أول ما يلفت نظرنا في هذا الواقع الثقافي، هو تعدد الثقافات فيه وتنوعها وإدراك إنسان العصر، أينما كان وفي أي دائرة حضارية يعيش، لهذه الحقيقة وذلك بفعل ثورة الاتصال التي عرفته بالصورة والصوت من خلال التلفزة ووجهاً لوجه من خلال السياحة ، بهذا التعدد والتنوع ، بدرجة لم يعرفها إنسان العصور السابقة، وحقيقة ثانية تلفت نظرنا في هذا الواقع، هي أنه يشهد تغيرات ومحاولات تغيير وتطورات ومحاولات تطوير في كل دوائر العالم الحضارية، وهذه التغيرات والتطورات وثيقة الصلة بالسياسة، والاقتصاد، والاجتمعاع وتبادل التأثير معها. - حقيقية ثالثة هي أن الوعي بالعامل الثقافي في الاجتماع الإنساني، هو اليوم قوي يدعو إلى أخذه في الاعتبار عند معالجة مختلف قضايا عالمنا ومشكلاته، وهذا عند «ألين تورين» عالم الاجتماع في مقاله "التحولات الاجتماعية في القرن ال20" بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، "هو الاختلاف الجوهري بين نهاية القرن ال19، شديد الانشغال بالعامل الاقتصادي والعامل العقيدي الأيديولوجي، وقد فشلت محاولات القفز فوق هذا العامل الثقافي التي قام بها بعض مخططي السياسة الخارجية الأمريكيين في الثمانينيات، كما أوضح «ميشيل فلابوس» في بحثه " الثقافة والسياسة الخارجية" الذي نشره في مجلة السياسة الخارجية" «Foreign Policy» في ربيع 1991 م، وقرر فيه أن الحقيقة الكبرى بالنسبة للقبائل العالمية، هي منطقتها الثقافية وليس القرية العالمية، ملاحظاً أن العالم الكبير نفسه هو سلسلة من المناطق الثقافية يخفق كل منها بنبض مئات الملايين، وانتهى «فلابوس» في بحثه إلى أن الإحساس بالنفس عند الشعوب يتشكل على مستوى المنطقة الثقافية، وليس على مستوى القومية أو الأممية، وهذا الوعي بأثر العامل الثقافي ينطلق، كما أوضح كاتب هذه الدراسة في كتابه "عمران لا طغيان" من حقيقة الانتماء لدائرة "عمران حضاري" فهذا الانتماء الذي يتمثل مشاعر القوم ويستند إلى رؤى العقيدة، يورث الإحساس بالنفس ووعي الذات والشعور بالهوية. - حقيقة رابعة هي أن هناك تفاعلاً جارياً بين الثقافات على صعيد المجتمع داخل الدولة الواحدة، وعلى صعيد المجتمعات بين الدول وهذا التفاعل الثقافي يقع في إطار التفاعل الحضاري بين الحضارات التي تضم كل واحدة منها عدداً من الثقافات، ويشهد هذا التفاعل صوراً من الحوار الإيجابي الذي يثمر تعاوناً، كما يشهد أحياناً صراعاً، ولقد شهد عالمنا خلال العقد الأخير من السنين، محاولة لجعل صراع الحضارات هو الأصل، وقام بالترويج لهذه الفكرة مراكز بحث أمريكية، وظهرت ردود أفعال وأستجابات قوية لهذه المحاولة في مختلف الدوائر الحضارية، شهدت التأكيد على أن هدف التعاون بين الحضارات لمعالجة قضايا عالمنا ومشكلاته هو الأصل، ومن بين أمثلة كثيرة على هذه الاستجابات، المؤتمر الدولي الذي دعت إليه منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الأسيوية، والذي أنعقد في القاهرة بين 10 و 12 مارس 1997 م بمشاركة مفكرين وسياسيين من مختلف أنحاء العالم، ناقشوا تساؤلاً مطروحاً هو "صراع الحضارات أم حوار الثقافات؟" وظهرت أعماله في كتاب قيم. - حقيقة خامسة هي أن مختلف الحضارات الموجودة في عالمنا اليوم، تتبادل التأث والتأثير فيما بينها بدرجات متفاوتة، وتقف واحدة منها هي الحضارة الغربية بثقافاتها، في أعلى سلم التأثير وتحتل مكانة خاصة لما حققته في القرون ال5 الأخيرة على صعيد العلم، وبفعل ما حدث من خروج أوروبي إلى القارات الأخرى وقيام دول أوروبية بالاستعمار بمختلف أشكاله في أوطان شعوب أخرى وتبرز اليوم في الدائرة الحضارية الغربية، محاولات قوى الهيمنة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، للتحكم في النظام العالمي والانفراد بقيادته رافعة شعار "النظام العالمي الجديد" والسيطرة على الأسواق العالمية من خلال فرض "عولمة" خططت لها الشركات الكبرى عابرة القارات، وقد أصبحت هذه العولمة ظاهرة لها أبعاد أخرى سياسية وفكرية وثقافية، وصار لها ثقافة تعرف بها هي "ثقافة العولمة" تحاول فرض أنماط تفكير وأساليب حياة "المجتمع الامريكي" على المجتعات الاخرى. - حقيقة سادسة، هي أن البعد الروحي في مختلف الثقافات يبدو جلياً من خلال قوة تأثير القيم الروحية وهناك اليوم في الدوائر الحضارية ظاهرة "إحياء روحي" يستلهم "المقدس" وهكذا يبرز دور الدين في الثقافة، وقد تناول كاتب هذا الحديث هذه الظاهرة في كتابه "تجديد إستجابة لتحديات العصر"، الذي خصص الباب الثالث فيه للفكر الديني، وكان مما أشار إليه قيام اليونسكو بتنظيم سلسلة ندوات عن "إسهام الأديان في ثقافة السلام" دائرتان حضاريتان تشهد أوساط المسيحيين والمسلمين صوراً من هذا الإحياء الديني نراها في الدائرتين الحضارتين اللتين يعيش معظمهم فيهما، وهما دائرة الحضارة الغربية ودائرة الحضارة الإسلامية، فأما الأولى فقد كانت المسيحية أحد مكوناتها، ويعيش فيها مسيحيون كثيرون من الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، وضمت منذ القديم عدداً من المسلمين تزايدت أعدادهم في نصف القرن الأخير، ويلاحظ إنجمار «كارلسون» مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية السويدية، في معرض رده على مقولة «صمئيل هنتغتون» حول صراع الحضارات "أن الثقافة الإسلامية ليست غريبة عن الغرب، حيث استمر الوجود الإسلامي في أوروبا طويلا، وأدى إلى تكامل فريد بين الرسالات الثلاث، وإلى أزدهار لم يسبق له مثيل للعلم والفلسفة، واليوم يوجد في أوروبا حسب تقديره، أكثر من 10 ملايين مسلم قد يصل عددهم في حدود عام 2020م إلى ما بين 25 و60 مليونا، بحيث لم يعد في الإمكان تصور الاتحاد الأوروبي دون مكون إسلامي له وقد أستوقف هذا القول ماهر الشريف في بحثه "أطروحات نهاية التاريخ وصدام الحضارات" الذي قدمه إلى مؤتمر "صراع الحضارات أم حوار الثقافات"، وأما الدائرة الأخرى فقد استلهمت رسالة الإسلام، وهي تضم مسلمين كثيرين من مختلف المذاهب، وقد شارك في ازدهارها مسيحيون يعيشون فيها ويهود أيضاً وأتباع ملل أخرى وهؤلاء جميعاً ينتمون إليها الأمر الذي جعل للإسلام في مصطلح الحضارة الإسلامية، مدلولاً حضارياً، فضلاً عن مدلول سلسلة الرسالات التي جاء بها الأنبياء "إن الدين عند الله الإسلام"، ومدلول الرسالة الخاتمة التي نزل بها الوحي على «محمد بن عبد الله» (ص). الواقع الثقافي في الحضارتين الغربية والإسلامية حين يكون الحديث عن دور مشترك للمسيحين والمسلمين يقومون به لمعالجة قضايا عالمنا، فإن من الضروري بعد أن تعرفنا على حقائق الواقع الثقافي في عالمنا، أن نركز النظر على هذا الواقع الثقافي في هاتين الدائرتين الحضارتين، بغية الوقوف على المناخ المحيط به، ذلك لأن لهذا المناخ تأثيره على أداء الدور، لقد صدرت دراسات كثيرة حول الواقع الثقافي في الغرب، فصلت الحديث عن مرحلة "ما بعد الحداثة" وهناك أنطباع قوي لدى المختصين، بأن إحساساً بعدم اليقين يشيع في الأوساط الفكرية والثقافية، فعدد المثقفين والمفكرين الذين يتخوفون من شبح الخواء الفكري وتراجع الروح النقدية في الفكر الغربي على اختلاف منطلقاتهم ومرجعياتهم في تزايد وهؤلاء يعارضون الرأي القائل ب"نهاية التاريخ" وأن النموذج الاقتصادي والسياسي لليبرالية الغربية، وهو سقف التطلع الإنساني، كما أوضح «ماهر الشريف» في بحثه الذي سبقت الإشارة إليه، ولقد سبق لكاتب هذه الدراسة أن نظر في كيفية رؤية الأوروبيين أنفسهم في هذه المرحلة، معتمداً على أعمال ندوة «هامبورغ» حول العلاقة بين الحضارتين الغربية والعربية، ولاحظ فيه "أن كثيرين من الغربيين غير راضين عن الحالة الحاضرة التي عليها الحضارة في أوربا الغربية، وهم يعانون من مرورهم بفترة عصيبة تتصف بفقدان الحيوية الاقتصادية، ويحنقون على خضوع أوربا السياسي والعسكري للولايات المتحدة، ويشعرون بالغيظ لعجزهم عن مجاراة حيوية اليابان في الميدان الاقتصادي، وقد أصبح إقتناعهم بما كانوا يعتبرونه رسالتهم ضعيفاً وتعمق الشك لديهم فيما اعتبروه حقاً لهم من قبل"، ويتداخل هذا الشك مع النقاش حول قيمة التقدم التقني.