إن تطور الأنشطة في الميادين المتنوعة بلور أنوية "جمع نواة" متعددة: نواة صناعية لها منطقها ونظام العلاقات التي تحكمها؛ نواة الجامعات التي تغتني باستمرار عبر الجدل والمقررات المتجددة؛ نواة الأوراش الفنية التي تكون المتعلمين والمبدعين ومجالس الحركات الأدبية الإنسانية، وتتمتع هذه الأنوية بتنظيم نسقي ذاتي، وفي الوقت نفسه يتفاعل مع الأنوية الأخرى ويتبادل معها النفع والفائدة، إنها دينامية المجتمع الذي يفرز مؤسسات واعية بأدوارها لخدمة مصالح من تمثلهم، وقد استفاد المهتمون بالعلوم من هذه الدينامية الجديدة، بل ساهموا في نضجها، فوجد الفعل العلمي الجو الذي يحتاجه، أي جو التعدد الفكري والحوار والتنافس، وفي هذا الجو المليء بالمستجدات التي تنتج عن الفاعلية الفنية والتقنية، كان «آلبرتي» يقول "يستطيع الناس أن يفعلوا كل شيء إن هم أرادوا"، ومثل هذا القول يعبر عن إدراك المفكر الأوروبي آنذاك لدور الفاعلية الفكرية في تحويل المجال الطبيعي وتغيير أحوال المجتمع من أجل نمط للعيش أفضل، وفي الربع الثالث من القرن ال15 عزم «بورباخ» و«رجيومنتانوس» على تجديد النظرية الفلكية، بعدما تبين لهما أن النظرية البطلمية لا تعبر عن حقيقة أوضاع الأجرام السماوية وحركاتها، وقد استمر الثاني بعد موت الأول في إنجاز ذلك البرنامج الطموح، اطلع «رجيومنتانوس»على إغناءات «البتاني» و«الفرغاني» و«جابر بن أفلح» لفلك «بطليموس»؛ وربما اطلع على تعديلات «مؤيد الدين العرضي» و«نصير الدين الطوسي» ومدرستهما في علم الفلك القائم، وقد كانت متقدمة جدا مقارنة مع فلك القرن الخامس عشر الأوروبي، وكان متضلعا في اللغة اليونانية وصديقا للكردينال «بيساريون» واحدا من أبرز منظري التنمية الفكرية النهضوية، وقد قال «رجيومنتانوس» "إنه سيصلح أحوال السماء بينما يتكفل بيساريون بإصلاح أحوال الأرض"، لكن الكردينال «بيساريون» لم ينظم غزو الأتراك العثمانيين و«رجيومنتانوس» لم يصلح النظرية الفلكية إذ فاجأه الموت وهو في بداية عمله، إن ما أدركه «رجيومنتانوس» من عيوب التصور البطلمي على إثر اطلاعه على تراكم الانتقادات لذلك التصور منذ قرون، يعبر عن وعي بمهمة البحث عن طريق الملاحظة والفحص المفهومي والمنهجي الرياضي للبناء الكسمولوجي القائم، لكنه إدراك لم يكن إلا في بداياته الجنينية، وقد واضب «برنار فالتر» خلال سنوات طويلة على إجراء ملاحظات فلكية دقيقة، وكان على علم ببرنامج «رجيومنتانوس» لكنه لم يكن يهتم كثيرا بملابسات النشاط النظري، فأصبح الطريق معبدا لمراجعة ذلك البناء في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن اللاحق، إن جل المهتمين بعلم الفلك حوالي سنة 1500م أصبحوا واعين بضرورة إعادة النظر في أسس النظرية الفلكية القائمة بكيفية جذرية، وكما كتبت «ماري بواس» "لفلكيي القرن الخامس عشر الفضل في إدراك أن علم الفلك كان مقبلا على التغيير، رغم أنهم لم يستطيعوا أن يدركوا الاتجاه الذي يسير فيه التغيير"، بل إن الفضل يعود إلى مجهودات أجيال من الفاحصين، ولم يصبح ذلك الإدراك ناضجا حتى السنوات الأخيرة من القرن ال15، و«كوبرنيك» هو الذي قدم المراجعة التي مست البناء الكسمولوجي-الفلكي في الصميم، حيث وضع الأصبع على عيوبه، منذ العقد الثاني من القرن اللاحق وصب ذلك في مؤلفه المشهور الذي صدر سنة 1543. من الصعب إصدار تقييم دقيق لمكانة «كوبرنيك» في تاريخ النظرية الفلكية، بيد أن أغلب الدارسين يعتبرون أن التطور اللاحق الذي كان لكتابه المشهور كان أهم من مضمون الكتاب ذاته؛ لأن "النسق الكوبرنيكي" يشكل تغييرا للنظرية التقليدية، بدلا من أن يكون انفصالا ثوريا على الأفكار الفلكية السابقة، ففي هذا التقدير لم يأت «كوبرنيك» بمعارف جديدة حول العالم، ما دام نسقه يؤول النظرية السابقة غوص تأسيس نسقه على أدلة جديد. في الوقت الذي كان «كوبرنيك» يراجع البناء الفلكي، كان آخرون يراجعون مبادئ العلوم الأخرى، فهذا «أندرياس فيساليوس» يراجع علم التشريح؛ وهذا «ترتاليا» يجتهد في بعض قضايا الميكانيكا، التفاصيل المتعلقة بدرجة الجدة والتجديد في هذه الكتابات؛ وفي أواسط القرن ال16 استوعب الدارسون علوم الفلك والبصريات والستاتيكا والتشريح التي ورثوها عن الأولين ولم يتجاوزوها كثيرا، بيد أن ذلك الاستيعاب قد تم في شروط اجتماعية واقتصادية وفلسفية وسياسية جديدة. لقد أصبحت كروية الأرض حقيقة معاشة في الحياة اليومية، ولم تبق نظرية مجردة في عقول قلة من المفكرين، ووضع الخرائط وظروف الإبحار تغيرت بصورة جدية وأدوات القياس والبوصلة والإسطرلاب والعجلة ثم التلسكوب والميكروسكوب أصبحت تلعب دورا متزايدا في ضبط المعارف ومراجعتها وتقنينها وتطور الفنون والتقنيات قدم للفهمنة العلمية أساليب بناء المكان الهندسي الأقليدي الذي تتوقف عليه بلورة الظواهر وتناولها رياضيا، وقد كتب «جان فرنل» سنة 1545: "لقد أبحر حول العالم، واكتشفت أوسع القارات، واخترعت البوصلة؛ وفنون الطباعة زرعت المعرفة؛ وغير البارود فنون الحرب جذريا، وأنقذت المخطوطات القديمة وأصلح التعليم؛ كل شيء يشهد على انتصار عصرنا الجديد"، على أن التحول المفهومي العلمي لم يكن حصيلة هذه العوامل المذكورة هنا فقط، بل ساهم في ذلك كذلك الجدل الفلسفي والثورة الفنية والقيم الجديدة التي تلازمت مع تغير نمط النشاط الاقتصادي وتغير نسيج القيم الاجتماعية، ثم إن جل تلك العوامل المذكورة قد عرفت من قبل لدى مجموعات ثقافية أخرى؛ فتطورت ببطء إلى أن وجدت هذه البيئة الجديدة، فبخصوص الفن كتب «وايتمن»: "إذ كان الآن مقبولا القول بأن دفعة قوية وجديدة نحو الفكر العلمي الحديث قد تطورت في أحضان حلقة الفنانين في فلورنسا قبل أن يعبر عنها آلبرتي، فإن المسألة تكمن في ما إذا كانت تلك الدفعة هي العنصر الوحيد"، وكذلك كتب «جيورجيو دي سنتيانا» "وضع فن الرسم في القرن الخامس عشر الإنسان داخل العالم، أي العالم الواقعي كما تشخصه القوانين الفيزيائية بالضبط وأقر هذا الفن النظرة الطبيعية ضد الرمزية الوسطية، وبذلك خلق المسلمات الطبيعية للعلم"، لقد شكلت الفنون حافزا أساسيا بجانب حوافز أخرى على اتساع الأفق لدى الإنسان الأوربي وتطورت عنده القدرات الإدراكية وتخلصت العقول نسبيا من سلطة المعارف الساذجة والأحكام الجاهزة وصارت تطمح إلى الابتكار والاكتشاف، لذا تبلور اهتمام بالجدل بكونه منطقا إجرائيا، عوض الاكتفاء بأشكال القياس الصوري، كما اهتم المفكرون بخصوبة الخطابة من الزاوية المعرفية، ليس هذا الاهتمام النقدي جديدا، لكن تفاعله مع التجديد في الميادين المختلفة كان مثمرا بشكل بارز، كما كتب «شيفولتي»: "المسائل العلمية ميدان ممتاز للتطبيق بالنسبة لفن الخطابة، الذي يقيم القوانين التي يجب، إذن، أن تخضع لها"، فقد تطور الجدال بين التوجه الإسماني والتوجه الأفلاطوني في موضوع المفاهيم الكلية واكتساب المعرفة؛ وتركز الاهتمام على كتابات «كيكرون» و«كونتليان» بجانب «أرسطو» و«أفلاطون»، من أجل التمكن من آليات الاستدلال والبناء والحوار والإقناع. تقليد البحث العلمي تفاعلت عناصر الدينامية الفكرية النهضوية وعناصر السيرورة الاجتماعية البرجوازية وشكلت التحول الشامل الذي نحن بصدده، وأثمرت ما يسمى "الثورة العلمية"، فقد استوعب علماء القرن ال16 تلك النواة العلمية الصلبة التي تطورت ببطء وعلى مدى قرون كثيرة في مختلف العلوم، إذ تجمعت إنجازات قرون كثيرة في لحظة تاريخية محددة وأصبح عدد الباحثين أكبر من مجموع عدد علماء الماضي، وتكثف التواصل والجدل والتنافس بين الدارسين، كما اقتنعوا بالفائدة العملية للعلم، وهكذا انبعث تقليد البحث العلمي شيئا فشيئا في المراكز الحضرية الأوروبية؛ ذلك التقليد الذي تعود جذوره إلى التقليد الأودكسي-الأرخميدي في البحث التجريبي والصياغة الرياضية، ولم يكن ذلك التقليد مذهبا كاملا من القواعد والتعليمات لممارسة البحث، بل كان مجموعة من الخطوات والإجراءات العملية تستضيء بالدقة الرياضية وتبلور مجالاتها عن طريق الفحص التجريبي الواعي، في إطار برنامج محدد لفهم ظواهر معينة بدل الغوص في التخمينات الميتافيزيقية البعيدة، فكان لا بد أن يتطور تقليد البحث العلمي ذلك على ضوء المستجدات التي يكشف عنها التنقيب ويشحذ أدواته ويدقق آلياته، وفعلا فقد تطور لدى «ابن الهيثم» و«البيروني» و«الطوسي» وغيرهم نظريا وعمليا قبل أن يكتشفه مفكرو النهضة الأوروبية خلال القرن ال13، غير أن الظروف الجديدة تمفصل العلوم مع الجدل الفلسفي والفنون والتقنيات ونمط الإنتاج الجديد قد أعطت لذلك التقليد وزنا مهما لم يجده في مجتمع أولائك السابقين، لقد اغتنى النشاط التجريبي في القرن ال16 وأصبح يتبنى طريقة التعبير التكميمي عن نتائج التجارب التي تجرى مجهزة بآلات مستحدثة، فالعاملون في إطار برامج لفهم وتفسير ظواهر محددة أدركوا أن لا فائدة للتحجر في نسق «أفلاطون» ولا نسق «أرسطو»، وأن التناول العلمي يقتضي مواصلة تتبع الملاحظة لتدقيق الأحوال المختلفة للوقائع المدروسة، لقد أصبحت سلطة التجريب أهم من سلطة المعلمين السابقين، ونجد تعبيرا عن هذه الفكرة لدى بعضهم كما نجد ممارسة لذلك، فقد كتب «فنسنز» و«كاليلي» "أتمنى أن أشير إلى رأيين خاطئين اقتنع بهما الناس عن طريق كتابات مختلفة، وأخذت بهما أنا كذلك، إلى أن تيقنت من الحقيقة بواسطة التجريب، التجريب معلم كل شيء"، وقبله ألح «ليوناردو دافنشي» على الاستناد إلى التجربة "المعلمة الحقيقية" وأن "الحكمة بنت التجربة"؛ كما ألح على أن لا علم بدون رياضيات؛ إذ "الميكانيكا جنة علم الرياضيات، لأنه بواسطتها يجني المرء ثمار الرياضيات"، بل إن كل الدارسين تقريبا فكروا بتلك الطريقة آنذاك، مبدءان أصبحا يترددان على جل الألسنة: التعلم من التجريب بدل الكتب، واعتماد سبل الصياغة الرياضية للوقائع، ولهذا نجد علماء هذه الفترة يرددون عبارات من قبيل "الرياضيات المطبقة" و"الميكانيكا الرياضية" و"العلوم المختلطة"، أي التي تمزج بين الرياضيات والتجريب العملي، ولهذا نجد الأفلاطوني يهتم بالتجريب، ونجد الأرسطي يهتم بالتناول الرياضي، فلم يكن ممكنا أن يظل الدارس النهضوي منغلقا في أحكام غير منتجة؛ لذلك ساد النقاش والتنافس بين الدارسين، بدل الإتباع والتقليد، وكما أن البحث الفلكي سار في خط واضح من «رجيومنتانوس -فالتر» إلى «كبلر» عبر «كوبرنيك» و«ريتيكوس» و«مستلان» وآخرين، فإن البحث في الميكانيكا سار في خط واضح من «ترتاليا» إلى «كاليلي» عبر «بينيدتي» و«كيدوبالدو» وآخرين؛ وكذلك سار البحث في التشريح في خط واضح من «فيساليوس» إلى «هارفي» عبر آخرين، كان هناك شبه إجماع بأن العلم لن يتقدم إلا عن طريق المزاوجة بين التجريب وبين الصياغة الرياضية، لكن المسألة الجوهرية تكمن في كيفية التعبير عن ظواهر العالم العينية بواسطة المعادلات الرياضية، فالوقائع العينية نطلع عليها بالإدراك،بينما الاستدلال الرياضي إنشاء عقلي؛ وإيجاد الصيغ المناسبة للتأليف بين القطبين يحتاج إلى محاولات وتعديلات وإعادات سبك متلاحقة، ولهذا نشط التفكير الإبستمولوجي والمنطقي حول أسباب بناء المعرفة، اتخذ هذا التفكير وجهين، الأول حول المنهج، والثاني حول المضمون المعرفي، وشكلت مسألة المنهج موضوعا مركزيا في المناقشات خلال القرن السادس عشر، فتطورت أفكار حول قواعد المنطق ومدى فعاليتها في إنتاج المعرفة العلمية؛ وكثرت الآراء في ذلك، فانتقد البعض المنطق الأرسطي ورفضه ودعا آخرون إلى الجمع بين الاستنباط والاستقراء، وقد كان كتاب التحليلات الثانية ل«أرسطو» في مركز المناقشات تبين للكثير أن قواعد المنطق الصوري ليست بالضرورة مجدية في الممارسة الفعلية للعلم التجريبي، لهذا تطور رأي يدعو إلى التمييز بين "المنطق كما يعلم" و"المنطق كما يمارس"، وقد انصب الاهتمام حول مسألة حركة الأجسام؛ فدرست في علاقاتها بالكثافة ومقاومة الوسط والمسافة والزمن، كثير من العلماء انكبوا على دراسة سقوط الأجسام، ومن أبرز الذين هيأوا الطريق ل«كاليلي»، «دومنكو دي سوتو» الذي وجد أن تسارع الجسم متناسب مع الزمن المستغرق، فصنف الحركة إلى منتظمة ومتغيرة ومنتظمة التغير، تغيرا متزايدا وتغيرا متناقضا، غير أن هذا لم يكن يملك كفاءة «كاليلي» التجريبية ولا توظيفه للترسانة الرياضية في ذلك، وقد تكون «كاليليو» «كاليلي» في هذا الجو الغني بالأفكار والبرامج؛ فلا نجد حرجا من القول إن عمله تتويج لمجهود أجيال من العلماء؛ دون أن ينقص ذلك شيئا من كونه مؤسس علم الديناميكا الحديث الذي بقي ينتظر الإجراءات المنهجية المناسبة منذ زمن «أرسطو».