أصبحت المقالات المتعلقة بالكتاب الرقمي شائعة في معظم الصحف والمجلات، ولكن يبدو أن ما يُكتب عن ظاهرة الكتب الرقمية أكثر مما ينشر من كتب رقمية في الواقع، ويدور معظم الجدال في هذا الإطار حول ما إذا كانت الكتب الرقمية ستحل محل الكتب المطبوعة، بالإضافة إلى ذلك فإن الجدال الدائر تستحوذ عليه مشاعر عاطفية ووجدانية حيث يتحسر البعض على القراءة على الشاطئ أو في الحمام، وعلى المتعة التي يشعر بها المرء وهو يتفرج على الكتب المصفوفة في رفوف المكتبات والمتاجر، كما تطرح خلال الجدال أسئلة مثل: هل تعيد الكتب الرقمية التوازن بين القارئ والناشر؟ لكن قلة تتطرق إلى مسائل مثل كيف يمكن للكتب الرقمية إن تغير العالم بالنسبة إلى المستهلك أو إلى المجتمع ككل؟ ما يحصل أكثر تعقيداً من ظهور أداة إلكترونية جديدة، هي الكتاب الرقمي والأسئلة العاطفية التي تتمحور حول ما إذا كان الكتاب الرقمي سيحل محل الكتاب المطبوع ليست إلا أسئلة تخلو من المعنى، وهي أسئلة مفتعلة وتشتت التركيز، فلا شك في أن الكتاب الرقمي والكتاب المطبوع يمكنهما التعايش معاً، ولكل منهما جمهوره، الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالموضوع هي: كيف ننظر إلى الكتب في العصر الرقمي، وكيف ستتصرف الكتب في هذا العصر؟ كيف نستخدم الكتب ونتشارك بها ونستخدمها كمراجع؟ ما هي توقعاتنا حول استمرار التواصل الإنساني المتجسد في الكتب بينما نحن ندخل العصر الرقمي الجديد؟ في كتابه "الثقافة العربية في عصر المعلومات" يرى «نبيل علي» أن الثقافة في عصر المعلومات أصبحت صناعة قائمة بذاتها، ولم تعد مدينة إلى أحاديث الصالونات وسجال المنتديات ورؤى المقاعد الوثيرة وتكرار الجدل العقيم حول العموميات والأمور التي صارت في حكم البديهيات من قبيل أصالة ومعاصرة، ثقافة النخبة وثقافة العامة وتعريب التعليم، لقد أصبحت الثقافة محور عملية التنمية الاجتماعية الشاملة، كما أصبحت تكنولوجيا المعلومات محور التنمية العلمية التكنولوجية، وما يعنينا في هذا السياق هو مصير القراءة ومصير الكتاب المطبوع، ومدى تأثير الإنترنت والكتاب الرقمي على عادات الكتابة والمطالعة القديمة، لكن قبل التطرق إلى هذا الموضوع نسأل: ما علاقة الثقافة بتكنولوجيا المعلومات؟ إن الثقافة هي ما يبقى بعد زوال كل شيء، والمعلومات هي "المورد الإنساني الوحيد الذي لا يتناقص بل ينمو مع زيادة استهلاكه"، والثقافة تصنع الموارد البشرية كما هي صنيعتها والاستيعاب الثقافي للثقافة هو أساس التقدم والتنمية، وإذا كان الاقتصاد متضامناً مع السياسة قد نجح في التهوين من قدر الثقافة، وإذا كانت عولمة الاقتصاد قد قادت قافلة العولمة جارّة وراءها عولمة الثقافة، فإن التكنولوجيا في أحوال كثيرة أسرع من العمل، والعلم أسرع من الاقتصاد، والاقتصاد أسرع من السياسة، والسياسة أسرع من الثقافة، أي أنها "الثقافة" في ذيل القافلة، فهي ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى وقت طويل حتى تؤتي ثمارها وتترسخ، ولكن السياسات وحركة الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والأسواق تتغير بسرعة، والسؤال الذي يطرح نفسه أيضا: هل نَأَتْ الثقافة وأدواتها بنفسها عن هذه المتغيرات؟ عند الحديث عن الثقافة يجب أن يلاحظ التسارع المذهل في الأفكار والنظريات كما يحدث تماماً في تطور التقنية، فما إن يظهر مذهب فكري أو اجتماعي حتى يلحق به ما يناقضه أو ما بعده، فثورة «لينين» تقضي عليها «بريستوريكا غورباتشوف»، وبنيوية الستينيات تطيحها التفكيكية وما بعد البنيوية، والحداثة تتجاوزها ما بعد الحداثة، ونجد مصطلحات ورموزاً كثيرة تعبر عن هذا التسارع والنفي وبالإمكان وصفها بنهاية وما بعد نهاية المكان، نهاية الجغرافيا، نهاية التاريخ، نهاية الدولة، نهاية الأيديولوجيا، نهاية المؤلف، نهاية المدرسة، نهاية القومية، نهاية العمل والوظيفة، نهاية الكتاب ونهاية المؤلف، لنواجه مصطلحات جديدة تحل محل هذه النهايات مثل: ما بعد الحداثة، ما بعد السياسة، ما بعد النفط، ما بعد المعلوماتية، ما بعد الانترنت، ومنها مصطلحات النفي مثل مصانع بلا عمال، ومدارس بلا مدرسين، ومكتبات بلا كتب، إذاً نحن إزاء ثقافة المجهول والمغامرة والشك، لكن أين موقع العرب من كل هذه المتغيرات التي تحدث على مستوى العالم، وبالتالي ما هي عدتهم لتوظيف هذه التطورات العملاقة في التعليم والوظائف والخدمات والصناعة... وصولاً إلى اللغة. يجزم «نبيل علي» أن أهم أدوات الثقافة هي اللغة، ويلاحظ أن المعلوماتية قد حققت معالجات متقدمة للغة في تطبيق أساليب الذكاء الاصطناعي لإعطاء الآلة المهارات اللغوية من اشتقاق وتصرف واختصار وفهرسة وترجمة آلية, وتبذل اليابان مثلاً جهودا هائلة لكسر عزلتها اللغوية بالمعالجة المعلوماتية المعاجم الآلية والترجمة الآلية والتوثيق والبرمجة، فأحدثت فجوة لغوية هائلة تفصل اللغة العربية عن الاستخدام والتداول، وهناك من يتنبأ أن التعليم قد يتحول وكذلك الثقافة في الدول العربية إلى اللغات الأجنبية بسبب التقنية والتسهيلات المتاحة لهذه اللغات، وتتعرض الثقافة العربية والإسلامية إلى التشويه والإساءة باستخدام الانترنت دون أن يتاح لها الدفاع عنها ونشرها وتسويقها بسبب عدم مواكبة المعلوماتية، فمواقع الانترنت العربية سواء كانت باللغة العربية أو اللغات الأجنبية، هي في الغالب ساذجة ومحدودة ولا تكاد تساوي شيئا بالنسبة إلى المواقع الأجنبية، ومجموع المواقع العربية أقل عدداً من المواقع الإسرائيلية، بل إن إسرائيل تتقدم إلى العالم ببرامج معالجة اللغة العربية وترجمتها، والمد الثقافي القادم عبر طريق المعلومات السريع بكثافة واقتدار قد يغمر الثقافة العربية، وقد يسرق التراث العربي كما حدث في قصص «علاء الدين»، «سندباد» والحرف والصناعات اليدوية والتقليدية. من جديد ماذا عن الكتاب الرقمي وما هي قدرة الكتاب المطبوع على الاستمرار والصمود؟ منذ فترة ظهرت نوعية جديدة من الكمبيوترات الشخصية جداً، والبرامج المتخصصة في أغراض قراءة الكتب المخزنة رقمياً على وسائط التخزين الالكترونية، عرفت هذه النوعية باسم أجهزة القراءة الالكترونية وصاحب ظهورها توقعات واسعة النطاق بحدوث ثورة في عالم النشر والقراءة تهدد عرش الكتاب المطبوع واستندت هذه التوقعات إلى الثورة الكبيرة التي أحدثها الانترنت في مجال تخزين وتوزيع وبيع الكتب الكترونياً، وظهور شركات عملاقة عاملة في هذا الميدان مثل أمازون وغيرها، وأيضا استندت إلى أن الحاسبات التي ظهرت من أجل هذه الوظيفة فقط عبارة عن كمبيوترات صغيرة في حجم الكف، ولذلك أطلق على البعض منها الأجهزة اليدوية أو الكيفية، وأطلق على البعض الآخر أجهزة الجيب، وكل منها مجهز بذاكرة تتسع لعشرات من الكتب والموسوعات، وعن طريق البرامج التي تثبت عليها تسمح لصاحبها بقراءة وتصفح الكتب المخزنة عليها بسهولة ووضوح، وكذلك البحث فيها بطريقة سريعة وسهلة ومنظمة وتمادى البعض في التوقعات وتخيل أن الكتاب الالكتروني سيعمل على الحد من استخدام الورق، ومن ثم الإقلال من ظاهرة التصحر وتدمير الغابات، هذه التخيلات لا تعنينا من الإجابة إلى أين وصل الكتاب الرقمي من الناحية التقنية؟. الكتاب الالكتروني يقصد به الكتاب المخزن بطريقة رقمية، أي جرى إدخال كلماته ومحتواه على حاسب ما، سواء بطريقة معالجة الكلمات والنصوص، أي يجلس شخص إلى الكمبيوتر ويكتب الكتاب بالكامل على لوحة المفاتيح ويخزنه في ذاكرة الكمبيوتر أو يتم استخدام الجهاز المعروف باسم الماسح الضوئي في تصوير الكتاب الكترونياً وتخزينه على هيئة صور في ذاكرة الكمبيوتر, ثم التعامل مع هذه الصور بعد ذلك بطرقة أو بأخرى، كأن يتم تحويلها إلى نصوص باستخدام البرامج المتخصصة في ذلك، أو تغيير طريقة تخزينها لتلام أغراض القراءة الالكترونية على الحاسبات، وهنا يكون الكتاب جاهزاً للتوزيع والقراءة بشكل الكتروني مع الإشارة إلى أن غالبية دور النشر تلجأ إلى عرض الكتب على مواقع خاصة بها على الانترنت، في صورة ملفات قابلة للإنزال والتحميل على الكمبيوتر، ويقوم المستخدم بالشراء ودفع قيمة الكتاب الكترونياً عبر الشبكة، وقد يتم بيع الكتاب على وسائط تخزين معينة من محلات البيع والتوزيع، حيث يمكن نقله إلى الكمبيوتر الشخصي بعد ذلك، وعلى الرغم من الانتشار السريع للكتاب الالكتروني، إلا أن الكتاب المطبوع لا يزال هو الأقوى والأكثر انتشاراً، ولم تتحقق كل التوقعات التي صاحبت ظهوره، ويبدو أن أهم الأسباب التي أبطأت من تحقق هذا الانتشار عالمياً، يعود إلى أن مساحة شاشة القراءة في معظم الكمبيوترات المتخصصة في أغراض القراءة الالكترونية لا تزال صغيرة الحجم للغاية, وغير كافية تماماً بالنسبة للقراءة، فضلاً عن أن درجة الوضوح في الصفحة الالكترونية على الشاشة تقل كثيرا عن درجة الوضوح في الصفحة المطبوعة على الورق، وهذا الأمر ناتج من معادلة السعر والوزن والحجم المطلوب لكي يكون الجهاز سهل الاستخدام، ويجمع الكثير من المختصين والخبراء أن هذه المعضلة التقنية سوف تجد حلاً سريعاً لها، وهذا يعني أن الكتاب الالكتروني سوف ينافس بشدة الكتاب المطبوع، كما يواجه الكتاب المطبوع منافسة صريحة من الكتاب الالكتروني، فقد ظهرت أيضا الصحف الالكترونية وأصبحت تنافس الصحف الورقية منافسة شرسة باعتبارها الوسيلة الأسرع تحديثاً والأكثر تقنية نتيجة اعتمادها على شبكة الانترنت والتي ستحدث ثورة فعلية في إنتاج الصحف خلال السنوات المقبلة، لأن ظهور أجهزة الكمبيوتر الجوال والحاسبات الشخصية صغيرة الحجم بالإضافة إلى المساعدات الرقمية سوف تؤدي جميعها إلى عمل الصحفيين ومندوبي الإعلانات دون حاجة إلى وجودهم داخل المباني والمكاتب الصحفية، حيث أصبح بإمكانهم إرسال أعمالهم كملفات الكترونية عبر الانترنت وهذا ما يحدث الآن عالميا وفي بعض الدول النامية، كما أن تلك الصحف أصبح بإمكانها أن تتفاعل مع القارئ، حيث يستطيع التحاور والمناقشة وإبداء الرأي مع الكتاب والنقاد والقراء الآخرين في القضايا المطروحة عبر جريدته الالكترونية، وتساهم تلك الصحف في انتشار التجارة الإلكترونية وكذلك الاطلاع على الأرشيف الإلكتروني دون عناء، وهو ما ينذر الصحف ودور النشر بضرورة تطوير أنفسهم وتحديث منتجاتهم حسب متغيرات العصر الإلكتروني. هذه التحولات التي طاولت عادات القراءة والكتابة ترافقت كذلك مع ظهور الورق الالكتروني، وهو ورق قابل لإعادة الاستخدام مرات عدة ولانهائية، بالإضافة إلى مزاياه الاقتصادية الأخرى وقدرته على تخزين صورة لا يمكن رؤيتها تحت الضوء العاكس، بالإضافة إلى زاوية الرؤيا الواسعة, كما يمكن تجميع كمية من الورق على هيئة كتاب الكتروني يمكن تغييره وتحديثه. ويعمل الخبراء حاليا على اختراع صنف من الورق يقدم خدمات أخرى من بينها استخدامه كلوحة إعلانات متغيرة أو كشاشات عرض خاصة بأجهزة الكمبيوتر والكتب والمجلات والصحف الالكترونية، وسيكون له فعاليات وتطبيقات أخرى خلال السنوات القليلة المقبلة، من دون أن ننسى انه مع ظهور الكمبيوتر تطورت الطباعة تطورا هائلاً واختصرت العديد من المراحل الطباعية وذلك منذ ظهور الطباعة الرقمية، كما تغيرت العديد من المفاهيم، فبعد أن كانت الطباعة أولاً ثم التوزيع، أصبح الآن التوزيع أولاً ثم الطباعة، حيث يمكن إرسال جميع الملفات الرقمية إلى أماكن مختلفة من العالم عبر الانترنت، ثم تبدأ بعد ذلك عملية الطباعة، كما أصبح من الممكن انجاز العمليات الطباعية قليلة العدد من النسخ أو الطباعة عند الحاجة فقط، هذا بالإضافة إلى زيادة الإنتاج وارتفاع الجودة والكفاءة والتكافل بين المراحل الإنتاجية المختلفة وإمكانية التعامل من خلال شبكات الاتصال والاستخدام المتعدد للمعلومات الرقمية الواحدة.