البداية من فيلا "بيكو" التي كانت متواجدة بدشرة الخونية بالجلفة ومنها أدار الضابط بركات وبلقاسم الفرجاوي وكذا مسؤول منطقة الجلفة أحمد بن براهيم، في ماي من سنة 1962، مفاوضات شاقة مع المرابطين بمنطقة زكار وهي منطقة تابعة لبلدية عين الإبل بالجلفة، حيث كان يرابط هناك ما يناهز 350 جنديا تحت إمرة المدعو البشير الأغواطي. وحسب الشهادة المقتضبة والحريصة جدا لجريدة "البلاد" من طرف المجاهد المعروف صيلع مبروك، فإن المفاوضات كانت عسيرة وقد توجت بانتقال علماء المنطقة على رأسهم العلامة الشيخ سي عطية مسعودي الذي انتقل إلى معسكر "البشير الأغواطي" حاملا لهم أمانا من المسؤولين على رأسهم العقيد شعباني الذي كان على اطلاع تام بتفاصيل المفاوضات وكان مباركا وداعيا لها، وكما حدث مع جماعة "زكار" حدث مع فيلق الرائد عبد الله السلمي بمنطقة رأس الضبع، ليتم الوصول إلى اتفاق يتم بموجبه انضمام جماعة البشير الأغواطي وعبد الله سلمي إلى جيش التحرير مع إعطاء الأمان لكل الجنود. وهو ما تم فعلا بعدما شارك بعد شهر من الاتفاق كل من قائد كتيبة زكار وقائد كتيبة "رأس الضبع" في احتفال الشارف المقام بمناسبة الاستقلال بتاريخ 4 جوان 1962، وتم خلال الاحتفال اعتراف العقيد شعباني على المباشر بوطنية وجهاد وشجاعة عبد الله سلمي ليعطيه الكلمة في تقدير منه لعطائه. إلى هنا كانت الأمور عادية، لكن بعد احتفال الشارف مباشرة جاءت الأوامر بإحصاء عدد المصاليين ووضعهم في قوائم تسلم لقيادة شعباني حتى يتم تسجيلهم وتسوية وضعياتهم، وهي الخطة التي مكّنت من معرفة كل أسماء الجنود وهويتهم، لتأتي الخطوة الثانية والتي تمثلت في تفريق جيشي عبد الله السلمي والبشير لغواطي على الولايات والمراكز المشكلة للولاية السادسة، ومن بقاء مجموعات صغيرة بالجلفة إلى نقل البعض إلى الأغواط والشلالة، إلى انتقال عبد الله السلمي رفقة كتيبة صغيرة إلى بسكرة، إلى آخرين تم استبعادهم باتجاه بوسعادة، تفرق جنود الأغواطي والسلمي وكانت أوامر التصفية جاهزة. ويقول بعض الشيوخ ممن رفضوا الكشف عن هويتهم أن جماعة مجندي "مارس" هم من نفذوا المذبحة على أساس أن المعنيين خونة و"ونيسات" أي جماعة "بن لونيس"، لتكون المجزرة كبيرة، وتحفظ الذاكرة أن الضحايا كانت تترواح أعمارهم بين 18 و30 سنة وأغلبيتهم جنود ومسبلون لم يفقهوا شيئا، غير أن واجب الثورة ناداهم. كما يردد الكبار أن طريقة التصفية كانت بشعة جدا. فبالإضافة لغياب أي محاكمة أو حتى اتهام، فإن الذين تمت تصفيتهم تعرضوا للخديعة حيث يؤمر الجندي بالدخول إلى دار بعينها للاستحمام وتغيير لباسه بلباس جديد، وحينما تترك الضحية سلاحها وتدخل للاغتسال وتغيير الملابس تصطدم بحبل يلف حول عنقها و"البقاء لله".. وبين الذبح والخنق تمت تصفية المئات. أما عن مصير عبد الله سلمي والبشير الأغواطي فإنهما رفقة آخرين تمت تصفيتهما ببسكرة، فالأول تم ذبحه في الصحراء والآخر دخل "حمام الصالحين" ولم يخرج منه، ليتم دفنهما رفقة العشرات في منطقة تسمى عين الدابة ببسكرة حسب شهادات الكثيرين. صحفي تحت برنوس المجاهد الصيلع.. المذبحة لم تكن مبنية على الصدفة، وزيارتنا للمجاهد والمقاوم المعروف وطنيا "الصيلع المبروك" القاطن بعرينة بعين الإبل غير بعيد عن منطقة زكار، حيث كان يرابط جيش البشير الأغواطي والذي رفض أن يتذكر الحادثة معتبرا أن زمنها لم يحن بعد، كون عدد غير محدود من أبطالها لا يزالون على قيد الحياة. وقد لاحظنا تأثر الرجل حينما ذكّرناه بها وكل ما استطعنا أن نعتصره منه صفة، لقد كانت أياما مرعبة وخطأ ثوريا فادحا، ليؤكد لنا حكاية علماء المنطقة الذين ورّطهم القادة حينها لكي يقدموا الأمان لمن كانوا مشروع خنق وتصفية وقتل، بعدما استفتى فيهم شعباني خطته الحربية غير مبال بوقع المجزرة على العلماء وعلى الثوار أنفسهم ممن شهدوا كيف استأمن شعباني غريمه عبد الله السلمي في منصة علنية حينما أعطاه بيمناه الميكروفون واصفا إياه بالمجاهد والوطني، في الحين الذي كانت فيه يسراه تخفي "حبالا" و"خناجر" مطلوبا منها اجتثاث كل ما يشتبه فيه أنه "مصاليست".. المجاهد "صيلع لمبروك" ذكر لنا كيف أنه أنقذ صحفيا تابعا لحزب الشعب من الذبح بعدما وضع على رأس القائمة، والصحفي يدعى "شخمة" من مواليد الهامل وهو لايزال حتى الآن حيا يرزق بعدما خبأه الصيلع لمبروك في بيته ببوسعادة حيث كان يقطن. ورغم أن جنود شعباني وصلهم خبر اختباء الصحفي لدى "الصيلع" إلا أن مكانة الرجل منعتهم من الاقتراب إلى بيته. المجاهد الصيلع يعرف الكثير والكثير جدا عن الحادثة، لكنه التزم الصمت واستنصر به من أسئلتنا بحجة أن الوقت لم يحن بعد، كما أن الملف خطير وخطير جدا ليوجهنا إلى طريق آخر ويسألنا لماذا لم نقصد الكبار لنسألهم وقد كانوا شهودا وأطرافا فاعلة في القصة؟. ورغم أنه لم يحدد لنا من هم الكبار إلا أن الغبي يفهم أن الأمر يتعلق بالرائد عمر صخري الذي كان حاضرا في احتفال الشارف وكان قريبا جدا من شعباني، بالإضافة إلى بقية الرواد والمشائخ ومنهم سي عامر محفوظي مفتى ولاية الجلفة الحالي وتلميذ العلامة الشيخ سي عطية مسعودي، الذي ظلت هذه الحادثة تنغص عليه حياته كونهم خدعوه وتلاعبوا بأمان كان الشيخ العلامة قد أعطاه عن حسن نية وتقوى. المجاهد بلعباس دلدولة..: عبد الله سلمي كان خائنا المجاهد بلعباس دلدولة شخصية معروفة مغاربيا، ارتبط اسمه بالمتاحف والبحث والتنقيب عن الآثار وهو ما أنسى الخلق أنه من أوائل مجاهدي المنطقة، كما أنه أول مير في تاريخ الجلفة، حيث تم تعيينه رئيس بلدية الجلفة سنة 1962 من طرف قيادة الثورة، وهو من مواليد 1918، وكان من المقربين والمحببين جدا للعقيد شعباني، حيث كان يناديه "يا أبتي". والحاج بلعباس دلدولة، الذي يعيش مرحلة أرذل العمر بعدما بلغ من الكبر والمرض والنكران عتيا، زارته "البلاد" في بيته وكان لنا معه كلام كبير عن الثورة وعن قصته بداية من دراسته في المدينةالمنورة سنة 1952 حتى أواخر 1955، حيث دخل إلى منطقته بعدما درس العلوم الشرعية بناء على بعثة من جمعية العلماء المسلمين، ليلتحق بالثورة بمجرد أن عاد من الهجرة، وذلك إثر تلقيه رسالة من جبل بن ساعد سنة 1956 من طرف الحسين بن سالم مسؤول المنطقة حينها، والتي تم فيها تكليفه بجمع الأموال والسلاح للثورة عبر تشكيل مجلس ثوري مدني، يتحرك وسط المواطنين، ويقوم بتجنيدهم. خلية بلعباس تم اكتشافها سنة 1956 ليتم سجن الحاج دلدولة من طرف الفرنسيين ويفرج عنه بعد سنتين من إلقاء القبض عليه، لتقوم الجبهة بترحيله إلى فرنسا سنة 1959 خوفا عليه من "بلونيس" الذي أهدر دمه. المجاهد بلعباس عاد بعدها إلى الجزائر وشارك سنة 1960 في مظاهرات العاصمة لينظم أول مظاهرة بالجلفة سنة 1961 مطالبا بالاستقلال. في الرابع من جانفي 1962 فككت السلطات الاستعمارية شبكة أسلحة، وتم الكشف عن عناصرها الذين كان أهمهم الحاج بلعباس ليتم القبض والحكم عليه بالإعدام في 19 فيفري 1962، ليخفف الحكم إلى السجن المؤبد، ويتم نقله إلى سجن البروافية وينقذه استقلال البلاد من الفناء بين أربعة جدران.. هذه حكاية الحاج دلدولة بلعباس، مجاهد غادر السجن ليكون أول مير لبلدية الجلفة، ويكلف من طرف العقيد شعباني قائد الناحية السادسة بتنظيم حفل كبير يليق بمقام الاستقلال، وكان حفل الشارف تحت إشرافه، حيث شارك فيه أكثر من 500 جندي بلباس عسكري موحد، كان المجاهد "بوشيبة" قد استولى عليه خفية من حاوية فرنسية موجهة إلى عساكر الأغواط في قطار السكة الحديدية، المهم أن الحاج بلعباس، الذي يعاني نكرانا بعدما تفرق عنه الأصحاب والرفاق ويعيش عزلة في بيته، حدثنا عن كل شيء وحينما وصلنا إلى قصة عبد الله السلمي والبشير الأغواطي، قال إن المعنيين خُونا ومن بقايا "بلونيس"، لكنه لم ينف أن العقيد شعباني قد أعطاهما الأمان، كما لم ينف أن شعباني بارك أمام الناس في احتفال الشارف عبد الله السلمي ووصفه بالوطني والشجاع والأخ. وعن حكاية الانقلاب عليهم وإبادتهم برر الحاج بلعباس القضية بأن شعباني تعرض لضغوط من طرف الشعب ومن طرف ضباط جيش التحرير، وهو ما أدى به إلى النكث بعهده وعهد العلماء والمشائخ الذين نفى بلعباس دلدولة استعانة شعباني بهم، رغم أن كافة الشهود والشخصيات يؤكدون واقعة الزج بالمشائخ والعلماء في خديعة أدت إلى مذبحة.. الرائد عمر صخري مطلوب للتأريخ لأن التاريخ لا يملكه أحد، فإن تداول اسم الرائد عمر صخري كشاهد وحاضر رئيسي في الواقعة أثناء تحقيقنا هذا، فرض علينا محاولة الاتصال به دون جدوى، وتبقى شهادة الرائد صخري ضرورية خدمة للتاريخ. فرغم أن الجميع يتكلم عن بشاعة ما حدث في شهر جوان من سنة 1962، إلا أن ذلك لا ينقص من عظمة الثورة شيئا، كون الأخطاء جزءا من البشر، لكن الحقيقة تبقى ملكا للأجيال، والدليل أن المجاهد غير المعترف به والمدعو "المطرّوش" والذي لا يزال يتأبط حماره، سأله ابنه الوحيد الذي وصل إلى رتبة محافظ شرطة: "هل أنت ناقم يا أبي لأن جزائر الاستقلال تنكرت لك؟" فكانت إجابته أنه لم يعتقد يوما أنه سيعيش إلى اليوم الذي يرى فيه فلذة كبده محافظا للشرطة وسط استقلال بلده.. في النهاية بداية التحقيق كانت من تصريح للعقيد المتقاعد أحمد بن الشريف عن حادثة إعدام شعباني ل750 مصاليا، ونهاية التحقيق أننا اكتشفنا أن الرقم كان أكبر، ويبقى في الأخير أن أخا العقيد شعباني حينما رد على تصريحات العقيد بن الشريف الأخيرة بجريدة "الخبر الأسبوعي" رد على كل حرف وكل فاصلة وكل نقطة في تصريح الكولونيل عدا نقطة واحدة تجاهلها البتة، وهي الأهم ونعني بها قضية التحقيق، وبعبارة أخرى قضية تصفية 750 "مصاليست" أعطاهم شعباني الأمان عبر قناة العلماء والمشائخ ليخدع الجميع بعدها، ويفرق دم ضحاياه بين قبائل بسكرةوالجلفة وبوسعادة بلا محاكمة ولا حق دفاع.. فقط عبر خديعة "حط أسلاحك وادخل أدوش" تمت إبادة المئات سواء عبر "الخنق" في غرفة مظلمة أو من سكين حاد في صحراء قفراء وخالية.. والموضوع للنقاش فما حدث كان "ملوزة" أكبر من ملوزة المعروفة التي تناولها الإعلام واعترف بها التاريخ، فيما تمت التغطية على واقعة شبيهتها أو أكبر منها لا تزال محفوظة في ذاكرة الكثيرين كلغم من ألغام التاريخ الذي تم تجاوزه بردمه..