لا يمكن أن نفهم العلاقات الجزائرية الفرنسية إلا بالمدخل التاريخي، هذا التاريخ الذي كرس لدى النخبة الفرنسية في دوائر صنع القرار اعتقاد بأن الجزائر هي منطقة نفوذ خالصة للفرنسيين بمنطق اتفاقية برلين التي قسمت القارة الإفريقية بين الأوربيين، وأصبح للتاريخ حضوره وبشكل واضح في حكم نيكولا ساركوزي واليمين الفرنسي مع مشروع تمجيد الاستعمار الذي كرسته الفقرة الثانية من المادة الرابعة من قانون 23 فيفري ,2005 واختتم وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير عقدة النيوكولونيالية عندما صرح للصحيفة الفرنسية لوجورنال دو ديمونش بأن العلاقات الفرنسية الجزائرية لا يمكنها أن تتحسن إلا برحيل النخبة الجزائرية المرتبطة بالاستقلال التي حاربت فرنسا في الجزائر، لأن التوتر بين باريس والجزائر ستبقى تحكمه العاطفة والعنف والانفعالية مما يستحيل أن تقام علاقات طبيعية بين البلدين. التصور ذاته قدمه بعض الدبلوماسيين الفرنسيين حسب شهادة الصحفي الفرنسي جو بيار توكوا (صحيفة لوموند 15 فيفري 2010) الذين يعتقدون أن السلطة الحاكمة في الجزائر تتعامل مع فرنسا بمنطق برجنيف الرئيس السوفياتي السابق المتجمد في مواقفه وسلوكه الخارجي، وحجة هؤلاء الدبلوماسيين الفرنسيين أن الرئيس الجزائري بوتفليقة لم يرد استقبال أي مسؤول سياسي أو دبلوماسي فرنسي منذ جوان 2008 تاريخ زيارة الوزير الأول فرنسوا فيون للجزائر، حيث تأجلت زيارات كل من وزير الخارجية الفرنسية برنارد كوشنير، ووزير الداخلية بريس هورتفو، والوزير المكلف بالهوية الوطنية إيريك بوسون، كما رفض بوتفليقة استقبال بيار جوكس عضو المجلس الدستوري الفرنسي، والصديق التاريخي للجزائر كما تصفه وسائل الإعلام الفرنسية، كما لم يستقبل رئيس الحكومة الأسبق إديث كريسون عندما قدم للجزائر لتدشين الجناح الفرنسي في معرض الجزائر. والاتجاه نفسه سلكه بوتفليقة مع مبعوث ساركوزي كلود غيون، الأمين العام للإليزيه، والذي يوصف بأنه ظل كوشنير في الملفات الدبلوماسية الثقيلة والتي يصعب على وزير الخارجية حلها. وزاد من عقدة الفرنسيين النيوكولونيالية أنهم لم يستسيغوا زيارة بوتفليقة لإسبانيا في الوقت الذي أجل زيارته لباريس، لكنهم لم يطرحوا حقيقة التوتر الجزائري الفرنسي من وجهة نظر الجزائريين. وهي مواقف تعبر عن استياء صانعي القرار في الجزائر من السلوك الفرنسي الذي لا يزال حبيس عقدة التاريخ الاستعماري الإجرامي، فكان التوتر مع قضية التعامل مع ملف الدبلوماسي الجزائري محمد زيان حسني الذي اتهمه القضاء الفرنسي في قضية اغتيال الفرنكو جزائري علي مسيلي في ,1987 بالرغم من أن لديه الحصانة الدبلوماسية ووضع تحت الرقابة القضائية إلى غاية إصدار قرار بانتفاء وجه الدعوى ضده. وصاحب هذا الملف الذي حاولت بعض الدوائر في فرنسا التأثير على صانعي القرار في الجزائر لتليين موقفها تجاه بعض القضايا الإستراتيجية الفرنسية، ملف قديم أدارته الدوائر نفسها في السابق من باب من يقتل من في الجزائر؟ وأعادت طرح ملف الرهبان الفرنسيين الذي تم اغتيالهم في تبحرين في سنة ,1996 وسارع ساركوزي لاتخاذ موقف سياسي وإعلامي من الموضوع باستعداده لفتح كل الملفات السرية للتحقيق بعدما اتهم الجنرال الفرنسي فرنسوا بوشوالتر القوات الأمنية بقتلهم خطأ. يضاف إلى القضايا الأمنية التي حاولت فرنسا لي عنق الجزائريين بها والعودة بهم إلى المربع الأمني الأول من يقتل من في الجزائر؟ القرار الذي وضع الجزائر إلى جانب ستة دول معظمها دول فاشلة أمنيا وسياسيا مثل أفغانستان وباكستان والذي يفرض بموجبه على الرعايا الجزائريين رقابة أمنية استثنائية بسبب خطورتهم على الأمن القومي الفرنسي، وهي عقدة نيوكولونيالية أخرى بمنطق الإمبراطورية الفرنسية التاريخية في تعاملها مع البرابرة والوحوش الذين قد يدمرون الحضارة الغربية، وكان القرار بمثابة قطرة الماء التي أفاضت كأس الماء الملوث بالتاريخ الاستعماري الإجرامي الذي أعاد للذاكرة الجزائرية محارق التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية ومحاولة طي الملف بقانون يعوض الفرنسيين الذين شاركوا في التجربة أو الذين كانوا موجودين في مناطق رقان، وهو ما أثار جدلا سياسيا وتاريخيا بين الجزائر وباريس ودفع مجموعة من البرلمانيين الجزائريين لإيداع مشروع قانون يجرم الاستعمار كرد فعل على القانون الفرنسي الذي يمجد الاستعمار. وقد أدى هذا المشروع الجزائري إلى تحريك النخبة النيوكولونيالية في التيار اليميني الفرنسي للمطالبة بوقف المصادقة على اتفاقية الشراكة الفرنسية الجزائرية. سيبقى التوتر الجزائري الفرنسي تحكمه القضايا التاريخية التي لم تحسم ولن تحسم إلا بعد اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر. وكما يصر السياسيون في فرنسا على تحميل تركيا ما تسميه جرائم العثمانيين ضد الأرمن وكما تصر على جريمة الهلوكوست ضد اليهود، فإن المنطق يقول من الأولى أن تعترف بجرائمك قبل أن تجبر الآخرين على الاعتراف بجرائمهم، على الأقل من باب ثلاثية الثورة الفرنسية المساواة، الأخوة والعدالة، أما أن يستمر التضليل الفرنسي كما حاول ساركوزي تكراره بأنه لا يمكن للأبناء أن يحاسبوا على فعل الآباء، فهو تعبير عن حالة اللامنطق والازدواجية في التعامل مع الجرائم ضد الإنسانية التي لا تتساقط بالتقادم ولا بالأجيال كما حاول كوشنير أن يربط تحسين العلاقات مع الجزائر برحيل نخبة الثورة التي كان لها الفضل على الأجيال القادمة في استرجاع السيادة الجزائرية، التي ستبقى ناقصة إذا لم يعترف الاستعمار بجرائمه التاريخية وبمحارقه. إذا كان للتاريخ دوره في توتر العلاقات الجزائرية الفرنسية فإن عامل الدور كان حاضرا في أسباب التوتر بين البلدين، ويمكن تلخيصه في مشاريع ساركوزي الإستراتيجية التي قدم بها للرئاسة الفرنسية، أولها مشروع الاتحاد من أجل المتوسط الذي حاول أن يجر الجزائر إليه بدون دور في تجمع أورو متوسطي همش الجزائر سابقا في مشروع برشلونة ويريد لها أن تكون الدولة التابعة لمشروع استراتيجي فرنسي يجر إسرائيل للتطبيع الاقتصادي دونما ثمن، مع التنافس والتناقض في المواقف فيما يخص منطقة الساحل الإفريقي التي ترى الجزائر أن للقوات الإفريقية القدرة على تأمين المنطقة بعيدا عن التدخل الأجنبي سواء أكان برفض مشروع القاعدة العسكرية الأمريكية في إفريقيا أو أي تدخل فرنسي أمني للحفاظ على نفوذها، وهو التصادم الذي حصل في ملف إطلاق أفراد ينتمون للجماعة السلفية للدعوة والقتال في مالي مقابل إطلاق سراح الرهينة الفرنسية، وهو ما يجعل الدبلوماسية الجزائرية تصطدم مرة أخرى مع فرنسا التي ترى في إطلاق سراح مواطنيها الذي تدور حوله الشكوك الأمنية في تواجده في منطقة الساحل باسم الجمعيات الخيرية مع خيار دبلوماسي جزائري يدافع عن تجريم الفدية التي تقدمها الدول الأوروبية مقابل إطلاق سراح الرهائن. يبقى أن نشير إلى أن التاريخ سيبقى يحكم العلاقات الجزائرية الفرنسية حتى إذا رحلت نخبة الاستقلال من الجزائر، لكن نتساءل كما تساءل وزير التجارة الجزائري: إلى متى ستبقى فرنسا تحب السوق الجزائرية وتحب الأموال الجزائرية حيث تستورد الجزائر ما قيمته 6 ملايير دولار من السلع الفرنسية، لكنها لا تريد الجزائريين ولا تحبهم؟ أعتقد أن التأثير على مصالح الآخرين قد يغير من سلوكهم.. وأن التاريخ لا يسقط مع الأجيال.