تصورات للحدث التاريخي هناك تصورات متعددة تحاول تفسير ظاهرة التحول المفهومي الشامل الذي عاشته أوروبا، سنذكر أهمها: - من التصورات التي اشتهرت في أوائل هذا القرن ذلك الذي كونه العالم والمؤرخ الفرنسي «بيير دوهيم»، والذي يعين اللحظة الفاصلة في تطور العلم في وسط القرن ال14 في جامعة باريس على يد علماء مسيحيين أشهرهم «جان بوريدان» و«نيكول أورزم»، ففي نظر «دوهيم» هناك اتصال واضح ومسترسل بين فيزياء «كاليلي» وفيزياء علماء باريس، حيث انتقلت إليه هذه من خلال تمدرس الذين أخذ عنهم «كاليلي» في باريس مباشرة أو عن طريق التأثير غير المباشر، ويرى أن الدفعة التأسيسية للعلم الحديث تبلورت كرد فعل نقدي وتفنيدي للعلم الأرسطي والآخذين به في التقليدين الهلنستي والإسلامي، ويوجه نقدا لاذعا ل«ابن رشد» والأرسطيين حيث يتهمهم بأنهم جمدوا الفكر بدفاعهم المغفل عن الأسلوب الأرسطي في الفكر الذي ينفر من التناول الرياضي للموضوعات المبحوثة، فالعلم الحديث في نظره وليد التقليد الباريسي الذي وجد من يتمسك به ويطوره من أساتذة وعلماء و«كاليلي» ومنافسوه كانوا ورثة هذا التقليد الباريسي، وفي صفحات كثيرة من كتاباته يشيد «دوهيم» أيما إشادة بعلماء باريس المسيحيين الذين وقفوا في وجه الإتباع الأرسطي، لكن التفسير الذي يقدمه «دوهيم» لبروز هذا المد المناهض لفكر «أرسطو»لا يبين تطورا مفهوميا مطردا في صورة تجريب واستدلال؛ بل يرجع الفضل في ذلك التحول المفهومي إلى قرار المنع الذي أصدرته سلطة الكنيسة في شخص «إتيين تومبيي» بأمر من روما بخصوص تدريس وتداول دعاوى فلسفية جلها أرسطية ورشدية، وهكذا يكون المنع بردا وسلاما على تقدم الفكر، لأنه فتح آفاقا جديدة خصبة غير أرسطية في تحليل الظواهر، فقد تطورت فكرة القوة الدافعة "الميل، إمبتوس" على يد «جان بوريدان» و«نيكول أورزم»، التي كانت الأساس النظري الذي تطور مع تجدد التجارب وأدى إلى فكرة العطالة، ذلك المبدأ المركزي في الفيزياء الحديثة. - لقد كانت فكرة السببية الأرسطية المرتبطة بقدم العالم تحول دون تقدم النظر؛ فأتى قرار منع الدعاوي التي تحد من قدرة الخالق، ليفتح المجال لفكرة تعدد العوالم والدفعة الأولى وقدرة الله اللانهائية، وفي نظر «دوهيم» فالعلم الحديث تمخض عن هذه الدعاوى الإيمانية اللاأرسطية، إذ كتب "إذا كان لا بد من تعيين تاريخ لميلاد العلم الحديث، فإننا نختار ولا شك تلك السنة 1277م التي أعلن فيها أسقف باريس رسميا أنه يمكن أو توجد عوالم كثيرة، وأن مجموع الأفلاك السماوية يمكن أن تسكنها حركة مستقيمة، وذلك بدون وقوع في تناقض"، فالعلم الحديث في تصور «دوهيم» ولد على إثر قرار ديني ضد أفكار «أرسطو» ثم تطور باطراد واتصال حتى القرن ال17 بدون إعادة نظر ولا تحول مفهومي يضع المسلمات موضع سؤال وبحث جديدين، بينما يعتبر إنجازات العلماء غير المسيحيين -أي المنتمين إلى الفترتين الهلنستية والإسلامية بالدرجة الأولى امتدادا اتباعيا لتعاليم «أرسطو» أي غير مثمرة علميا وسنعترض على تصور «دوهيم» من عدة أوجه: 1- صحيح أن قرار عام 1277 قد ساهم شيئا ما في البحث عن الأفكار غير الأرسطية، وقد صدر ذلك القرار 3 سنوات بعد وفاة «توماس الأكويني» الذي حاول الجمع بين فلسفة «أرسطو» وتعاليم الدين المسيحي، مع الاتجاه نحو جعل الفلسفة خادمة للدين؛ وكذلك جعلت الرياضيات والمعارف الأخرى في خدمة الدين لدى كثيرين، بينما تشبث فلاسفة آخرون بالتصور الرشدي الذي يجمع بين فلسفة «أرسطو» والدين مع جعل الفلسفة مستقلة عن الدين ولا تخدمه، وقد عرف التصور الرشدي انتشارا واسعا في أوروبا منذ ترجمة أعماله «البطروجي» و«ابن باجة» و«ابن طفيل» في أوائل القرن ال13، إن الفكر غير الأرسطي الذي تطور خلال القرن ال14 لم يقطع مع «أرسطو»، لأن فلسفة المعلم المشائي ظلت تناقش حتى القرن ال16، ومفهوم القوة الدافعة غير-الأرسطي، كمفهوم مركزي في البناء المفهومي لفيزياء القرن ال14، تطور عند «جان فيلوبون» و«ابن سينا» و«ابن باجة» منذ قرون عديدة، لا يتناقض مع التصور العام للفلسفة الأرسطية أو تأويل معين لها كما تداولها الدارسون آنذاك، فلم يبق مجال لفكر أرسطي واحد ومنتهي بعد قرون من التأويلات، بحكم التأليفات المتعددة بين مكونات المذاهب المختلفة. 2- الفكر التجديدي للقرن ال14 يندرج في دينامية مفهومية وثقافية شاملة لا يعير لها «دوهيم» أي اهتمام، فالبحث عن الكتب والمخطوطات والترجمة من اللغات اليونانية والعربية والعبرية وربما الفارسية وغيرها، استمر بدون انقطاع، وكلما ترجم عمل مهم جديد كان له وقع على الدارسين ودخل في سياق الجدل الشامل الذي عم الجامعات الأوروبية منذ أواخر القرن ال12، وليس مرد تطور الفكر العلمي في القرن الرابع عشر إلى منع دعاوي أرسطو وابن رشد بالدرجة الأولى، بل مرده بالأساس إلى الاطلاع الواعي على إنجازات «آرخميدس» و«أقليدس» و«بطليموس» و«ابن الهيثم» و«ابن سينا» و«البطروجي» وغيرهم في ميدان العلوم الوضعية التي تتبلور على إثر برامج للبحث من أجل إيجاد حلول لمسائل محددة. وقد كانت إنجازات هؤلاء تسير في خطى تقليد البحث العلمي، الذي تعود جذوره إلى التقليد الأودكسي-الأرخميدي، والذي كان يحاور إرث «أرسطو» وينتقد بعض مظاهره ولا يعاديه، تماما كما كان يحاور إرث «أفلاطون»، بل إن البعض مثل «ابن الهيثم» و«ابن سينا» جددوا في جل العلوم العقلية تجديدا مهما بدون الابتعاد عن الإطار الفلسفي الأرسطي إلا بدرجات بسيطة. 3- الدينامية المفهومية التي عرفتها هذه الفترة تنخرط في تجديد شامل في العلاقات الاجتماعية والحضرية والفنية، فقد عرف أوائل القرن ال14 تطورا في المدن والتجارة وأدوات العمل والأسفار والرحلات كما عرف تجديدا في الآداب والموسيقى والمعمار والفنون التشكيلية، إن الاكتشاف العلمي نشاط مفهومي يمارسه أفراد يتبادلون الأفكار حول مواضيع محددة ويتنافسون كأفراد وكمؤسسات ويخطون برامج للعمل، وهؤلاء يتفاعلون مع محيطهم الاجتماعي والمؤسسي؛ ولا يمكن تصور مجتمع جامد منغلق يجدد في العلم. وعيب تصور «دوهيم» أنه يتغافل كل هذا الاندماج العضوي بين الممارسات المفهومية ويجعل ميلاد العلم الحديث مرهونا بقرار المنع، وكأن الفكر معزول عن محيطه المهني والاجتماعي والمؤسسي، وبالمقابل يربط ربطا مباشرا ومتعسفا بين فصول القرار التي تتحدث عن القدرة الإلهية والبحث العلمي في ظواهر طبيعية محصورة المجال. 4- تتحكم في تصور «دوهيم» لتبلور العلم الحديث خلفية إبستمولوجية تتميز بكونها تعتبر النظرية العلمية مواضعة تتكون من عدد من القضايا تقارب الظواهر التي تتحدث عنها دون أن تتمكن من التعبير عن علاقات حقيقية بين مكونات واقعية للمجال التجريبي، ولهذا نجد «دوهيم» متشبثا بالمبدأ القديم الذي كان يرى أن وظيفة النظرية الفلكية تنحصر في حسابات استنباطية من أجل إنقاذ المظاهر (الظواهر) ولا ترمي إلى تفسير الظواهر في واقعيتها الأنطلوجية، ويرى أن خصوبة النظرية العلمية تكمن في إبعادها لفكرة القدرة على فهم الواقع؛ ويمجد التقليد الباريسي لأن هذا الأخير أخذ صراحة، في نظره، بمبدأ "إنقاذ المظاهر" في مقابل واقعانية «أرسطو» الميتافيزيقية، ويدعي أن لا نظرية تستطيع بناء جهاز مفهومي يعبر عن العلاقات بين حركة الأجرام السماوية ومواقعها من أجل تفسير الظواهر المرئية للعين المجردة، لأننا لا نستطيع إدراك تلك العلاقات في واقعيتها، بل إن الحديث عن واقعية الظواهر من قبيل الميتافيزيقا وليس من العلم، في نظره، ولهذا يعجز تصور «دوهيم» عن إدراك وظيفة النظرية العلمية الأساسية التي تتمثل في تفسير الظواهر عن طريق الربط بين مكوناتها، ما بدا منها وما خفي. وربما أعذر لأنه عاش في فترة قلق مفهومي في تاريخ العلوم الفيزيائية، وهي فترة انتقالية، من فيزياء أضحت لا تستطيع مماشاة الظواهر المستحدثة مثل المجال الكهرومغناطيسي وأشعة س وحركة الغازات والأجسام السوداء والذرة، نحو فيزياء أوسع. 5- موقف «دوهيم» من «ابن رشد» لا يخلو من تعسف وذلك من وجهين: أولا، ليس «ابن رشد» مؤولا كسولا لأرسطو كما يدعي «دوهيم»؛ ففي شروحه ملاحظات وأمثلة توضيحية خصبة لم تكن بدون فائدة، صحيح أنه يمكن توجيه نقد ل«ابن رشد» من زاوية تاريخ العلوم لأن الحماس لفلسفة المعلم تجاوز الحدود العقلية، لكنه لم يكن متزمتا، ويرى «جون مردوك» أن الدارس المسيحي السكولائي "كان يجد كل دليل لأرسطو معاد الصياغة ومكرر ومقوي ومدعم بواسطة أمثلة"؛ وأن «ابن رشد» كان يغير المعنى الإجمالي للنص الأرسطي الذي يبدأه؛ وأن وظيفة المعرفة العربية هذه كانت كما أظن أكثر بروزا لمساهماتها في علم الغرب في العصر الوسيط. ثانيا، لم يكن موقف «ابن رشد» من الفلك البطلمي ليوافق التزام «دوهيم» بمبدأ "إنقاذ الظواهر"، لأن «ابن رشد» انتقد هذا المبدأ ودعا إلى تكوين نظرية تعبر عن الواقع الموضوعي للعالم بدل الاكتفاء بالحسابات التي توفر التنبؤ فقط. 6- إن تصور «دوهيم» يشتمل على حلقة بنائية مثمرة لأنه كشف عن دور قرار عام 1277 في الدينامية الفكرية المتشعبة والغنية آنذاك، فقد انشغل الفلاسفة إلى حد الهوس بمسألتي المتصل واللانهائي في ارتباط مع القدرة المطلقة لله، لكنه يتضمن ادعاء مبالغا فيه ولا يمكن الدفاع عنه، وكما يرى «إدوارد كرانت» فإن بعض الفلاسفة مثل «رامون لول» قد دافعوا عن قرار المنع؛ بينما يحتمل أن «بوريدان» قد عارضه وإن في الخفاء وتبنى بعض الدعاوي الأرسطية، وربما لعب توجه «دوهيم» القومي الديني دورا في مبالغته في اعتبار قرار للمنع صادرا عن مؤسسة للمراقبة بمثابة دفعة إيجابية لتكون العلم الحديث. ولهذا يتهمه بعض الدارسين بالمسيحي الشوفيني والقومي المتطرف، فقد حط «دوهيم» من قدر علماء الفترتين الهلنستية والإسلامية ومن قدر «كوليج مرتن» التابع لجامعة أكسفورد، ورفع من شأن علماء باريس فوق القدر المعقول، وقد كان «كوليج مرتن» نشيطا في نفس الفترة التي نشطت فيها جامعة باريس، وفي نفس المسائل المتعلقة بالمتصل واللانهائي وبتفسير حركة الأجسام وسرعتها وعلاقتها بالقوة والمقاومة والزمن، بل لربما تأثر علماء باريس بأمثالهم علماء مرتن الذين عبروا عن تلك المسائل النظرية بالنسبة الحسابية، فقد أساء «دوهيم» فهم نظرية «برادوردين» التي تقيم علاقة تناسبية بين قوى المقاومة من جهة وسرعات ناتجة عن أفعال تلك القوى وأنماط المقاومة؛ بينما فهم «دوهيم» أن السرعة تناسبية مع نسبة القوة على المقاومة، على الطريقة الأرسطية، كأن «دوهيم» يرى أن علماء أكسفورد ظلوا على المذهب الأرسطي في أمور الفيزياء وهنا قصور نظرته.