هو رائد المسرح السوداني، صاحب "مسرح البقعة" عرف بحبّه للسلام ورفعه لشعار الفن في وجه البندقية، هدفه في الحياة نشر ثقافة السلام وراهن على أب الفنون كوسيلة لتحقيق ذلك، هو الفنان السوداني علي المهدي الذي استطاع بما له من كاريزما أن يلعب دوراً هاما في الحركة الثقافية والفنية ليس على مستوى بلده السودان فحسب بل وعلى المستوى العربي والإفريقي وحتى الدولي، حامل لمشروع مهم هو نموذج "المسرح في بؤر التوتر".."المساء" التقته بمناسبة استضافته ضمن فعاليات الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر الدولي للمسرح وأجرت معه هذا الحوار. - هذه ليست أوّل زيارة لكم للجزائر، أليس كذلك؟ لقد زرت الجزائر شابا في مطلع السبعينيات حيث شاركت في مهرجان الشباب العربي الأوّل في بن عكنون بين عامي 1971 و1972، وقدّمت عرضا مسرحيا بالمناسبة، ثم زرت الجزائر مرّة ثانية بين الشيخوخة والشباب عام 1991 وكنت وقتها أمينا عاما لاتحاد الفنانين العرب وأذكر أنني ابتعت من الجزائر في تلك الفترة كتبا ساعدتني كثيرا في تنمية رصيدي المعرفي. وآتي اليوم للتكريم في إطار المهرجان الإفريقي ومهرجان الجزائر الدولي للمسرح الذي ينظم في طبعته الأولى الذي يحمل شعارا مهما جدا "40 عاما وتعود إفريقيا للجزائر"، وأنا شاكر جدّا لهذا التكريم الذي يقدّم لي في إطار هذا المهرجان الذي اعتبره عرسا إفريقيا يفتح جسرا للعالمية..أنا أسعد الناس بهذا التكريم في الجزائر التي عشقتها وكانت ومازالت نموذجا للشعوب التي سعت للتنمية وبناء وإصلاح مجتمعاتها. - في افتتاحه لفعاليات المهرجان الثقافي الإفريقي، أكّد مفوّض الاتحاد الإفريقي أنّ رهان إفريقيا اليوم هو الثقافة ما رأيكم ؟ * نحن نراهن أوّلا على قيمة التعدّد والتنوّع في أشكال الثقافة الإفريقية، في الافتتاح الرسمي للتظاهرة بالقاعة البيضوية شهدنا هذا التنوّع وعشناه ورأينا كيف تستطيع الجزائر أن تجمع كلّ ذلك الفضاء الإفريقي الكبير الملوّن الذي يعترف بالآخر. والجزائر من خلال ذلك الافتتاح أعطت مثالا طيّبا للعالم وكسّرت الصورة المقولبة التي روجت حولها من طرف وسائل الإعلام من خلال العنف والإرهاب، فالجزائر اليوم هي منبع الثقافات والفنون، وما كان لدولة افريقية أخرى أن تنظّم مثل هذه الاحتفالية التي غابت أربعين عاما لولا هذه الجزائر التي نعرف، هذا التيار الإصلاحي هذه "الدعوة البوتفليقية" كما أسمّيها. لقد التقيت السيد الرئيس في أكثر من منبر ثقافي في بيروت...وغيرها واستمعت إليه كيف يتحدث هو من بين قادة التنوير، وكلّ القائمين على حركة الثقافة في هذا البلد يسيرون في هذا السياق وهم من أهل الشأن الثقافي في إفريقي، فإذا جاء احتفال بالثقافة الإفريقية ورموز الحركة المسرحية في القارة السمراء فذلك ليس بعيدا عن هذا التيار الغالب في الثقافة الإفريقية الذي يعود ليخرج من العاصفة. - لكن ما نراه في الواقع هو تمزّق وانفصال أوشبه قطيعة بين الدول الإفريقية؟ * أنا اتّفق معك، إفريقيا تعصف بها الاختلافات والتعارض في الرؤى والنزاعات والحروب في دارفور وفي التشاد والصومال... وفي كلّ إفريقيا التي تلتهي عن التنمية ورفاه الإنسان بالاقتتال، ومن يقتتل؟؟ أبناء الوطن الواحد..أنا أزعم من موقعي كمثقف ومشارك في الحركة الثقافية أنّ الحلّ الوحيد هو الثقافة وليس السياسة، إذا استطاعت الثقافة الإفريقية أن تدير هذا الحوار، طبعا نحن نعترف بالتنوّع والتعدّد الثقافي في إفريقيا لكن القيمة ليست في الاعتراف فقط لكن أيضا في إدارة هذا التعدّد. الجزائر أعطت نموذجا في ذلك من خلال الثقافة الأمازيغية والعربية، وقد كتبت مقالا في الخرطوم في هذا الصدد سميته "كيف استطاعت الجزائر أن تجعل التعدّد ممكننا بين الثقافة الأمازيغية والعربية"، وبالتالي إذا ما راهنا على الثقافة كمدخل للحوار فسنخفّف من حدّة الصراع. - عرف علي المهدي بتجربة "المسرح في بؤر التوتّر" هل يمكن أن نعرف أكثر هذه التجربة؟ * " المسرح في بؤر التوتّر" هو كيف تستطيع استخدام الفنون الأدائية في تعزيز السلام، وقد بدأنا هذه التجربة في دارفور وعرضناها في معسكرات النازحين، وقدّمنا هذا النموذج معتمدين على منهج احتفالي، بمعنى أن نقدّم عروضنا وسط الناس في المدارس، الجامعات، المعسكرات وفي الشوارع بدون إضاءة أوأيّ مستلزمات تقنية، واستخدمت في ذلك الفنون الأقرب للناس، فنونهم الشعبية، حكاياتهم، قصص الجدّات، ثم استخدمت ما يعرف بمسرح المنتدى القائم على طرح قضية داخل العرض أوالفرجة ونشرك الناس في حلّها ونأتي بحلول مفتوحة لنهاية المشهد. - وكيف كانت نتائج هذه التجربة التي أقلّ ما يمكن أن يقال عنها أنّها "شجاعة"؟ * لقد تركت هذه التجربة تأثيرا كبيرا جدّا، لا نقول أنّنا حللنا مشكلة الحرب في دارفور ولا ندّعي أنّنا قادرون على إنهاء الحرب في الصومال، لكن على الأقل سعينا كمبدعين على التأكيد بأنّ الفن قادر على التأثير، نحن كنّا نعرض والحرب تدور حولنا ولدي "سي، دي" لتلك العروض أتمنى أن تسمح لي الفرصة لعرضها من أجل الحديث عن التجربة، وخلال العرض تحكي لي سيدة أنّها لم ترقص أوتضحك منذ أن جاءت للمعسكر، لذلك أزعم أنّّ ساعتي العرض التي أمضاها فريق "مسرح البقعة " الذي أديره في تلك البؤرة من النزاع كان مؤشرا لإمكانية السلام، والدليل على ذلك أنّ هذا المشروع تدرسه اليونسكو وستصدره في كتاب. - لكن الكثير من الفنانين يرون أنّ الفنان ليس مطالبا بأن يعرّض نفسه للخطر وأن يدخل في فم الأسد، بل على المجتمعات الإفريقية أن تهدئ وتجنح للسلام لأنّ المناخ الطبيعي لتطوّر الفنون هو السلم؟ * لا، أنا أعتقد أنّه على الفنان في إفريقيا أن يندمج مع المشكلات وخاصة مشكلة الحرب، كما أنّ الفنان إذا لم يشارك في التعريف بالمعاناة التي يعيشها مجتمعه، فمن سيقوم بذلك، لقد كنا نعرض قبل أسبوع في واشنطن عملا مسرحيا عنوانه "بوثق صينار" و"صينار" هي مملكة سودانية قديمة قامت على فكرة العروبة، الزنجية، الأمازيغية والعربية لنعطي صورة أخرى عن السودان غير العنف..وأذكر أنّه مرّة اتّجهنا للعرض في منطقة بدارفور وطلبنا من العناصر المتناحرة إيقاف القتال لمدّة ساعتين فأوقف القتال لمدة ثلاث أيام وهذا جميل رغم أنّ الحرب استمرت بعد ذلك. أعتقد أنّ الفنان اليوم دوره يتعاظم خاصة في ظلّ المتغيّرات الجديدة القطرية والإقليمية والدولية، كشعوب إفريقية عانينا الكثير من العنف، كما أنّه لا نستطيع أن نتحدّث عن المشاكل الموجودة والعنف القائم ونحن جالسون بعيدا. - كثيرا ما ردّدتم أنّ فنون الأداء هي أسهل طريق لنشر ثقافة السلام، كيف ذلك ؟ * قطعا، الفنون الأخرى كالفنون التشكيلية والغنائية أيضا لها دور في ذلك، لكن فنون الأداء هي الأقرب للفرد لأنّ لها بعدا اجتماعيا، لذلك قلت في مشروعي الأوّل الذي سبق "مسرح بؤر التوتّر" وهو "مسرح بين الحدود"، فبيني وبينك حدود، فثقافتك حدّ وتفكيري حدّ،... لكنني أقول أنّ المسرح يستطيع أن يجسّد هذه الحدود، لا أدعو إلى إزالة الحدود، لكن أراهن على أن يكون هناك مفتاح بيني وبينك، عندما تفتح الشباك بالضرورة ضغط الهواء سيفتح الباب، وإذا فتحت الباب وقفت على العتبة وإذا وقفت على العتبة بإمكانك إدراك ماذا هناك ومن ثمّة تضيفين شيئا إذن تشاركين في الحوار. - قلتم أنّكم تعتمدون في مسرحكم على الاحتفالية هذا يعني أنّكم ترفضون الخطابية السياسية في المسرح والأسلوب التلقيني الذي يعتمده غالبا المسرح العربي؟ * فعلا، تخطّينا ذلك بمراحل أيّ منذ 1997 عندما طرحت منهج التكوين في الاحتفالية قلت أنّني أراهن على مسرح يذهب إلى الناس ويتحدّث بلغتهم، أنا لا أتّحدث عن تواريخ، أنا استدعي التاريخ إذا أدركت أنّ هناك حاجة ما يمكن أن تماثل الراهن وبالتالي يمكن التمثّل بها وتكون جزءا من مشروع حي، لكن تركيزي اليوم هو على نقطتين أساسيتين هما السلم وثقافة السلم، وموضوع أهم هو كيفية الاستفادة من الفنون الأدائية في تعزيز هذا السلام، ثمّ في ما بعد السلام أي بناء القدرات عند الإنسان العادي، لأنّ الحرب تشلّ كلّ القدرات وتنهك البشر. - وأين تصنّفون تجربتكم ضمن الحركة المسرحية السودانية؟ * التجربة المسرحية السودانية تفرّدت خلال العقدين الماضيين على أنّها اتكأت على التراث الثقافي السوداني ببعده العربي الإسلامي الإفريقي، لأنّها المكوّنات الحقيقية للثقافة السودانية، وتجربتي من خلال "مسرح البقعة" أو"الاحتفالية في التكوين" أو"مسرح بين الحدود" أو"مسرح في بؤر التوتّر" كانت كلّها نتاج جهد كبير بيننا وبين كوادر كبيرة في الحركة المسرحية السودانية هي التي أسّست ما يسمى ب"تيار البقعة المسرحية"، هذا التيار أنا طرف فيه لكنّه أصبح اليوم يضمّ الكثير من المخرجين والكتّاب...وصاحب ذلك حركة نقدية مهمة أثرت أكثر المسرح السوداني. - دورة المهرجان الثقافي الإفريقي تحمل شعار "عودة إفريقيا" هل تعتقدون أنّ هذه التظاهرة قادرة على الوصول إلى عمل مشترك بين مختلف الدول الإفريقية في المجال الثقافي على الأقل ولنقل في المسرح باعتباره مجال تخصّصكم؟ * ذلك أقصى ما نتمنّّى، أنا أدعو من هذا المنبر المسرح الجزائري الذي أعرفه جيّدا وتعلّمنا منه الكثير ونحفظ روّاده الذين ساهموا في الحركة المسرحية الإفريقية وتركوا أثرا أيضا في المسرح العربي، إلى ضرورة بناء شراكات مستنيرة بين المسرح الجزائري والسوداني. بل وأدعو عبر جريدتكم المسرح الجزائري لحضور مهرجان "أيام البقعة" المسرحية التي ننظّمها منذ تسع سنوات، خاصة وأنّنا سنحتفل في هذه الدورة التي تنظّم من 27 مارس إلى 4 أفريل 2010 بمرور عقد من الزمن على إطلاق المهرجان. في الأعوام الماضية قدّمنا المسرح التونسي، الأردني، الإماراتي، الأوغندي والأثيوبي... الدورة القادمة سنكرّسها للمسرح الجزائري وندير حركة نقاش تدرس مدى تأثير المسرح الجزائري في تأسيس الحركة المسرحية الإفريقية والعربية، وتكمن أهمية استضافة المسرح الجزائري أيضا في تماثل التجربة الجزائرية والسودانية لا سيما في ميدان العنف، العنف اللفظي والحركي.