مع نهاية الحرب الباردة شهد المجتمع الدولي زخماً من المفاهيم الجديدة والتي اختلفت فيما بينها من حيث طبيعتها والعوامل التي أسهمت في بروزها، فقد ارتبط بعضها بتحولات شهدتها البيئة الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة بحيث جاءت تلك المفاهيم لتعكس بعض جوانب تلك التحولات، في حين أن البعض الآخر منها جاء ليعكس مصالح القوى الدولية الدافعة بهذه المفاهيم بحيث يشمل المفهوم في هذه الحالة بعدين إحداهما ظاهر في حين أن البعد الخفي هو الأهم، فالمفاهيم الآن أصبحت أداة من أدوات القوى الكبرى لتحقيق أهدافها بعيدا عن المضمون الفعلي لتلك المفاهيم، من ناحية ثالثة فإن بعض هذه المفاهيم جاء تطويراً لممارسات كانت مستقرة لفترات سابقة. وفى السياق ذاته يلاحظ على هذه المفاهيم أن كلًّ منها جاء في مواجهة مفاهيم استقرت لفترة طويلة، فمفهوم التدخل الدولي الإنساني يأتي في مواجهة مفهوم سيادة الدولة، ومفهوم العولمة يأتي في مواجهة مفهوم مثل الخصوصية الثقافية، وفى مواجهة مفهوم الأمن القومي جاءت مفاهيم عدة ومن بينها مفهوم الأمن الإنساني، وإذا ما تطرقنا للأخير، فقد تمثّل أول ذيوع للمفهوم في فترة ما بعد الحرب الباردة في عام 1994 من خلال تقرير التنمية البشرية والذي تحدث عن مفهوم جديد للأمن جوهره الفرد "الأمن الإنساني"، تلا ذلك طرح المفاهيم من خلال دراسات أكاديمية وكذلك تبنى بعض الدول والمنظمات الإقليمية للمفهوم، إلا أن هذه ليست البداية لطرح المفهوم على المستوى الأكاديمي، ففي عام 1966 طرح «دبليو آي بلاتز» رؤيته حول الأمن الفردي، وذلك في كتاب له بعنوان "الأمن الإنساني: بعض التأملات"، حيث أكد على أن الدولة الآمنة لا تعنى بالضرورة الأفراد الآمنين أو تحقيق أمن الأفراد، وهو ما مثّل أول تحدى على المستوى النظري للفكر التقليدي القائم على محورية أمن الدولة وأن أمن الدولة هو الأساس في تحقيق أمن كل ما بداخلها من أفراد، ورغم ذلك، فلم تثر أطروحته آنذاك جدلاً حول مفهوم الأمن، وخلال السبعينيات والثمانينيات من القرن ال20 أُثير الحديث عن مفهوم أمن الفرد أو الأمن الإنساني من خلال مناقشة أبرز تحديات ومصادر تهديد أمن الأفراد وذلك بالأساس من خلال أعمال وتقارير بعض اللجان المستقلة، وكذلك من خلال أعمال بعض المؤتمرات الدولية، وهو ما جاء بالأساس في سياق محورين تعلق الأول منهما بالربط بين الأمن والتنمية، أما المحور الثاني فجاء من خلال الربط بين قضايا الأمن والتنمية والإنفاق على التسلح. ودون الدخول في كافة التفاصيل، فإن مفهوم الأمن الإنساني لم يُثر جدلا واسع النطاق في ذلك الوقت بحيث وجهت طبيعة وظروف الحرب الباردة الدراسات الأكاديمية والتي ركزت على دراسة قضايا الأمن بمعناه التقليدي، إذ انصب التركيز بالأساس على كيفية تجنب حرب نووية، بحيث مثّل الحديث عن الأمن الإنساني خلال تلك الفترة نوعاً من الرفاهية الفكرية، فقرار أي من الدولتين بالبدء في حرب نووية قد يترتب عليه عدم وجود الإنسان حتى يتم الحديث عن أمنه، ومع نهاية الحرب الباردة كانت هناك آمالُ بعهد جديد من السلم والأمن تعيشه الشعوب، إلا أنه ما لبثت أن كشفت تلك التحولات عن عمق مشكلات الأمن الإنساني التي يُعانيها المجتمع الدولي، وهو ما مثّل دافعاً أمام بعض الباحثين للاهتمام بقضايا ومصادر تهديد أمن الأفراد من مشاكل بيئية، وقضايا اللاجئين وتحولات للصراعات من صراعات بين الدول إلى صراعات داخل الدول. التعريف بالأمن الإنساني مع بدء تجدد طرح المفهوم في فترة ما بعد الحرب الباردة، أخذ تطور المفهوم يسير وفقا لمسارين: الأول هو تطور المفهوم على المستوى الأكاديمي من خلال طرح بعض الدراسات الأكاديمية للمفهوم في محاولة منها لتعميق المفهوم التقليدي للأمن، وذلك بإضافة الأفراد كوحدات تحليل بديلة للدولة، بحيث يصبح تحقيق أمن الأفراد هو محور السياسة العالمية وهو ما جاء بالأساس انعكاساً لمجموعة كبيرة من التحولات والتي كشفت عن عمق وخطورة مصادر تهديد أمن الأفراد وعدم ملائمة الاقتراب التقليدي للأمن لتحديد السبل الكفيلة بتحقيق الأمن الإنساني في القرن ال21، وهو ما يتطلب اقتراباً مغايراً يضع أمن الأفراد كأساس لتحقيق الأمن العالمي، وقد ركزت تلك الدراسات على مناقشة أنماط ومصادر تهديد الأمن الإنساني في القرن ال21 وتمايز مفهوم الأمن الإنساني عن مفاهيم الأمن الواقعي والأمن الشامل والأمن التعاوني من حيث اتخاذه الفرد كوحدة للتحليل، وكذلك مناقشة العلاقة بين مفهوم الأمن الإنساني ومفاهيم أخرى كالتدخل الدولي الإنساني والتنمية البشرية والحكم الرشيد وكذلك كيف يمكن لمفهوم الأمن الإنساني أن يكون مرشداً لصناع القرار عند صياغة السياسات الأمنية، وذلك من خلال التركيز على الأبعاد الإنسانية للقرارات السياسية والاقتصادية والأمنية، وبوجه عام يمكننا تعريف مفهوم الأمن الإنساني على إن مفهوم الأمن الإنساني جوهره الفرد، إذ يُعنا بالتخلص من كافة ما يهدد أمن الأفراد السياسي والاقتصادي والاجتماعي من خلال التركيز على الإصلاح المؤسسي وذلك بإصلاح المؤسسات الأمنية القائمة، وإنشاء مؤسسا تأمينية جديدة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية مع البحث عن سبل تنفيذ ما هو قائم من تعهدات دولية تهدف إلى تحقيق أمن الأفراد، وهو ما لا يمكن تحقيقه بمعزل عن أمن الدول. أما المسار الثاني فتمثّل في تبنى المفهوم على المستوى الإجرائي أو التطبيقي من خلال الإعلان عن الالتزام بمفهوم الأمن الإنساني كأساس للسياسات الداخلية أو الخارجية من قبل بعض الوحدات الدولية، وهو ما جاء من خلال تبنى المفهوم من قبل الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي ودول مثل كنداواليابان، كما تبنت بعض المنظمات غير الحكومية المفهوم وهو ما برز من خلال المبادرة الأفريقية للأمن الإنساني، وذلك من خلال إعلان الالتزام بالسعي إلى تحقيق الأمن الإنساني داخلياً "المبادرة الأفريقية للأمن الإنساني"، أو خارجياً الاتحاد الأوروبي، اليابانوكندا. وبالتركيز على المسار الثاني: يصبح التساؤل حول طبيعة العوامل التي أسهمت في هذا الأمر، فهل مفهوم الأمن تغير فعليا ليصبح الأفراد محور السياسة الأمنية في القرن ال21؟ أم أن طرح المفهوم يأتي في إطار محاولة تحقيق أهداف محددة سلفاً، فالمفهوم وإن كان قد جاء رداً على ما يُعانيه الأفراد من غياب للأمن نتيجة للتحول في أنماط الصراعات من صراعات بين الدول إلى صراعات داخل الدول، بالإضافة إلى العولمة وما توجهه من تحديات عدة للأمن البشرى، إلا أن بروز المفهوم يأتي بالأساس في ظل بيئة دولية وأمنية غير ملائمة وذلك في ظل هيمنة قطب دولي واحد، وسيطرة مفاهيم مثل التدخل الدولي الإنساني بغية تحقيق أهداف سياسية وأمنية بعيداً عن الاعتبارات الإنسانية والحرب الاستباقية والهيمنة على الدول الأخرى والتهميش الواضح لدور الأممالمتحدة والانتهاكات الواسعة لحقوق الأفراد تحت ادعاءات إنسانية، بحيث إن المضمون الفعلي للمفهوم وهو تحقيق أمن الأفراد لا يتناسب بشكل كبير مع طبيعة البيئة الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وكذلك منظومة المفاهيم المهيمنة في الوقت الحالي وخاصة منظومة المفاهيم غير المعلنة ومن بينها مفاهيم الهيمنة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو ما يطرح تساؤلاً إلى أي مدى يعكس طرح المفهوم رغبة فعلية في تحقيق الأمن الإنساني عالمياً بعيداً عن أية اعتبارات سياسية أخرى؟ ويتطلب التعرف على هذا الأمر دراسة الرؤى والمبادرات التي طرحت حول المفهوم وإلى أي مدى تهدف الدول من خلالها فعليا إلى العمل على تحقيق الأمن الإنساني على المستوى العالمي. الرؤية اليابانية.. نموذجا تطرح اليابان رؤية لمفهوم الأمن الإنساني تركز بالأساس على البعد التنموي للمفهوم، فرغم أن اليابان تعلن أنها تتبنى اقتراباً شاملاً للمفهوم من حيث التركيز على كافة أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إلا أن اليابان ركزت في تحركها الخارجي على البعد الاقتصادي أو التنموي، وذلك من خلال التركيز على تقديم المساهمة المالية لمشروعات تنموية تهدف إلى مساعدة الأفراد، يقوم التعريف الياباني للمفهوم على تحقيق كلٍّ من التحرر من الحاجة والتحرر من الخوف، إذ تقوم الرؤية اليابانية على أن الأمن الإنساني يمكن تحقيقه في حالة واحدة وهى عندما يعيش الأفراد حياة متحررين فيها من كلٍّ من الحاجة والخوف، وبذلك يشمل مفهوم اليابان للأمن الإنساني العناصر كافة التي تهدد البقاء البشرى وحياة الأفراد اليومية وكرامتهم ومنها التهديدات البيئية، وانتهاكات حقوق الإنسان والجريمة المنظمة وقضايا اللاجئين والفقر وانتشار المخدرات وانتشار الأمراض المعدية كالإيدز، وبعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001 لوحظ توجه في الخطاب الرسمي الياباني نحو إدراج الإرهاب الدولي على قائمة مصادر تهديد الأمن الإنساني في القرن ال21. وبالنظر إلى بداية تبنى اليابان لمفهوم الأمن الإنساني فتعود بداية الطرح الياباني الرسمي للمفهوم إلى عهد رئيس الوزراء الأسبق «كيوزى أوباتشى» وذلك عام 1998 أثناء قيامه بجولة في بعض الدول الآسيوية وهى تايلاند وماليزيا وسنغافورة وذلك بعد الأزمة المالية التي أصابت دول المنطقة، وأثناء الزيارة أعلن عن مفهوم الأمن الإنساني كعنصر أساسي في السياسة الخارجية اليابانية، مؤكداً على "أنه في ظل المخاطر التي تهدد البقاء البشرى في القرن ال21، فإن هناك حاجة لتبنى اقتراب جديد يتحول معه القرن ال21 إلى قرن يجعل من الإنسان محور الاهتمام"، وقد سعت اليابان في بداية تبنيها لمفهوم الأمن الإنساني إلى خلق توافق بين المفهوم والطبيعة السلمية للمجتمع الياباني، إذ أعلنت عن رفضها لفكرة التدخل باستخدام القوة لتحقيق الأمن الإنساني، إذ تحظر المادة ال9 من الدستور الياباني الحرب، وكذلك استخدام القوة لحل النزاعات حتى مع صدور قرار من البرلمان الياباني في عام 1992 ويُسمح بمقتضاه بإرسال عناصر من قوات الدفاع الذاتي للمشاركة في عمليات حفظ السلم الدولية التابعة للأمم المتحدة، ومشاركة القوات اليابانية في كمبوديا عام 1992، وموزنبيق عام 1993، وزائير عام 1994، وهضبة الجولان عام 1996، وتيمور الغربية عام 1999، وتيمور الشرقية عام 2002، إلا أن مشاركتها اقتصرت على المشاركة الفنية فحسب، لكن هذا الموقف حدث له تحول بعد ذلك مع قرار البرلمان الياباني في ديسمبر عام 2003 بإرسال عناصر من قوات الدفاع الذاتي إلى المشاركة في الغزو الأمريكي البريطاني للعراق.