ويا لها من وضعية! تعود الفتاة إلى مدينة وزان رفقة أليفها الذي قدمته لأسرتها كخطيب لها، ستلتقي رفيقاتها الراقصات في الفرقة الغنائية اللواتي سيلتئم شملهن للحديث بإحدى المقاهي بعد اقتناء أحزمة جديدة للرقص، وهناك ستعترف لهنّ ولنا بأن الإقامة مع الأسرة ستحرمها من تناول الشراب وتدخين النبتة العجيبة، كما تقرّ بعدم قدرتها على الاعتراف لذويها بابنها الأول، الذي تجهل ما فعله به الأب الذي تبخر هو الآخر، وهنا نستحضر حكاية فيلم "الطفل" (2005) للأخوين داردين، حيث يضطرّ الأب لبيع صغيره قصد الحصول على المال؛ ويا لها من قساوة!
تضاعف الهموم
تزداد المأساة حين ترفض المرأة التي ربّت طفلتها تسليمها إياها، وذلك بدعوى أداء ثمن سنوات العناية والتربية. وستتضاعف الهموم حين يختفي خلّها في غياهب السجن بعد أن حرق بعض محتويات إحدى غرف أسرته بما فيها أثاث نديمته، لأنه أحس باستصغار شقيقته له، وهو في حالة سكر، لأنها رفضت أن تقدّم له بعض المال أسوة بإخوته الآخرين؛ ويا لها من أخوة! من ضمن أعضاء الفرقة الموسيقية سنكتشف الاعترافات الصادمة لراقصة أخرى، وهي تتحدث بنبرة حزينة ورافضة لوضعها وتصب "الويسكي" في كأسها، ستطلعنا الكاميرا التي حققت مع ألفة خاصة ومع أعضاء الفرقة رغم بعض التصنع، على تعدّد أشكال العنف اللفظي والضعف الإنساني، ستُجرح الأنا الفردية المتعالية، ستنحط العواطف وتتخشب الأفئدة. وستتضاعف المأساة حينما نلاحظ أن نقطة دم البكارة الحمراء المفتضّة ليلة العرس تواري خلفها سوأة مجتمع بدوي نجهل عنه الشيء الكثير، وقد يتطلب منا الأمر سنوات مضاعفة لفك كافة أشكال العزلة عنه: عزلة الجهل، عزلة التوعية، عزلة المرأة، عزلة الطفولة، عزلة الطبيعة، عزلة التاريخ... ترافق مربية البنت الأم الحقيقية هند أو حكيمة للعودة إلى القرية، حيث سينتقل الأبوان لتسليمهما شهادة الميلاد، وتسلم الأم البيولوجية للأم المربية شهادة التزام واعتراف قصد التكفل بابنتها، ولعل الموقف البريء والصادم هو ذاك الذي ستعبر عنه الصبية الصغيرة، حين تعترف بأمها التي ربتها عوض أمها الحقيقية. تريد حنان حسب الوثيقة الرسمية التي تسلمها لمالك معصرة الزيتون أن تغير مسارها وتندمج في عمل مختلف عما كانت تقوم به من قبل، وهنا سنكتشف محنة نساء يشتغلن في ظروف قاسية، إذ سيحل فصل الشتاء من سنة 2011، وسنرى بأن البطلة حامل من جديد. يدخل فصل الربيع من نفس السنة، وتضع الأم ابنة جديدة وستلتحق بأميْن عزباوين، إلاّ أنه مع توالي الحديث ستصرح هند أو حنان بأن جشع أمها وطمعها في الهجرة إلى أسبانيا، كانا من بين أسباب تبدّلات حياتها التراجيدية. بعد إجراء طقوس التسمية سينتهي الفيلم على وقع انتظار خروج الأب المفترض للبنت سوسن من السجن، وهو المحكوم بعشرين سنة. رغم ذلك، تواجه الأم الحياة بكل شجاعة وأمل وضعف أيضا، إذ سنرى بأنها تسير حاملة رضيعتها ضمن المتظاهرين المطالبين بإنهاء الفساد، وإقرار العدالة والمساواة، والتقليص من الفقر والفوارق الطبقية، والعمل على تنمية المدن المهمشة؛ وهي أمور أظهرها الفيلم الذي غطى فيه الطابع المأساوي عن كل الجماليات المتعلقة بالكتابة والإخراج والتصوير، وكانت فيه تنقلات الكاميرا أكثر حيوية إلى درجة مفارقة: كيف نبحث عن جمالية الفن أمام مثل هذه القسوة؟ نتذكر من خلال بطلة هذا الفيلم عدة مغربيات جسدن أدوارا جريئة لصالح السينما، وبهذا يكون الفن السابع مدينا لجرأتهن. وهنا لا بد من ذكر الشابة رجاء بنسالم التي لعبت بطولة فيلم "رجاء" (2003) للفرنسي جاك دوايون، ونساء فيلم "العيون الجافة" (2003) لنرجس النجار، وصوفيا عصامي التي جسدت بطولة فيلم "على الحافة" (2011) لليلى كيلاني. وكل هذه البطلات اختلفت آلامهنّ في الحياة وعلى الشاشة، لكن قوتهنّ على قول الحقيقة وتقمصها لا تضاهيها قوة، رغم كل النعوت التي طالتهنّ من قبل دعاة التستر وإن بدرجات مختلفة. فمهما كان ثمن ظهورهنّ على الشاشة، لن يكون إلاّ بخسا أمام إحراجهنّ الإنساني لنا، وتقديرا لمدى قدرتهنّ على الإفصاح والإحراج، والتذكير بالمأساة الإنسانية المتجددة في مجتمعاتنا.