يرى «لوك» أن هذه مرحلة الطبيعة تتسم بالحرية والمساواة الكاملة كما ذهب «هوبز» إلى ذلك، إلا أن هذه المرحلة لا تؤدي إلى حالة حرب الكل ضد الكل كما صورها «هوبز»، والسبب في ذلك هو أن العقل الطبيعي يعلم الناس أنه لا ينبغي لأي فرد أن يلحق ضرراً بغيره، لا بحريته ولا بحياته ولا في ملكيته طالما أنهم جميعاً متساوون ومستقلون، وفي بحثه عن أسباب نشوء السلطة التي دفعت المجتمع للانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني، يذهب «لوك» إلى أن الناس في حالة الطبيعة "حالة السلام والحرية والمساواة"، يبقون دائماً عرضة لبعض المساوئ التي يمكن أن تتفاقم وتهدد مصالحهم العامة، ذلك أن من سمات حالة الطبيعة السلبية هي أن كل فرد هو السيد والقاضي في معالجة قضاياه الخاصة، ولما كان الحال كذلك فمن المحتمل ألا يراعي هذا الفرد العدل، فينحاز لمصلحته أو يعاقب بدافع الهوى والانتقام، وهذا ما يجعل من المصالح الشخصية الظاهرة الأبرز في حالة الطبيعة، فهي سبب من أسباب استشراء الحقد والعدوانية، فالأفراد الخاصين لا يستطيعون أن يديروا منازعاتهم بأنفسهم، لأنه لا يتوقع من الناس أن يفصلوا في أمورهم بنزاهة، لذلك صار قيام سلطة عامة وقانون عام ملزم أمرين ضروريين من أجل تجاوز ظاهرة فقدان القانون العام، نحو بناء القانون الملزم لكل الأفراد إطاعته، الأمر الذي ينتج عنه بناء المجتمع وفق قوانين تطبق على الجميع وتحمي مصالح الأفراد في الحياة، ذلك أن حالة الطبيعة مليئة بالعيوب التي تنحصر في عدم توفر وسائل تنظيمية لعلاقات الأفراد فيما بينهم مثل: 1- القوانين الموضوعة والموافق عليها برضا الأفراد جميعهم. 2- القضاة الغير منحازين في ما يخص حسم الخلافات بين الأفراد طبقاً لنصوص القوانين الموضوعة. 3- سلطة تنفيذية قادرة على تأمين تنفيذ الأحكام الصادرة عن القضاة. تتصف هذه الوسائل التنظيمية بقدرتها على حماية المصالح الخاصة للأفراد والمصالح العامة للمجتمع، ففي حال أدخلت هذه الوسائل برضى الأفراد مشتركين لتنظيم علاقاتهم في حالة الطبيعة يكون قد تم التغيير، أي الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني، هذا الانتقال لا يمكن أن يحصل من دون وجود قوانين أو وسائل تنظيمية للمجتمع، ولا يمكن أن يحصل أيضاً من دون رضى الأفراد وقبولهم الخضوع لهذا النمط الجديد من أنماط إدارة المجتمع، هذا من جهة حالة الطبيعة التي نجد فيها «لوك» بقدر ما يقترب من «هوبز» بقدر ما يبتعد عنه، فهو من جهة يتفق مع «هوبز» على أن حالة الطبيعة حالة مساواة وحرية، ولكنه يختلف عنه في وصف هذه الحالة على أنها حالة حرب الكل ضد الكل، ويتفق مع هوبز على أن الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني تم بفعل الحاجة إلى القوانين التي تسهم في تنظيم المجتمع، ولكنه يختلف معه حول شكل السلطة المنبثقة عن تلك الحاجة. الاختلاف الثاني هو الأهم في حديثنا عن مفهوم «لوك» للسلطة، بيّنا سابقاً في حديثنا عن مفهوم «هوبز» للسلطة كيف أنه يدعو إلى سلطة مطلقة لا سلطة مجزئة أو ضعيفة، بخلاف هذا المفهوم يدشن «لوك» مفهوم جديد للسلطة، سيكون له أثره البالغ في حقل الفكر السياسي، سواء كان ذلك الأثر على مستوى النظرية أو على مستوى التطبيق، يرى «لوك» أن سلطة الحاكم يجب أن تكون مشروطة بالثقة التي يمنحها الأفراد للحاكم مقابل تأمين الخير والأمن لهم، فبالنسبة ل«لوك» الحكومة بما فيها الملك والبرلمان مسؤولة أمام الشعب، كما أن سلطتها مقيدة بالتزام قواعد الأخلاق والتقاليد الدستورية، وهذا يعني أن «لوك» يطمح في حديثه عن السلطة إلى الوصول إلى حكومة مهمتها خدمة المصلحة العامة للمجتمع، انطلاقاً من المسؤولية الملقاة على عاتقها، فالحكومة المدنية ليست سوى وكيلة على الواجبات الملقاة على عاتقها في سبيل الصالح العام ورفاهية المجتمع، معنى ذلك أن السلطة في نظر «لوك» ليست سوى وديعة من قبل الشعب للحكومة تستخدمها في سبيل الخير العام، لهذا كان المبدأ الرئيسي في فلسفته السياسية هو إرساء الحكم على الموافقة، بوصفها المبدأ الرئيسي لكل حكومة تريد لنفسها أن تكون شرعية أمام الشعب، ف«لوك» بقدر ما كان يؤمن بأن الحكومة ضرورة لابد منها لخدمة المصلحة العامة، فقد كان يؤمن بأن هذه الحكومة تستمد حقوقاً من الشعب لا يمكن أن تنتزع منها طالما هي حائزة على ثقته المرهونة بتأدية واجباتها وفق القانون أو وفق العقد الاجتماعي الذي تم إبرامه بين السلطة والمجتمع، وفي حال انتهك الحاكم شروط العقد بينه وبين المجتمع، أي انتهك الحفاظ على المصلحة العامة، يصبح من حق الشعب سحب ثقته وبالتالي وديعته، ويكون بذلك يستعيد سيادته الأولية ليستودعها من يراه أهلاً لها من جديد، مثال «لوك» على ذلك هو ما حصل في انجلترا، حيث أن سلطة الملك أفضت إلى إحلال الإرادة الكيفية محل القانون، الحيلولة دون اجتماع البرلمان في موعده المقرر، خيانة البلاد لمصلحة أمير أجنبي، وارتأى «لوك» أن مثل هذه الأعمال غير المشروعة تعيد الشعب إلى حالة الطبيعة ويصبح من حقه ممارسة حقه الطبيعي في العصيان ومقاومة الحاكم إذا ما عمل بخلاف المصلحة العامة للمجتمع، بهذا الشكل يكون «لوك»قد انتصر في فلسفته السياسية للمجتمع، مبرراً حق الأفراد في الخروج عن طاعة الحاكم، في حال مارس الحاكم سلطته بشكل يضر بالمصلحة العامة للمجتمع، الذي عمل «لوك» على تقوية سلطته مقابل سلطة الدولة، وتلك هي الثنائية التي عمل «لوك» ومعظم فلاسفة السياسة الذين سيأتون بعده عليها، أي ثنائية السلطة والمجتمع، ذلك أنه كلما ازداد المجتمع المدني قوة تحققت له الحرية الكافية ليكون مجتمعاً مدنياً حقيقياً، في حين أنه كلما ازدادت الدولة ومؤسساتها السلطوية قوة وجبروتاً ضعف المجتمع المدني، والمعنى الأخير هو ما لم تكن فلسفة «لوك» السياسية منتصرة له كما هو الحال مع «هوبز»، وبناءً على ما تقدم من عرض، لما اتسمت به فلسفة «لوك» السياسية من نزعة نقدية سمتها الهدم المتبوع بالبناء، سنوجز ها هنا جملة من الاختلافات ما بين رؤية «هوبز» و«لوك» للإنسان والسلطة. «هوبز» 1- الإنسان في حالة الطبيعة يعيش حالة حرب الكل ضد الكل. 2- الإنسان كائن عدواني يحب التسلط والنفوذ. 3- السلطة يجب أن تكون مطلقة، فالحاكم هو مصدر التشريع، وهو من يتكفل تأمين شروط الحياة الاجتماعية والسياسية 4- عدم وجود سلطة قوية مطلقة هو رأس الفوضى والاضطراب. «لوك» 1- الإنسان في حالة الطبيعة يعيش حالة حرية ومساواة كاملتين 2- الإنسان كائن اجتماعي عاقل متساو في الجوهر لأخيه الإنسان. 3- السلطة يجب أن تكون مشروطة بالثقة التي يمنحها الأفراد للحاكم، وفي حال خرقت السلطة العقد الاجتماعي يحق للشعب الثورة، لأن السلطة ما هي إلا جهة مخولة بحماية حقوق الأفراد في الحياة والحرية والملكية. 4- وجود سلطة مطلقة تحد من الحرية هو أسوأ الشرور. إذا كان «هوبز» قد مهد للفلاسفة الذين سيأتون بعده بفكرتين أساسيتين؛ الأولى وهي إبراز فكرة المصلحة الشخصية للأفراد بوصفها الدافع المحرك للنشاط الإنساني؛ والثانية هي إنماء سلطة القانون، فإن هذا التمهيد لا يعفي من القول بحق «هوبز» أنه يظهر مقارنة ب«لوك» داعية إلى نظام توتاليتاري من دون حدود، في حين أن فلسفة «لوك» السياسية وإن لم تتسم بالعمق الفلسفي وسعة الأفق، إلا أنها عبرت بشكل نظري عن مشاعر الناس في كل مكان بوجوب لجم السلطة المطلقة، لدرجة أن هذه الفلسفة تركت أثراً بالغا ودائما على الوعي السياسي في أوروبا الغربية وأمريكا، وذلك لما قدمته من أسس وقواعد لمفهوم الديمقراطية الليبرالية، التي ظهرت على أساسه إعلانات حقوق الإنسان خلال الثورتين الأمريكية والثورة الفرنسية، وهذا ما جعل «لوك» مرة ثانية مقارنة ب«هوبز» أكثر تأثيرا في عالم السياسة العملية، ذلك التأثير الذي كنا قد أشرنا إليه في المقدمة، والذي يرجع إلى إسهامه في تدشين أحد أكثر مبادئ الليبرالية الأوربية الحديثة محورية، مبدأ أن الحكم موجود لحماية حقوق وحريات الموطنين ومبدأ أن على الحكم أن يبقى مقيداً ومنضبطا لضمان الحد الأقصى الممكن من حرية كل مواطن، لهذا تم اعتباره رائداً مهد لقيام تقليد قوي وصدور تشريعات تضمن حق المواطن في التعبير العلني عن رأيه في القضايا السياسية والانضمام إلى الجمعيات العامة، وهذا هو جوهر الاختلاف بين الخطابين خطاب «هوبز» المحصور في زمان ومكان معينين، لأنه خطاب ميزته الرئيسية إنه لم يكن يتطلع إلى المستقبل، مستقبل المجتمع في نشدان الحرية والمساواة في الحقوق السياسية بوصفها حق طبيعي للإنسان وليست منحة من أحد، وخطاب «لوك» المفتوح والقابل للتمثل في كل زمان ومكان، لأنه خطاب ميزته الرئيسية أنه تحدث عما في داخل كل إنسان يتطلع إلى المستقبل وينشد تجسيد كل المفاهيم التي تصب في صالح المجتمع ، من هنا أتت أهمية فلسفة «لوك» السياسية.