الحلقة الأولى: حكاية دم تفرق بين قبائل بسكرة وبوسعادة والجلفة القصد من نشر هذه الحلقات التاريخية ليس الانتصار لطرف على طرف آخر، ليس إحياء جراح.. فهي ليست بحاجة لمن يفعل ذلك، إذ أنها ماتزال تنزف.. فقط يكفي أن يأتي من يلامسها، أو يكاد يفعل.. الفاعل هذه المرة، شخصية محترمة، وغنية عن التعريف، اسمها مهدي الشريف، أول أمين عام لهيئة أركان الجيش الوطني الشعبي بعد الاستقلال.. استضافته قناة «النهار» الفضائية، لتناول موضوع، ظاهره كان موعد خمسينية استقلال الجزائر، لكن يبدو أن موضوعه تحول إلى تناول مسؤولية العقيد أحمد بن شريف، القائد السابق لسلاح الدرك الوطني، في ملف إعدام أصغر عقيد في الثورة الجزائرية، العقيد محمد شعباني، رحمه الله، الذي قضى إلى ربه وهو لم يكمل سن الثلاثين عاما. ورغم أن الحصة الكاملة لم تبث بعد على القناة الفضائية، (وربما قد لا ترى النور أصلا) إلا أن المقتطفات «المختصرة جدا» كانت كافية لإشعال نار حامية، تهدد بالامتداد أكثر فأكثر، بالنظر إلى حساسية الموضوع.. والاتهامات الخطيرة التي أطلقها السيد الشريف ضد السيد بن الشريف.. ! هذه الواقعة، تؤكد للمرة كذا، أن عددا من الملفات التاريخية ماتزال تلغم مسيرة الحاضر وترهن المستقبل، وستظل كذلك إلى أن يتحلى من بقي من صناع تاريخ الثورة التحريرية بالشجاعة الكافية والمسؤولية الأخلاقية والأدبية ويسلطوا الضوء على الزوايا التي ماتزال معتمة من تاريخ ثورتنا المجيدة، التي لن يشوهها حادث فردي مهما كان مؤلما عند ضحاياه.. في موضوع العقيد شعباني (رحمه الله تعالى) مايزال أحد أعضاء المحكمة التي قضت بإعدامه،، حيا يرزق، وهو الرئيس الشاذلي بن جديد، فلماذا لا يتحدث؟ بل إن رئيس «المحكمة الثورية» الذي نطق بحكم الإعدام، وهو محمود زرطال، صرح في ديسمبر 2008 بأنه «ليس نادما أبدا على ما قام به»..فماذا لو تحدث اليوم، وأعطى مزيدا من التفصيلات عما حدث! ألف مصالي سالت دماؤهم بين “عين الضبع" و"عين الدابة"! كل البداية كانت من تلميح “عابر" للعقيد المتقاعد أحمد بن الشريف في إحدى تصريحاته القليلة للصحافة، حيث ذكر (أثناء دفاعه عن تاريخه من تهمة أنه كان المنصة التي تم عبرها تنفيذ حكم الإعدام في حق العقيد شعباني)، بأن شعباني نفسه قد أعدم 750 “مصاليست" دون محاكمة. ورغم أن التصريح كان قنبلة ومفتاح ورقة دموية تم إتلافها من سجلات ما بعد الثورة، إلا أن الكولونيل المتقاعد بن الشريف، اكتفى بالتلميح لها ودخل في حملة للرد على ما يعنيه وما يعني شخصه بعدما أصبح اسمه مرادفا للألغام التاريخية التي جعلت منه “مشجبا" تعلق عليه “زلات" و«أخطاء" الثورة التي لم تستثن في سبيل استقلالها حتى أكل أبنائها إذا ما فرضت عليها ظروف الصراع ذلك!! «البلاد" تحركت في اتجاهات عدة بحثا عن القصة الكاملة للمجزرة المقبورة وللقبور التي لا تحمل من شواهد و«مخانق" عدا كلمة عابرة تفوه بها العقيد المتقاعد أحمد بن الشريف ليبرئ ذمته من دم شعباني برمي ورقة مبتورة من مجلدات مجزرة تاريخية أراد أن يهش بها على من يجرون اسمه إلى مستنقعات الحساب والعقاب ليبعث لهم إشارة أن العقيد شعباني كان طرفا فاعلا في “ملوزة" ثانية ومنسية.. تم التغطية عليها في مسرحية تبييض التاريخ!! ملوزة “مغيبة" أو مذبحة وخنق لما يفوق ال750 مصاليا بأمر مباشر من شعباني، تلكم حكاية دم تفرق بين القبائل والقصة تبدأ من جبال “زكار" بالجلفة مرورا بمنطقة “رأس الضبع" ببوسعادة وتنتهي عند مدفنة “عين الدابة" ببسكرة.. فإلى فصول ملوزة “ثانية" أو أغرب مذبحة لم يسمع بها أحد.. فمن يعرف جيش الرائد عبدالله سلمي ومن لايزال يذكر أو يجرؤ على تذكر كتيبة البشير الأغواطي؟!! ذاكرة “المطروش" المنسي.. شاهدة على مجزرة لا تنسى! أصعب مهمة لأي صحفي أو باحث أو مؤرخ.. هي استنطاق المقابر والمقبورين والسعي وراء الحقيقة الغائبة أو “المغيبة" عن خوف أو عن قصد وربما ندم. ومهمة تقصينا لهذه القضية اصطدمت بسياج من الصمت أو اللامبالاة، فبعض من قصدناهم لمعرفة ما جرى بالأمس كحق تاريخي للأجيال اعتبروا أن الثورة جبّت ما قبلها وأن بحثنا في الموضوع مجرد استرزاق صحف، وآخرين اكتفوا بأن ذاكرتهم خانتهم أو “أخافتهم"، وبين هؤلاء وأولئك كانت رحلة بحثنا قد انحرفت عن مسار البحث عن الحكاية “الدموية" التي تحدث عنها الكونيل بن الشريف، إلى البحث عن شخص بعينه يلقب ب«المطروش" إبان الثورة، دلنا عليه أكثر من واحد واسمه بالكامل “بلخضر اعمارة".. قيل لنا عنه الكثير!! من دلنا على هذا “المطروش" زودنا بحكاية أغرب من الخيال.. عن كهل يرتدي “قشابية"رثة، ووجهه اعتراه التراب ويداه خشنتان من شدة الحفر والحرث، اخترق ذات زيارة من سنة 1980 نشاطا رسميا كان مقاما بمناسبة إحياء ذكرى معركة 48 ساعة بمنطقة تدعى “جريبيع" تابعة لبلدية “عمورة" التي تتوسد جبل “بوكحيل"، ليقاطع ذلك العجوز الرث والحطاب مسؤول منظمة المجاهدين بولاية الجلفة الذي كان يشرح أحداث معركة 48 ساعة لوفد رسمي وزاري يقوده الراحل يوسف يعلاوي، الأمين العام لمنظمة المجاهدين سابقا، متحديا إياه أمام الملأ إن كان المكان الذي أشار إليه المسؤول المعني “كازمة"؟! هذا التحدي جعل الحاضرين يدخلون في صمت مطبق، بمن فيهم “يعلاوي"، وواصل “المطروش" كشفه الحقيقة بأن ما يحويه المكان المشار إليه هو “قبر" للمجاهد الفلاني، وبعد التنقيب صدق الرجل ذو الحياة المتجعدة وكذب مسؤول المنظمة، ليركب العجوز حماره ويغادر النشاط الرسمي بعدما سلم للمسؤولين رسالة يترجاهم من خلالها أن يكتبوا التاريخ وأن لا يزوّروه.. فقط يكتبوه ولا يهم إن تجاهلوا أو ذكروا بين صحائفه حكاية “المطرّوش" أو المجاهد “اعمارة بلخضر" الذي يمتلك أكثر من شاهد وشهداء ومواقع تبرهن بأنه كان “مطروشا" !! «المطروش" لقب يعني لغة التداول المحلية المخبول أو الدرويش أو حتى المجنون والمتهور.. لكن هذا “المطروش" استشهد بين ذراعيه، بدلا من شهيد واحد، عشرات الشهداء ليبقى هو “حيا" ومعه حمار (يخلف حمارا!) ليؤنسه في تنكر جزائر الاستقلال لأكثر من شهيد حي رفض أن يتقاضى أجرة على جهاده لينساه التاريخ وتنساه مديريات المجاهدين والذنب ذنبه والسلطة لا تعترف بمن تنازل عن جهاده من أجل صدق جهاده!! عمي “اعمارة" ذلك الذي كان كهلا في سنة 1980، وكان قبلها في سنوات الثورة مجاهدا “مطروشا" لا يتوانى على أن يكون جزءا من النار. وحكايته مع الكفاح المسلح بدأت سنة 1956، ففي البدايات الأولى لوصول الثورة إلى منطقة الجلفة وجد نفسه جنديا في صفوف جيش “زيان عاشور" الذي كان من أقرب مقربيه رجل كبير ومجاهد معروف، يدعى “لخضر الساسوي" ولقبه الرسمي الحاج “لخضر الرويني"، وقصته أكبر من أن تروى في سطور كونه كان مقربا جدا من الشهيد “زيان عاشور" وكذا من الرائد “عمر ادريس". كما أنه كان رفيق هذا الأخير في رحلته إلى المغرب لجلب السلاح. والمهم أنه كما جزائر الاستقلال لم تعط للمجاهد المرحوم “لخضر الساسوي" حقه كقائد وكمعلم ثوري، كان من أوائل من الذين اختاروا ريح الجبل. كما كان مصدر تجنيد الكثير من النوائل الذين ينتمي إليهم نسبا كما تناسته ولم تعطه حقه كاملا، فإن نفس الجزائر تناست من جندهم ومنهم “المطروش" الذي كان مقربا إليه حتى بعد الاستقلال وقد سعى معه لكي يستخرج له شهادة اعتراف بمشاركته في الثورة بعدما التقى القائد مع جنديه الذي انقطع لمكان مجهول من سنوات الاستقلال الأولى، إلا أن الرجلين اصطدما بالإدارة -في سنوات السبعينيات- تطلب من القائد “لخضر الساسوي" أن يقنع مجنده “المطروش" بشهادة الاعتراف بالجهاد مقابل أن يقر ويقبل بأنه التحق بالثورة سنة 1961 بدلا من سنة 1956 وهو ما اعتبره المجند تزييفا وتزويرا لتاريخه وحقه بأنه كان موجودا وسباقا لحمل السلاح، ليختفي مرة أخرى ويختار مصاحبة حماره الملازم له حتى الحين، والواقعة- حسب ما ذكرها عمي “اعمارة" ل«البلاد"- حدثت سنة 1978. عمي “عمارة بلخضر" لايزال حتى اللحظة يقول.. قال “الزعيم"، حينما يتكلم عن مصالي الحاج فهو من المحسوبين على مصاليي المنطقة الأوفياء للأب الروحي “مصالي الحاج"، وهي الجناية التي فر بها بروحه بعد الثورة ليختفي في “تڤرت" مباشرة بعد الاستقلال ويحفر له ولعائلته “مطمورة" خوفا من التصفية، خاصة بعدما شاع وذاع خبر أن الأمان الذي أعطاه العقيد الراحل محمد شعباني للمصاليين قد تم نقضه ليلقى أكثر من 750 (مشبوها بالمصالية) حتفهم في “ملوزة" منسية وممنوع تداولها، بدأت من جبال “زكار" بالجلفة ومرت ب«رأس الضبع" ببوسعادة و انتهت ب«عين الدابة" ببسكرة، حيث تم دفن بقايا المذبحة.. في الحلقة الثانية : شعباني يدس “السم في العسل" في الشارف..