لا يستثني العنف بشقّيه (اللفظي والجسدي) أحدا منا، وفي كل يوم لنا نصيب منه وفاتورة ندفعها.. فنحن في مجتمع إما أن تكون قاتلا أو مقتولا مهاجما أو مدافعا، غالبا أو مغلوبا ولا مكان فيه للحياد! السلطة تمارسه بواسطة إصدار قوانين غير شعبية، والشارع يتفنن في إنتاجه..يمارسه النائب واللاعب والمرأة والمثقف والمتعلم وحتى الشيخ الذي ظهر عليه الشيب وزاده العيب.. فمن أين جاء كل هذا العنف الذي ميز الجزائريين أكثر من غيرهم.. وعنوانه الكبير ''اضربو يعرف مضربو'' وشعاره ''الرجلة والنيف''؟ البحث عن مفتاح لكل شعب صفة خاصة به تطبع سلوكه وتحركاته اليومية، بعيدا عنا على مسافة ساعتين من الطيران، الإنجليز بوصفوهم بأنهم أصحاب دم بارد.. وهذه الصفة ثبت فيما بعد بأنها غير صحيحة. فالإنجليز ثبت بأنهم أكثر الشعوب الأوروبية نرفزة على الاطلاق..مقارنة مع الألمان أو الفرنسيين مثلا، فكيف جاءت هذه الصفة المغلوطة إذن.. وقريبا منا، كل شعوب البحر الأبيض المتوسط توصف جغرافيا بأنها شعوب ذات دم ساخن مقارنة مع سكان شمال أوروبا مثلا أو سيبيريا، وتاريخيا المنطقة المتوسطة عرفت على مدى توالي العصور كثيرا من الحروب والنزاعات من أيام قرطاج، وحتى أيام الاحتلال البغيض لدول الضفة الجنوبية منه، وبدون استثناء.. أما قريبا منا جدا جدا، وعلى الحدود من الجهات الأربع، فإنه لا أحد من شعوبها تضاهي الجزائريين عنفا وفوضى وقساوة.. فالماليون في الجنوب مثلا شعب مسالم جدا ومتدين يصلي تجاره على الأرصفة أمام المحلات وقت رفع الآذان، والتوانسة على اليمين يضرب بهم المثل في العراك فيقال عركة توانسة، أي عياط وصياح من دون أن يصل إلى حمل سلاح! والسلاح هنا، ليس بالضرورة مسدس أو رشاش، فقد يكون أخطر منه كالسكين وخنجر الجزائر وقضبان الحديد وعصا الرعاة وسلاسل المجرمين وأشياء أخرى يستطيع الواحد أن يحصيها ويقرأ عن سطوتها في بعض الجرائد الوطنية اليومية التي تخصصت في سرد أخبار العنف وكسبت بها آلاف القراء ممن ينتجون أو يساهمون في الترويح لثقافة العنف، ويريدون الاطلاع عليها بشغف. فهل وجد كل هؤلاء ضالتهم، وهم يتابعون إنجازاتهم في إنتاج العنف على صفحات تلك الجرائد. هذا الموضوع، أي العنف في المجتمع طرح على أكثر من صعيد، وبصفة تفصيلية، في عدة ملتقيات وطنية ودولية في محاولة لفهم الظاهرة، من العنف في الملاعب والجامعات والمدارس إلى الانتحار، الذي هو قمة العنف وحتى العنف المنزلي.. فهو كما نرى عنف عام ويومي يشمل الأفراد كما يشمل المجتمع بالكامل على اختلاف طبقاته الاجتماعية ومستوياته الثقافية، وأماكن عيشه ريف أو مدينة. وبالمناسبة ثمة دراسة علمية أمريكية نشرت مؤخرا تعتمد مفاتيح لفهم المجتمع حاول باحثون تطبيقها على الواقع الجزائري.. فلم تصدق معه في أي مقياس من المقاييس التي تطرحها.. فهل كونت السلطة مجتمعا شاذا فريدا من نوعه أو كما قال العقيد أوعمران وهو من جيل الثورة عن الاستقلال إننا سنكون دولة لا هي دولة عرب ولا هي دولة ''فور''! يسوق الاجتماعيون جملة من الأسباب لتفسير ظاهرة العنف، وهي أسباب متعددة ومعقدة صقلت شخصية الجزائري.. فهناك الاستعمار الفرنسي الذي طال وعمّر وأخذ شكل عملية استيطان بغيض عكس ما حدث في تونس والمغرب، حيث اعتمدت فرنسا نظام الحماية ! فالعنف الذي تربى فيه الكبار انتقل عدواه إلى الجيل الذي بعده... بعد ذلك يتحدثون عن حرب التحرير التي خلفت آلاف الضحايا والمعطوبين ودمارا كبيرا، تلاها نظام أحادي ومتسلط كان يقوم بدور المرشد والمفكر. ولا يمضي وقت طويل حتى يعود البلاء كما كان معنا في الوراء مع العنف والإرهاب الذي لم تنجو منه أسرة واحدة فكيف لا يبيت الواحد ويمسي وهو مرعوب إذا كان ثمة من يتربص به في كل وقت،. حتى بدون سبب مقنع، وهذا في أعز ما يملك وهي حياته؟ فقد تولد لدينا بأن الجزائري لا يخاف الموت، وهو إن صح أخطر مرحلة يمكن أن نصل إليها أي بمعنى أننا نصل لتتفيه الموت.. فكيف نصدق التجار وهم طرف من مئات الأطراف التي تضع لنا كدرا وحزنا وبالتالي عنفا إذا كان أحدهم برر في بشار غلاء الأسعار بنفوق الدجاج جيفة بمجرد أن يرى السكين؟! شعارات قائمة العنف الجسدي عادة ما يسبقه عنف لفظي.. سنطبق هذا على سلوك الأفراد كما ينطبق على سلوك الدولة كما حصل عندنا وقت الفيس المحظور، حيث بدأ العنف بالبيانات والتنديدات، وانتهى إلى توقيف المسار الانتخابي واعتقالات.. والقصة بكامل تفاصيلها معروفة لدى الكثيرين.. وهذا العنف يقوم عادة تحت شعار الرجلة (من الرجولة) والنيف وهما مصطلحان يشكلان مع ''الحفرة'' الثالوث الذي من أجله الجزائري يحيا ويموت حتى وإن كان يقاتل من أجل الفيلا (إن كانت باطل) وتحتها الحانوت! وهو الشعار الذي جعل منه بعضا مثله الأعلى. وعموما، فإن الجزائري شكل قاموسا بالكامل للعنف على مدار سنوات باللغتين العربية والأمازيغية ونادرا بالفرنسية، لأن اللغة الأخيرة لا يمكنها أن تحمل شحنة العنف التي يريد أن يبلغها ! ونستطيع أن نتصفح القاموس، فنقرأ فيما يسمى بلغة الشارع.. ''اضربو يعرف مضربو'' أي قدره وحجمه والله يعطيك ''بومبة'' أي قنبلة بمعنى فليفجر الله جمجمتك! أو حتى تزغد (تتحرك) نذبحك.. وهي مصطلحات لها ما يقابلها بالأمازيغية، وهم أشد عنفا وخشونة! وبدرجة أقل تخفض لهجة الشتم للتحول إلى الجنس مثل ''أختك'' أو''يماك'' أي أمك، والمرأة هنا في الثقافة العربية الإسلامية ترمز للشرف واحترام العائلة. بعدها يخفض المستوى إلى ما يشبه الكفر بالجلالة مثل ''يا الرب'' أو دين ''أمك'' أو حتى عزرين! فلماذا لا تتجه لغة الشتم إلى القيم المتعلقة بسلم الوطنية، مثل يا الحركى.. أو يا البيّوع أو حتى يا السراق وهذا في الوقت الذي يأخذ فيه لصوص البنوك مثلا صفة مغايرة لما فعلوه.. قافزين.. وشاطرين! وكيف انتقل ليصبح مستخدما حتى في الكلام العادي، وليس عند أوقات الغضب؟ قد يكون ذلك حدث بفعل الخلط الكبير المطروح في قضايا الوطنية والمواطنة أو يكون نتج بفعل التكرار.. والعناد، وهذه الصفة أي التاغنانت تشكل إحدى الميزات الأساسية للجزائري.. فماذا لو أنها اقترنت بصفر في الفهامة وخمسة منها والآن لو طرحنا السؤال على أي مواطن تطاير شره في يوم أسود وهو يهم فيه بشراء دجاج أبيض مثلا ما الذي يرفع حدة غضبك؟''. الأكيد أنه سيقول إن الحياة اليومية هي السبب.. وهو عنوان كبير لمعيشة الناس. والأرقام هنا تثبت تلك الصعوبة، فالعاصمة كواجهة للبلاد، ولا نتحدث عن قرى معزولة تعد وفق تقارير بريطانية من أكثر عواصم الدنيا وسخا، وتحتل المرتبة الثانية عربيا في ميدان العنف، وهي من أكثر المدن غلاء اكلا ومعيشة ومنه أكثرها تخلفا في مستوى الخدمات.. فماذا لو يضاف إليها الثلوث؟ وقت الضيق.. يمكن تحديد بعض العناصر التي تحرك مشاعر الغضب عند الناس في النقاط التالية: التجاور والكثافة السكانية، فقد ارتفعت بنسبة أكبر من 200 % منذ 1961 غداة الاستقلال، وقد وصلت الكثافة في بعض مدن الشمال 3000 ساكن في الكم مربع كما هو حال العاصمة مثلا بفعل التزايد السكاني الرهيب والنزوح الريفي.. 1 وهذا هو الذي جعل الواحد يجزم بأغلظ الإيمان بأن كل شيء ''كومبلي'' أي ممتلئ المقاهي والمساحات الخضراء والشقق والطرقات والمساجد كثير من الوجوه والألوان واللهجات.. وبالمناسبة يرتقب هذا العام وحده ميلاد مليون رأس جديد على المستوى الوطني، في بلد يعد من أكثر البلدان في التزايد السكاني، وتشير استطلاعات إلى أن الوادي مثلا في الجنوب موطن التمر والبطاطا (حاليا) تحقق أعلى نسبة واردة في العالم بفعل تعدد الزواج وعدم تنظيم النسل.. ولهذا نسمع عن تبريرات شبه واهية تقول مثلا الضيق في القلوب والرزق على الله! المستقبل الضبابي.. وهو رأي يتفق عليه معظم الجزائريين، إلا من ضرب وهرب أو هرّب. فالعامل يصل مرحلة الشيخوخة ولا تكفل له أجرته إلا الخبز الحليب، وخريج الجامعة، يصبح بطالا، وحين يخرج الواحد للسوق، يسمع ما لا يروق ويتفرج على جشع تجار تقابله لهفة مستهلكين كأنهم لم يروا في حياتهم قط خضرا ولا لحم دجاج وأبقار وهذا سبب من الأسباب الرئيسية التي تشجع على الحرفة الحفرة: وهو مصطلح جزائري بحت معناه إذا لم تكن لك ''أكتاف'' أو مال، فإن كل الأبواب تصبح أمامك مغلقة. وهو يعكس غياب القانون، أو وجود قانون أسوأ من قانون الغاب يطير به الأقوياء، ويقع فيه الضعفاء فأين هي دولة العدالة التي يمكن أن يلجأ إليها المظلوم لأخذ حقه إذا كانت المحاكم لا تنصفه أو تتثاقل في ذلك أو تنصفه، ولا يطبق القرار أصلا.. لهذا يفضل أخذ حقه بيده في غياب ''الحاكم'' وهو ما يدخل المجتمع في فوضى عارمة. وعندما يضيف عوامل أخرى معروفة تتعلق بيوميات الجزائري الصعبة كالنقل والبناءات الفوضوية غير المتناسقة وانقلاب القيم الاجتماعية، هل إن ذلك يكفي لفك ألغاز هذه الظاهرة، خاصة أن بعض الشعوب تعاني نفس المشاكل تقريبا ولا تنتج عنفا بهذا الحجم الهائل. الجواب الكامل قد نجده في طبيعة السلطة نفسها التي جاءتئبواسطة العنف، وظلت تمارسه على مدى سنوات.. دون تقديم حلول من شأنها أن تخفف من حدته.. فهل بعد هذا يحق لنا طرح السؤال عنف الجزائريين إلى أين؟ إذ كان العنف يواجه فيها بالعنف، وليس باللين كما هو حال حكيم الهند غاندي.