دأَب الناس أن يتخذوا من مظاهر الإقبال على المساجد ومن مظاهر تزايد الحجيج المتجه إلى بيت الحرام دليلا على أن المسلمين لا يزالون بخير وأنهم ملتزمون بأوامر الله عز وجل، مبتعدون عن نواهيه، ولكن البيان الإلهي يضعنا أمام مقياس آخر، يقول الله سبحانه وتعالى "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ"، وقوله تعالى "يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، استشهاد بصلوات العبد، بركوعه وسجوده، استشهاد بطوافه حول بيت الله العتيق، لكن ذلك ليس دليلا، يقول تعالى "وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ". لماذا يا رب؟ يأتي الجواب "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَاد"، إذاً هذا هو المقياس، إصلاح المجتمع أو العكوف على إفساده، وليتأمل المسلم كيف يؤكد البيان الإلهي هذا المقياس عندما يقيد ربنا الإيمان دائما، لا بصلاة وحج، ولكن بالعمل الصالح، قال تعالى "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا" وقال "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ"، هذا هو المقياس الذي عليه تم بناء أساس الاستخلاف في الأرض، وهذا القول لا يعني أن الصلاة غير ذات جدوى، ولكن الصلاة لابد لها من ثمرات والثمرات تكمن في رعاية إصلاح المجتمع والابتعاد عن إفساده، فإن لم تتحقق هذه الثمرات فصلاة هذا الإنسان ربما كانت مردودة، وقد روى «الطبراني» من حديث «عبد الله بن عباس» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا"، وإذا اتخذنا من هذا المقياس الذي رسمه لنا بيان الله سؤالا عن واقعنا المعيش؛ أهو يتجه صعدا إلى مرضاة الله عن طريق إصلاح المجتمع أم هو يرجع القهقرى بسبب عكوفنا على الفساد والإفساد فيه، هل اختفت الرشوة من مجتمعاتنا الإسلامية؟ تلك الجريمة التي تسري ما بين الراشي والمرتشي، تلك الجريمة التي كادت أن تشل فاعلية القوانين والشرائع. اعتدال المجتمع علامة سلامة الطريق إن كانت هذه الظاهرة قد اختفت أو تقلصت فلنعلم أن المسلمين بخير كما يقول بيان الله سبحانه وتعالى، هل أقلع التجار والبائعون عن الغش وأنواعه، وما أكثر أنواع الغش، إن في السلعة ونوعها أو في الثمن والأكاذيب التي تحاك من حولها، هل أقلع هؤلاء التجار والبائعون عن الغش وأنواعه وآثروا أن يكونوا في عملهم خداماً لمجتمعاتهم؟ إن كانوا قد أقلعوا عن ذلك أو تقلص ذلك من حياتهم، فلنعلم أن المسلمين بخير وأنهم متجهون إن ببطء أو بسرعة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. هل غدت المشافي العامة مظهراً بكل من فيها لخدمة المرضى ورعايتهم والسهر عليهم؟ هل أصبح الأطباء المناوبون يقضون لياليهم إلى جانب مرضاهم يؤنسونهم، يرعونهم ويخدمونهم؟ هل يعكف الممرضون والممرضات في هذه الليالي على هذا الواجب الأقدس أم أنهم يتخذون من لياليهم ساعة فكاهة ومالا أدري ما أقول؟ إن كانت هذه المشافي قد أقلعت عن هذا الأمر، فلنعلم أن المسلمين بخير وأنهم متجهون إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. الموظفون والمسؤولون على اختلاف مراتبهم هل أقلعوا عن أن يجعلوا من وظائفهم مطايا لمصالحهم الشخصية وعادوا فعاهدوا الله عز وجل على أن يجعلوا من أنفسهم مطايا لمصلحة الأمة؟ إن كانوا قد عاهدوا الله على ذلك فالمسلمون بخير. التضحية بالدنيا.. اربط السبب بمسببه الصلاة وحدها ستار يستر هذا السوء وليس هو الذي يقرب إلى الله وما يقرب إلى الله هو العمل الصالح، ولكن كيف السبيل إلى أن نُخرِج حب الدنيا من قلوبنا، وحب الدنيا هو السبب لكل هذه المفاسد التي قد نتورط فيها؟ السبيل سبيل قصير سهل، وهو أن تمتنّ وأن تزيد من حب الله عز وجل بين جوانحك، ولكن كيف السبيل إلى أن تزداد حباً لله؟ سبيل ذلك أن تربط النعمة بالمنعم، افعل ذلك تحب ربك، وإذا أويت في المساء إلى فراشك فاذكر أن الذي يكرمك بنعمة النوم هو ربك واحمد الله على ذلك، فإذا استيقظت بعد ساعات ورأيت نفسك قد تنشطت من عقال، فاذكر الإله الذي أيقظك بعد نوم وأحياك بعد موت، وهكذا اربط نعم الله عز وجل بالمنعم تحبّه، وعندئذ تتجه إلى أن تضحي بدنياك في سبيل من تحب بعد أن كنت تضحي بأوامر الله عز وجل وأحكامه في سبيل دنياك.