الإمام الذهبي أحد أعلام التاريخ الإسلامي المشهود لهم بالأفضلية، عُرف بسعة علمه وهالة اطلاعه، وهو ما انعكس على مؤلفاته، حيث بلغت كتبه التاريخية وحدها نحو 150 كتابا، ولم تقتصر هذه المؤلفات على عصر معيّن أو فئة محددة، بل تجاوزت ذلك كله لتشمل جميع عصور الإسلام، ويجمع هذا العالم بين ميزتين لم تجتمعا لغيره، فهو يجمع إلى جانب الإحاطة الواسعة بالتاريخ الإسلامي، المعرفة الواسعة بقواعد الجرح والتعديل، الأساس العلمي السليم خصوصا في التاريخ وعلوم الحديث، فكان وحده مدرسة قائمة بذاتها، ويعتبر الذهبي من العلماء الذين دخلوا ميدان التاريخ من باب الحديث، حيث ظهر ذلك في عنايته بالتراجم. التركماني العربي ولد الإمام الذهبي أو محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز في شهر ربيع الآخر الموافق لشهر أكتوبر من عام 1274 بمدينة دمشق، ونشأ في أسرة تركمانية الأصل، يعمل عائلها في صناعة الذهب، فبرع فيه حتى عُرف ب"الذهبي"، وكان رجلا صالحا محبا للعلم، فعني بتربية ولده وتنشئته على حب العلم، وكان كثير من أفراد عائلته لهم انشغال بالعلم، فشب الوليد يتنسم عبق المعرفة في كل ركن من أركان بيته، فعمته "ست الأهل بنت عثمان" لها رواية في الحديث، وخاله "علي بن سنجر" وزوج خالته من أهل الحديث. "الحافظ".. سيّد القراءات السبع قبل بلوغه سن الثامنة عشرة انضم النووي إلى حلقات حفظ القرآن الكريم حتى أتم حفظه وأتقن تلاوته، ثم اتجهت عنايته لمّا بلغ مبلغ الشباب إلى تعلّم القراءات، فلما شارف على إتمام عقده الثاني، كانت قد تهيأت له كثير من أسباب الريادة، فاتصل بشيوخ الإقراء في زمانه من أمثال جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن داود العسقلاني والشيخ جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن غال، وقرأ عليهما القرآن بالقراءات السبع، واتصل بغيرهما، حتى أتقن القراءات وأصولها ومسائلها، وبلغ من إتقانه لهذا العلم وهو في هذه السن المبكرة أن تنازل له شيخه محمد عبد العزيز الدمياطي عن حلقته في الجامع الأموي حين اشتد به المرض، وفي الوقت الذي كان يتلقى فيه القراءات، مال الذهبي إلى سماع الحديث، فاتجه إليه واستغرق وقته، ولازم شيوخه، وبدأ رحلته الطويلة في طلبه. الذهبي وابن تيمية.. هذا الشبل من ذاك الأسد نزل الإمام الذهبي خلال مسيرة رحلاته ببعلبك سنة 693ه، الموافق لسنة 1293م، وروى عن شيوخها، ثم رحل إلى حلب وحماة وطرابلس والكرك ونابلس والرملة والقدس، ثم رحل إلى مصر سنة 695ه، 1295م، وسمع من شيوخها الكبار، وعلى رأسهم ابن دقيق العيد، المُتوفَّى سنة 702ه، 1302م، وذهب إلى الإسكندرية فسمع من شيوخها، وقرأ على بعض قرائها المتقنين القرآن بروايتي "ورش" و"حفص"، ثم عاد إلى دمشق، وفي سنة 698ه، 1298م، رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وكان يرافقه في هذه الرحلة جمع من شيوخه وأقرانه، وانتهز فرصة وجوده هناك فسمع الحديث من شيوخ مكة والمدينة، وإذا كانت عناية الذهبي الرئيسية منصبّة على الحديث، فإنه لم ينشغل بذلك عن دراسة العلوم الأخرى، فدرس النحو والعربية على شيخه ابن أبي العلاء النصيبي وبهاء الدين بن النحاس، كما اهتم بكتب المغازي والسير والتاريخ العام وكتب التراجم، وفي الوقت نفسه اتصل بثلاثة من شيوخ العصر، وهم ابن تيمية، المتوفى سنة 728ه، 1327م، وجمال الدين المزي المتوفى سنة 739ه، 1338م، والبرزالي المتوفى سنة 739ه، 1338م، وقد جمع بين هؤلاء الأعلام طلب الحديث. مشيخته لدور الحديث بدأت حيات الذهبي العلمية بالتدريس والتأليف بقرية "كفر بطنا" بغوطة دمشق، حيث تولى الخطابة في مسجدها سنة 703ه، 1303م وظل مقيمًا بها إلى سنة 718ه، 1318م، وفي هذه القرية ألّف ألمع كتبه، وتعد الفترة التي قضاها بهذه المنطقة أخصب فترات حياته إنتاجا، حيث ثم تولى مشيخة دار الحديث بتربة أم صالح، وكانت هذه الدار من كبريات دور الحديث بدمشق، تولاها سنة 718ه، 1318م بعد وفاة شيخها كمال الدين بن الشريشي واتخذها سكنًا له حتى وفاته، ثم أضيفت إليه مشيخة دار الحديث الظاهرية سنة 729ه، 1228م ومشيخة المدرسة النفيسية في سنة 739ه، 1338م بعد وفاة البرزالي ومشيخة دار الحديث والقرآن التنكزية في السنة نفسها، وأتاحت له هذه المدارس أن يدرس على يديه عدد كبير من طلبة العلم، ويفد عليه للتلقي كثيرون من أنحاء مختلفة بعد أن اتسعت شهرته وانتشرت مؤلفاته ورسخت مكانته لمعرفته الواسعة بالحديث وعلومه والتاريخ وفنونه، فكان مدرسة قائمة بذاتها، تخرج فيها كبار الحفاظ والمحدثين، وتزخر كتب القرن الثامن الهجري بمئات من تلاميذ الذهبي النجباء، وحسبه أن يكون من بينهم عبد الوهاب السبكي، صاحب طبقات الشافعية الكبرى والحافظ ابن كثير وصلاح الدين الصفدي وابن رجب الحنبلي. الكتابة في التاريخ تملك قلمه شملت مؤلفات النووي جوانب مختلفة، حيث تجاوزت ال200 كتاب، وطاف هذا العالم ببحوثه في عدة حقول منها: القراءات والحديث ومصطلحه، والفقه وأصوله والعقائد والرقائق، غير أن معظم هذا الإنتاج يستغرقه علم التاريخ وفروعه، ما بين مؤلف ومختصَر ومنتقى ومعجم الشيوخ وسيرة، وثلث هذا العدد مختصرات كتبها الذهبي لأمهات الكتب التاريخية المؤلفة قبله، فاختصر "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، "تاريخ دمشق" لابن عساكر، "تاريخ نيسابور" لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، "تاريخ مصر" لابن يونس، "الروضتين في أخبار الدولتين" لأبي شامة، "التكملة لوفيات النقلة" للمنذري و"أسد الغابة" لابن الأثير، وقد حصر الدكتور شاكر مصطفى الكتب التي اختصرها الذهبي في 367 عملا، وإلى جانب هذه المختصرات، له كتب في التاريخ والتراجم مثل: "تذكرة الحفّاظ"، "ميزان الاعتدال"، "معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار"، "المعين في طبقات المحدّثين"، "ديوان الضعفاء والمتروكين"، "العبر في خبر من عبر"، "المشتبه في أسماء الرجال"، و"المغني في الضعفاء. مشروع حضاري.. الترجمة ل40 ألف شخصية رغم اتساع مجال ونوعية مؤلفات الذهبي، فإنه يبقى له كتابان هما من أشهر كتبه، أحدهما هو "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام"، وهو أكبر كتبه وأشهرها، تناول فيه تاريخ الإسلام من الهجرة النبوية حتى سنة 700ه، 1300م، وهي فترة ضخمة في مدتها الزمنية، واتساع نطاقها المكاني الذي يشمل العالم الإسلامي بأسره، وتضمن هذا العمل الحوادث الرئيسية التي مرّت بالعالم الإسلامي وتعاقب الدول والممالك، مع تراجم للمشهورين في كل ناحية من نواحي الحياة دون اقتصار على فئة دون أخرى، ويبلغ عدد من ترجم لهم في هذا الكتاب الضخم 40 ألف شخصية، وهو ما لم يتحقق في أي كتاب غيره، ويحتوى الكتاب على مادة واسعة في التاريخ السياسي والإداري، انتقاها من مصادر كثيرة ضاع معظمها فلم تصل إلى أيدينا، وعلى ذكر للأحوال الاقتصادية للدولة الإسلامية والتطورات التي حلت عليها، ويصوّر الكتاب الحياة الفكرية في العالم الإسلامي وتطوّرها على مدى سبعة قرون، ويبرز المراكز الإسلامية ودورها في إشعاع الفكر ومساعدة الناس، وذلك من خلال حركة العلماء وانتقالهم بين حواضر العلم المعروفة وغير المعروفة، واتساع الحركة وقت دون آخر، الأمر الذي يظهر مدى ازدهار المراكز الثقافية أو خمول نشاطها، ويبين الكتاب من خلال ترجمته لآلاف العلماء وعلى مدى القرون الطويلة التي تعرّض لها اتجاهات الثقافة الإسلامية وعناية العلماء بعلوم معينة، ويكشف عن طرائقهم في التدريس والإملاء والمناظرة، ودور المدارس في نشر العلم والمذاهب الفقهية في أنحاء العالم الإسلامي. الكتاب الذي خلّد اسمه.. "سير أعلام النبلاء" يعتبر كتاب "سير أعلام النبلاء" أضخم أعمال الإمام الذهبي على الإطلاق بعد كتاب "تاريخ الإسلام"، وهو كتاب عام للتراجم التي سبقت عصره، وقد رتّب تراجمه على أساس الطبقات التي تعني فترة زمنية محددة، وقد جعلها عشر سنوات في كتابه الأم "تاريخ الإسلام"، فيذكر الحوادث سنة بعد سنة، ثم يذكر في نهاية الطبقة تراجم الوفيات من الأعلام، مع الالتزام بترتيبها على حروف المعجم، في حين جعل الطبقة في "سير أعلام النبلاء" عشرين سنة، ومن ثم اشتمل الكتاب على خمس وثلاثين طبقة، ولم يقتصر الذهبي في كتابه على نوع معيّن من الأعلام، بل شملت تراجمه فئات كثيرة، من الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء والقادة والقضاة والفقهاء والمحدثين واللغويين والنحاة والأدباء والشعراء والفلاسفة، غير أن عنايته بالمحدثين كانت أكثر، لذا جاءت معظم تراجمه من أهل العناية بالحديث النبوي دراية ورواية، كما اتّسع كتابه ليشمل تراجم الأعلام من مختلف بلاد العالم الإسلامي، دون أن تكون له عناية بمنطقة دون أخرى أو عصر دون آخر، وقد عني الذهبي في كتبه بالنقد وتقييم الرجال وإصدار أحكام يعرفها المشتغلون بالحديث، مثل صفة "ثقة وصدوق" أو "متروك وكذّاب"، ولم تكن مثل هذه الأحكام تصدر عن هوى، بل وفق ضوابط محددة معروفة، لتبيّن أحوال رجال الحديث لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه، وقد بلغ الذهبي مكانة مرموقة في هذا العلم، ويشهد على ذلك كتابه "ميزان الاعتدال"، وهذه الطريقة النقدية استعملها الذهبي في تراجمه، وإن كان أصحابها من غير أهل الحديث أو ممن لا علاقة لهم بالرواية، وامتلأ كتابه "السير" بكل أنواع النقد، فلم يقتصر على مجال واحد من مجالاته، فعني بنقد المترجمين وبيان أحوالهم وإصدار أحكام عليهم وانتقاد الموارد التي نقل منها ونبّه إلى أوهام مؤلفها، حتى رأى بعض أهل العلم في زمانه أنه غالى في ذلك، وهو ما كان سببا في انتقاد تلميذه عبد الوهاب السبكي له. يفنى الرجال ويبقى العلم تبوأ الإمام الذهبي مكانة مرموقة في عصره، نجد صداها فيما ترك من مؤلفاته وفي شهادة معاصريه له، ولعل من أبلغ تلك الشهادات ما قاله تلميذه تاج الدين السبكي الذي انتقده يوما "محدث العصر، اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ، بينهم عموم وخصوص: المزي، البرزالي، الذهبي، الشيخ الوالد، لا خامس لهؤلاء في عصرهم، وأما أستاذنا أبو عبد الله فبصر لا نظير له وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود حفظًا، وذهب العصر معنى ولفظًا وشيخ الجرح والتعديل"، وظل الذهبي موفور النشاط يقوم بالتدريس في خمس مدارس للحديث في دمشق ويواصل التأليف حتى كلّ بصره في أخريات عمره، حتى فقد الإبصار تماما ومكث على هذا الحال حتى توفي في ال3 من ذي القعدة عام 748 هجرية، الموافق ل4 فيفري عام 1348 ميلادية.