الحلقة الثانية جاء اليوم المنتظر لنشهد ولأول مرة طقوس أداء القداس، إنطلقنا من العاصمة على الساعة السابعة صباحا ذات يوم جمعة ممطر لنصل إلى :كنيسة المدينةالجديدة'' في تمام الساعة التاسعة، وبخلاف المرة السابقة كان باب الفيلا الرئيسي مشرعا أمام الوافدين الذين تقاطروا على ركن سياراتهم بجوار الحي... مئات الأشخاص من النساء والرجال من شتى الأعمار ومن مختلف بلديات ومداشر تيزي وزو لم يمنعهم المطر الغزير والبرد القارس المتولد عن إنخفاظ درجات الحرارة جراء تساقط الثلوج بمرتفعات جرجرة، من تكبد عناء التنقل وقطع كيلومترات طويلة لحضور قداس الجمعة...حتى الأطفال والطاعنين في السن أبوا إلا أن تنالهم ماسموه ''بركات وأنوار يسوع المسيح''. وسط الباحة الرئيسية إلتف عشرات الشباب والشابات حول اصالحب كبير رعاة الكنيسة، وهناك أمام المكتبة تهافت آخرون من أجل الحصول على نسخ من آلاف الأناجيل و الكتب التبشيرية التي توزعها عليهم الكنيسة بالمجان كلها يتم جلبها من الخارج، أما في قاعة مجاورة أخرى فيجلس مئات الأطفال والفتيات دون سن العاشرة لتعرض عليهم أفلام كرتون وأغاني تجسد السيد المسيح كإله مخلص، ما إن حاولنا التقرب من نساء كن على مقربة منا حتى تقدم أحد العاملين في الكنيسة لم نتعرف عليه من قبل، بادرنا بالسؤال ''عفوا من أنتم..وماذا تريدون''عرفناه بهويتنا فبدى عليه نوع من القلق والإرتياب، ''ثم من سمح لكم بالدخول؟'' ..لكنه سرعان ما هدأ بعد تحققه بان الأمور قد رتبت سلفا مع الراعيان ''صالح'' و ''طارق''، إلتقينا بنساء كثيرات روين لنا قصة إرتدادهن عن الإسلام وتحولهن إلى المسيحية بسبب ''المعجزات'' التي ظهرت لهن باسم يسوع!، فهذه صليحة صاحبة الخمسة وأربعون ربيعا تقول بأنها كانت تعاني من ألام حادة في ساقيها لم تنفع معها جميع سبل العلاج الطبية، لكنها بمجرد ما صلى عليها راعي الكنيسة شفيت في الحين، وهو ما تقول أنه كان سببا في تنصرها وتعمدها سنة ,2002 روايات عديدة تكررت مع سعدية ،فطوم ،علجية وغيرهن كثيرات ممن إقتنعن بأن إيمانهن بربوبية عيسى هو السبيل ''للخلاص من جميع المشاكل والهموم''... صلاة على وقع التكنولوجيا بعدما وقفنا على حالات وعينات قد لاتكون شاذة وسط التفاقم الكبير للضاهرة ، صعدنا إلى قاعة الصلاة الموجودة في الطابق الأول، وهي عبارة عن قاعة فسيحة رص بداخلها حوالي 400 مقعد، لم تكن تشبه قاعات الصلاة التي اعتدنا مشاهدتها داخل الكنائس الكبيرة على غرار كنيسة السيدة الإفريقية المتمركزة بأعالي العاصمة، كانت بسيطة و خالية من التماثيل والزخارف عدا بعض اللوحات الحائطية الممجدة للسيد المسيح، في وسط القاعة توجد مسطبة كبيرة وضع خلفها صليب ضخم إلى جانب مجموعة متكاملة من الألات الموسيقية شكلها يوحي بأنها باهضة الثمن، وعلى طرفي المسطبة نصبت لوحتي عرض كبيرتين مقابلتان لجهازي ''داتاشو'' لنقل جميع تفاصيل ''الصلاة'' من مختلف زوايا القاعة بواسطة كمرات احترافية يقوم عليها شخصان مهمة أحدهما ضبط أجهزة الصوت ...الشيء اللافت في صالة ''التعّبد'' تلك أنها كانت مزودة بتقنيات تكنولوجية عالية تفتقر إليها حتى بعض جامعاتنا الرسمية، مايطرح علامة استفهام كبيرة عن مصدر تمويل مثل تلك المعدات باهضة التكاليف .. هيستيريا مصحوبة بالغناء والرقص.. تنتهي بعناق وقبلات بين شباب وفتيات مراهقات كانت الساعة تشير إلى قرابة العاشرة إلا ربع حين اكتظت القاعة بأكثر من 500 شخص من كلا الجنسين، صعد القس طارق إلى المنصة مصحوبا بمجموعة من الشباب والفتيات تبين في مابعد أنهم الفريق الصوتي والموسيقي للكنيسة، كان يرتدي بدلة عصرية سوداء وربطة عنق ذكرتنا بالقساوسة الإنجيليين في الولاياتالمتحدةالأمريكية الذين يعتمدون نفس الطريقة والأسلوب في إقامة القداس.. استلم على إثرها الميكروفون ودعا جميع الحاضرين للقيام من أجل تقديم التهاني وتبادل القبلات فيما بينهم بمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة، وهو ما جرى بالفعل حيث اجتاحت القاعة موجة من العناق والقبلات بين الجميع ومن دون استثناء.. نساء متزوجات قبلن رجالا غرباء عنهن أمام مرأى من أزواجهن.. شباب مراهقون ومراهقات يتعانقون ويقبلون بعضهم البعض بحضور أوليائهم وعائلاتهم دون أدنى حياء أو تحرج، وهو حال ''نا سعدية'' الجالسة بجوارنا التي بادرتنا بالتهاني والقبلات.. تلك المرأة الرهيفة التي استغل رجال الكنيسة طيبتها ليوهموها أن ''المسيحية دين الحب والرحمة والسلام''، على عكس الإسلام الذي يتهمونه ''بتفريخ الإرهابيين وإدخال البلاد في أتون العشرية السوداء''. بعدها شرع الراعي طارق في الدعاء لجميع المشاركين ب ''قداس الجمعة'' من أجل ''إبعاد الشياطين'' ورفع البلاء عن المرضى المصابين الذين تخلفوا عن مشاركتهم في هذه المرة، ليعقبه مباشرة ترديد مجموعة من الأغاني بالأمازيغية والفرنسية بعضها مستوحاة من الإنجيل، تتقدمها في كل مرة كلمة ''هاليلوليا.. هاليلوليا'' التي تعني في لغة المسيح الآرمية القديمة لفظة ''الله''، إلى جانب كلمات أخرى لم يتيسر لنا فهم معناها كان الراعي ''طارق'' يتمتم بها بين الفينة والأخرى، عند استهلال كل فقرة من الفقرات الغنائية، على أنغام خاصة ممزوجة بالألحان القبائلية تارة وبالموسيقى الغربية تارة أخرى. والمثير للانتباه أن الحاضرين المتوزعين عبر مختلف الأعمار والفئات، كلهم كانوا يرددون مع ''الراعي'' تلك الأغاني التي يحفظونها عن ظهر قلب، ما يوحي أن مراسيم القداس تتكرر نفسها على مدار جميع الأسابيع.. لتتصاعد بعدها وتيرة الإيقاع ويدخل الجميع في طقوس ''الحضرة'' والرقص الهستيري المصاحب للغناء، مع ما يرافقه من تأثر وبكاء من طرف بعض الشابات والشباب، قبل أن يُغمى على بعض الحضور بفعل حالة ''الوُجد'' والصخب الذي شهده المجلس، والذي اعتدنا مشاهدته في احتفالات الطرق الصوفية، مع التركيز على أدعية الاستشفاء الروحاني التي تجد صدى لها داخل القاعة، والتي كثيرا ما يتخذها المنصرون حجة تؤكد شفاء المرضى ببركة المسيح!، كون الصحة هي نقطة ضعف الجميع هنا باعتبار أن اغلب الذين استجوبناهم كانوا يعانون من أمراض قبل اعتناقهم المسيحية. المسلمون أعداء الله.. آيات القرآن مادة للتندر والسخرية في خطب القداس في تلك الأثناء تنحى طارق عن المنصة ليفسح المجال أمام الراعي ''كريم''، الذي فتح نسخة من الإنجيل لينطلق في تفسير ما كان يقرأه بالفرنسية عبر ترجمته إلى اللغة الأمازيغية، حيث أشار إلى أن أعداء المسيح هم أعداء الله... وأن المسيح جعل منهم رجال الحق.. والمعادون للمسيح في الجزائر هم رجال الباطل ''إنهم أعداء الله''... في إشارة واضحة إلى عموم الجزائريين الذين يدينون بالإسلام، داعيا بالمقابل الجميع للصلاة كي ''يفترق أعداءنا'' قبل أن يستدل على أمره بان الله حينما ينهض يفترق أعداءه، لكن الأمر المثير في المسألة، هو إقدام الراعي ''طارق'' على إثبات ربوبية المسيح وصحة مزاعم الصلب بذكر الآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن بنوع من السخرية والاستهزاء، مكذبا بذلك ما جاء فيها وسط موجة من السخرية المصحوبة بمجموعة من التعاليق والضحكات التي عمّت أرجاء القاعة. كؤوس الخمر لتذكر دم المسيح!! ما هي إلا لحظات حتى شاهدنا العاملين في الكنيسة يضعون كؤوسا كبيرة الحجم مملوءة بشراب يميل إلى السواد أمام القس حتى يباركها، في بداية الأمر ظنناها شايا أو نوعا من العصير، لكن بمجرد ما إن بدأت تلك القداح تطوف صفوف الجالسين داخل القاعة حتى أخذت رائحة مقرفة تنتشر منها، زكمت أنوفنا ليتبين لنا نوع ذلك الشراب ..إنه ''الروج'' أحد أشهر أنواع الخمور المستهلكة في الجزائر..الكل ومن دون استثناء شرب من تلك الأقداح.. رجال ونساء شباب وشيّاب جميعهم كان لهم نصيبهم من الخمر المباركة... خمرة يقول المتنصرون إنها كانت آخر عشاء تناوله السيد المسيح رفقة تلامذته قبل أن يصلب، وبذلك فإن شربهم له يذكرهم بدم يسوع المسفوح على الصليب لفداء البشر من الخطايا!!، أما قطع الخبز الصغيرة التي رافقت توزيع ''الروج'' فهي تمثل جسد سيدنا عيسى -عليه السلام-، طقوس وممارسات حصلت أثناء ''القداس'' جعلتنا نعتقد أنها أصبحت قريبة من كل شيء إلا من كونها وسيلة يُتقرب بها إلى الله... كامرات مراقبة.. وأعوان أمن يرصدون كل صغيرة وكبيرة في خارج الكنيسة كما في داخلها نصبت كامرات مراقبة ترصد كل التحركات التي تجري حول محيط ''الفيلا الكنيسة''. ففي الداخل وضع أكثر من 15 عون مراقبة يسهرون على السير الحسن لطقوس ''القداس''، ويشرفون على متابعة كل شاردة وواردة تحصل هناك، بعضهم يقوم على ترتيب جلوس الحاضرين داخل القاعة التي ظهرت صغيرة لاستقطاب العدد الهائل من المصلين، رغم أن كل الكراسي فيها كانت محجوزة إلا أن جموع ''المصلين'' ضلوا يتوافدون عليها، كثير منهم بقوا واقفين وسط الازدحام الشديد. في حين ذهب الآخرون إلى واحدة من القاعات المتواجدة بالطابق الأرضي التي لم تتسع هي الأخرى لاستيعاب الحشود المتوافدة من القرى والمداشر البعيدة لتيزي وزو. كل هذا جعل أعوان الأمن المتميزين عن غيرهم بصدريات برتقالية اللون، يسعون جاهدين لإيجاد مكان لكل من يأتي متأخرا، اثنان منهم لم تكن مهمتهما أكثر من مراقبة كافة تحركاتنا وكلامنا وهو ما حال بيننا وبين التقاط صور الهستيريا والطقوس التي صاحبت الجلسة طيلة أكثر من أربع ساعات، على اعتبار أن هناك نساء لديهن مشاكل عائلية بسبب تنصرهن ولا يرغبن في أن تؤخذ لهم الصور داخل الكنيسة. حاولنا طبعا الاستفسار إن كان هؤلاء الأعوان يتقاضون أجرا لقاء عملهم هذا، لكنهم رفضوا تقديم أي معلومة بهذا الشأن، مكتفين بالقول ''إنهم هنا من أجل الرب!!''. يتبع...