''المعرفة تساوي الفضيلة''.. هكذا شهد أفلاطون، وقد تكون كذلك، لكن الناس جميعا يشهدون أن ''المعرفة تساوي السلطة يقينا''، فمنذ كهنة المعابد الفرعونية في مصر القديمة إلى المتلاعبين بالعقول في كل نظم الحكم اليوم، كان احتكار المعرفة، وبعبارة أحدث، احتكار المعلومة أو صناعتها أو التحكم بها، عنوانا لامتلاك القوة، وأداة لضبط العلاقة بين الذين يملكون السلطة والذين لا يملكونها. وشهد الناس أيضا أن السلطة عبر العصور، خافت ولا تزال، من تسرب المعرفة إلى من تحكمهم، فمن أسطورة ''سيزيف'' الذي سرق نار العلم من آلهة الأولمب فعاقبته بصخرة يدفعها إلى أعلى جبل لترتد حين بلوغه القمة ويعاود دفعها إلى أبد الآبدين.. ثم ''في البدء كانت الكلمة'' كما قال الإنجيل، و كان أمر القراءة ''اقرأ'' مبتدأ القرآن الكريم، كذلك كان اختراع المطبعة بداية كل الثورات في أوروبا من ثورة الإصلاح ضد طغيان الكنيسة إلى ثورة التنوير ضد طغيان الجهل، إلى كل ثورات التحرر والتحرير الأخرى .. كانت كل ثورة على سلطة مستبدة قائمة، تبدأ بكسر احتكار المعرفة، وتوزيع المعلومة على الجماهير قبل توزيع السلطة أو الثروة! وبكل المقاييس، يمكننا اعتبار تاريخ تطور ''الإعلام'' (بمعناه الواسع الذي يعني انتشار المعرفة والمعلومة، وتطور وسائل النشر والإيصال)، هو تاريخ تراجع السلطة. فالإعلام، السلطة الرابعة ليس بمعنى معادلة ومكافأة وموازنة السلطات الثلاث التقليدية، وإنما بمعنى معارضتها والحد من جنوحها إلى التعسف والاستبداد والهيمنة، لأن كل سلطة مطلقة.. مفسدة مطلقة. ونحن اليوم إذ نشهد إجماعا عالميا على اعتبار حرية الإعلام مقياسا أساسيا لقياس ديمقراطية النظم الحاكمة، فإننا نشهد إجماعا آخر على أن هذه الحرية تتعرض لانتهاكات متزايدة من السلطة بمختلف أشكالها وصورها. هذا هو واقع حال العلاقة بين السلطة والإعلام إلى هذه اللحظة. وكانت السلطة هي الطرف الأقوى في الغالب من الأحوال، واستطاعت بأساليب، هي مزيج من ''العصا والجزرة'' أو انفراد بأحدهما فقط، أن تصوغ هذه العلاقة في قوالب وأطر مكّنتها في الغالب من التحكم في جموح الإعلام، كما استطاعت في أحيان كثيرة التلاعب بهذا الإعلام وتوظيفه أو على الأقل توجيهه الوجهة التى تريد. لكن ملامح مستقبل جديد قد بدأت ترتسم، ملامح تخطها التكنولوجيات الجديدة والوسائط المتعددة، ويرسمها الإنترنت والموبايل والكاميرات الرقمية والكمبيوترات المحمولة.... وكل '' الألعاب'' صغيرة الحجم، رخيصة الثمن، عالية الكفاءة، التي أصبحت متاحة أمام ملايين بل ملايير البشر في كل أرجاء المعمورة..مستقبل سيكون من الصعب على أي سلطة في أي دولة أن تحكمه أو تتحكم فيه كما تفعل الآن.. فقد تحول كل حامل هاتف نقّال إلى ''صحفي كامن'' يصبح بلمسة زر ''صحفيا فاعلا''، وتحول ''النت'' إلى هيئة إعلامية بلا حدود ولا تكاليف ولا إجراءات.. ولا أحد ..لا أحد على الإطلاق قادر على التحكم في إعلام صحفيوه هم كل البشر ومقره نبضات كهربائية في كل قرص كمبيوتر أو ذاكرة موبايل..! إعلام المستقبل هو إعلام جماهيري ليس لأن الجماهير هي المتلقي، بل لأنها المرسل والصانع لهذ الإعلام، وهو إعلام ديمقراطي حقا، ليس بحكم النصوص والقوانين، لكن بحكم الواقع الذي يفرض قوانينه على الجميع. إعلام المستقبل لن تنفع في ضبطه أي سلطة قائمة، خاصة السلطة القديمة، سلطة التاريخ وسلطة الاحتكار، وسلطة الجهل الممنهج.. وفي الجزائر لن تجتاحنا موجة إعلام المستقبل هذا مثلنا مثل غيرنا، ولن تتمكن السلطة عندنا، مثلما لن تتمكن في أي دولة من دول العالم، من ضبط الموجة على الايقاع الذي تريد.. وعندها سيصبح الضبط والربط القائم الآن شيئا في خبر كان، فالإعلام الجديد لا يحتاج إلى اعتماد من وزارة العدل ولا مقر في دار الصحافة، ولا إشهار من وكالة النشر والإشهار.. ولا حتى ''مصادر موثوقة'' توحي له بما يكتب وما لا يكتب. بل إن احتكار الإعلام الثقيل (السمعي البصري) سيصبح نكتة قديمة، أمام طوفان التلفزيونات والقنوات التي لن يحتاج أصحابها لأكثر من جهاز كمبيوتر و''برابول'' صغير! عندها يمكننا أن نتساءل حقا عن الذي سيناضل من أجل قانون إعلام جديد!