يشير «ريتزر» إلى هذه المبادئ على أنها تطبيق معايير الكفاءة وإمكانية التنبؤ والقدرة على التقدير الكميّ والحساب والاهتمام بالجودة والضبط والرقابة واستخدام تقنيات آلية منظمة بديلا عن الجهد البشري "حاسب آلي، سوبر ماركت، محلات كبرى، مواقع تسويق على الانترنت، قنوات تسويق تلفزيونية، ماكينات صرف آلي، تسويق عبر التليفون، بطاقات ائتمان، جامعات ماك"، بما يشي بعدم قصر النظر إلى هذه السردية كمجرد صيغة أمريكية لتقديم الطعام بل بوصفها ترشيدا عصريا لمختلف مجالات الحياة في المجتمع الحديث حال ترجمتها إلى لغات مختلفة. الترجمة الليبرالية ولعل ما يطلق عليه راهنا «الترجمة الليبرالية» يمثل أحدث ما توصلت إليه آليات عولمة الترجمة، كشكل جديد لإعلان الشركات الكونية عن منتجاتها، ينتشر عبر نقل حملاتها الدعائية إلى لغات العالم الأساسية، وساعد على ذلك تنامي طموحات استهلاكية لدى شرائح وفئات بعينها، تتسق مصالحها مع العولمة "كومبرادور من وسطاء الصفقات الضخمة وممثلي الوكالات والشركات الكونية، خبراء قانون واقتصاد وتأمين لتفسير الاتفاقيات الدولية، مضاربين في الأسهم والسندات والأوراق المالية، عاملين في مجال المعلومات، مشتغلين في المنظمات غير الحكومية المموّلة من الخارج شرائح من الانتلجنسيا العاملة في إطار السوق، نخب عليا من البيروقراط والتكنوقراط"، وهي فئات تحدث «ثورشتين فيبلن» عن مثيلاتها في نظريته عن الطبقة المترفة والاستهلاك المظهري، إذ مع تناص هذه الطموحات الاستهلاكية ازداد تنافس الشركات الكونية، تلك التي تعد إحدى التجليات الأساسية لعملية العولمة في تسويق منتجاتها، واتخذت في مجال نشر خطابها الإعلاني شكلا جديداً للترجمة هو الترجمة الليبرالية، من كونها تتميز بكل الخصائص النوعية للمذهب الليبرالي؛ الإعلاء من القيمة العملية باعتبارها معيار الفاعلية، المنافسة الحرّة بين اللغات، إلغاء لوائح تنظيم التبادل بينها، مع حرية التصرف في قنوات الاتصال، من خلال نظام لا تشكل فيه الحدود المادية والجغرافية عوائق حقيقية، ما أدى إلى التعامل مع اللغات، لا كمنتجات قابلة للتحسين أو الإهمال أو التطور فحسب، بل وأيضا تقسيمها وترتيبها على شكل درج تصاعدي له أهميته في المجالين السياسي والاقتصادي، وأدى التطور التكنولوجي الحالي إلى تغيير كبير في استراتيجيات الاتصال لدى هذه الشركات التي وجدت من الضروري التواصل، وبصورة متزايدة مع مستهلكين في كل أنحاء العالم، يتحدثون لغات مختلفة وينتمون إلى ثقافات متباينة، ما دعا إلى ازدهار الإعلانات الشاملة وتعميم حملاتها ذات الصبغة الدولية وهي إعلانات وحملات تخاطب إنسانا جديدا هو "المستهلك العالمي" عبر وسائل اتصال عديدة قادرة على غزو كافة المناطق والتغلغل ضمن كل الفئات، ولتحقيق هذا الهدف يتعين ترجمة خطاب هذه الإعلانات إلى لغات المستهلكين المحليين وهو ما أدى إلى تزايد حجم ترجمتها، خاصة مع انفتاح مناطق لغوية جديدة كالصين أمام التجارة الدولية، وتتفوق في هذا المجال العلامات التجارية «Brands» المشهورة لمنتجات هذه الشركات مع تحوّلها إلى رموز «بيبسي كولا»، «تويوتا»، «ماكدونالد»، «فولكس فاجن»، «بيتزا هت» وهي علامات يمدّها احترام مستهلكيها بالقدرة على المنافسة، والاحتفاظ بموطئ قدم راسخ في السوق لسنوات عديدة، ليس لأنها تقدم مزايا فريدة وخدمة موثوقة وأساليب تقنية مبتكرة فقط، بل لأنها كذلك تقيم صلة عميقة بالثقافات المحلية، عن طريق ترجمة خطابها الإعلاني بما يلائم هذه الثقافات، ولتفعيل أثر هذه العلامات، تضيف الشركات الكونية التي تملك هذه العلامات وسائل إضافية لترويجها كالصور والأغاني والموسيقى والكتابة المنطوقة، وتنشرها عن طريق الفيلم والفيديو والكاسيت والصحف والمهرجانات والحفلات تحريكا لرغائب المستهلكين وكجزء من دعم ثقافة الاستهلاك التي أضحت أكثر انتشاراً منذ التسعينيات، ويلاحظ في هذا الصدد، أن تقنيات ترجمة هذا الخطاب الإعلاني تختلف طبقا لنموذج تنظيم الشركة الكونية وهدفها وإستراتيجيتها في التسويق والإعلان، حيث يمكن تمييز نمطين لهذه التقنيات؛ الأول يعتمد نقل خطابه الإعلاني بطريقة شبه حرفية دون اعتبار خصوصيات ثقافة الجمهور المتلقي، خاصة إذا كان هدف الشركة لا يتعدى مجرد غزو السوق، وثانيها يتمثل في تطبيع وتوطين الخطاب المترجم، باستخدام أساليب الثقافة المنقولة إليها في ترجمة هذا الخطاب بتصرِّف، بغية إرضاء كل فئات المستهلكين، وبالذات إذا كان هدف الشركة هو الاستيطان التجاري، ويعدّ النمط الأول من الترجمة، انعكاساً منطقيا لتنظيم مركزي لدى الشركة المصدرة للمنتج يهدف إلى دمج العاملين جميعا ومنهم المترجمون وداخل نفس البنية الخاضعة لسلطة موحدة، أما النمط الثاني فيبدو نتيجة لتقسيم خاص ومغاير للعمل ضمن رقابة لامركزية في صوغ الخطاب الإعلاني، وفي هذه الحال، يعمل المترجمون عادة داخل وحدات متخصصة مرتبطة بصفة غير مباشرة بالشركة الأم. إجمالا، يمكن القول أن ترجمة هذا الخطاب الإعلاني، تقوم على عدم الالتزام بالنص الأصلي وقابليتها لكافة أنواع التحريف وقياس جودتها بمدى ابتكار المترجم وقدرته على تحقيق المواءمة الصعبة بين هوية النص الأصلي وخصوصيات التلقين ما دام لكل سوق ولكل بلد نوع بعينه من الخطاب ومن الصياغة اللغوية ما يناسب ثقافته وعاداته، بما يشي أن هذه التقنيات تخضع قسْراً لنزوات المنطق الاقتصادي المهيمن، يساعدها في ذلك أن الخطاب الإعلاني نفسه يمتلك في مقوماته مسوّغات تجعله قابلا للتحريف، فإلى جانب بعده الاقتصادي الاجتماعي المرتبط بالدعاية التجارية، يكتسي هذا الخطاب طابعا ثقافيا، يتمثل في مكوناته اللغوية ذات الطاقات الإيحائية المتشظية، والمعتمدة غالبا على التعمية، حين يتولى تغييب بعض أو كل مظاهر الجانب الاقتصادي المرتبط بالمنتج "ثمنه، أهمية تسويقه، المنافسة المميزة للسوق" في محاولته إقناع المتلقي بصفته المستعمل المحتمل لهذا المنتج، بأن الإعلان عنه لا يحثه على الشراء بل يحاول أن يقدم له مجموعة من الخدمات وذلك لإخفاء المنفعة المادية الحقيقية التي تحرك كل العناصر الفاعلة في العملية الإعلانية، وهي تعمية تفضي إلى قابلية لغة هذا الخطاب حال ترجمته لمدلولات مواربة بما يستدعي التفكير في صوغ خطاب أخلاقي حول طبيعة هذه الترجمة الليبرالية وطرقها وأهدافها. العنف الرمزي كافة هذه الآليات التي يتم عبرها التلاعب بترجمة المصطلحات، ذات الصلة بالموضوعات والهياكل والبنى والعمليات الاجتماعية للنظام العالمي الجديد، هي أقرب إلى "الهيمنة الفكرية الكونية" التي تمثل إحدى السمات الرئيسية للعولمة، وتدار بواسطة ما أطلق عليه «جوزيف ناي» و«وليام أوين» القوة الناعمة من وسائل إعلام جماهيري وأنظمة تربوية وأفلام ودراسات وبحوث ومعارض ومهرجانات وأسواق، والتي لا تعتمد على بطش الأساطيل والمدافع وإنما تلجأ إلى أسْر العقول والأفئدة من أجل زرع الآراء وفرض المواقف يُسعفها على هذا التلاعب، إن المصطلحات وإن اتسم البعض منها بتحدد الدلالة، لا تتصف دائما بالموضوعية والحياد، خاصة عند ترجمتها ونقلها من مجالها التداولي الذي تشكلت من صلبه إلى مجال آخر، حيث تكتسب ظلالا دلالية معينة في إطار ظروف الخطاب المترجم وملابساته اللغوية وغير اللغوية، مع الاستغلال المبالغ لأبعاد التعرّجات التي تملكها الألسنة، وتباين الإمكانيات التي يتمتع بها المعجم في كل من لغتي المصدر والهدف وتعدد المخزون الدلالي للمصطلحات وتأثير توجهات القوى والعوامل الحضارية والثقافية في معانيها بل وثقافة المترجم ومعتقداته ومدى بيانه وعلمه بتعبير الجاحظ، يضاف إلى ذلك عدم الاستقرار إزاء التعبير عن الظواهر المستحدثة في الفنون والصنائع، وقلة وضوح مجازفات الترجمة مع المصطلحات الدالة عليها، خاصة مع مصطلح يرتدي امتيازاً نوعيا مثل العولمة، تتداعى فيه ذاكرة اللغة، حتى لا تضحى الكلمات المعبّرة عنه في حال من حضور الغياب، وغياب الحضور، ذلك أن اللغة ليست لوحة قيادة، صممت لتخدم التعبير عن ظواهر ناجزة، وهو ما يعني أن نقل المصطلحات الدالة عليها وترجمتها يقتضي الوعي بأبعادها الاجتماعية ودلالاتها الفلسفية والمعرفية بما يضمن لها الجلاء والحضور والقابلية والسيرورة، قصد تفْعيل قوتها التعميمية ، ومنها صلاحيات تعبيرية أكثر دقة. من هنا يجوز القول أن الهيمنة الفكرية التي تمارس في الحاضر على مستوى الترجمة، قد تصل إلى نوع من العنف الرمزي على من لا يملكون القوة أو القدرة الكافية لمقاومتها. نتيجة عدم تكافؤ العلاقات بين البلدان المتقدمة، صاحبة نص المصدر المترجم في العادة، وبين البلدان النامية الأقل تقدما، المنقول إليها النص، والتي تجعل من رهان الهوية ومن ثقافتها الأصلية، الملجأ والدرع الواقي وسلاح المواجهة في الآن نفسه، فيما لا تمتلك غالبا القدرة على الاستقبال والانفتاح وعدم التكافؤ هنا تؤطره حدود تاريخية وطبيعة العلاقات السائدة بين الجانبين القوة والمعرفة من ناحية البلدان المتقدمة، والضعف والتبعية من نصيب البلدان النامية، بما لذلك من تأثير على إضعاف وعيها بالذات والتاريخ وقلة قدرتها على استيعاب الإسهامات الثقافية الوافدة عليها وخلق تبعية فكرية متزايدة بين البعض من قواها الاجتماعية والتشكيك فيما يمثل تحدّيا لها.