لكي نحدث تغييرا جذريا في مسارنا التاريخي لابد أن نستوعب عناصر التغيير الفعال وخصوصا التي تؤسس طريق المستقبل وبشكل أخص العناصر المستحدثة، وإلا فإن العنصر قد ينقلب إلى أزمة حقيقية إن لم يفهم ويتعامل معه بشكل جيد، ومن هذه التحديات التاريخية الجديدة ظاهرة المعلوماتية التي فرضت نفسها كعنصر حاسم في صراع الأمم وصياغة المستقبل وامتلاك الغد، وهذه الظاهرة سوف تستأصلنا إن لم نستوعبها وننتزع أنيابها، كما أنها يمكن أن تكون عنصر تغيير بناء للمستقبل إن استفدنا من جوانبه الإيجابية. يمكن القول أن المعرفة الإنسانية تشكل العنصر الأساسي في صنع الحركة التقدمية للأمم وبناء التاريخ الإيجابي، لأن الإنسان بتميزه التكويني يعتمد أساسا على التشكل المعرفي لبناء شخصيته واكتساب ثقافته ونموه العلمي لإشباع حاجاته المادية والمعنوية، حيث يمثل إنتاجه الفكري واستنتاجاته العقلية وسيلة سلوكية للتعامل مع الواقع الخارجي وفهم المحيط الذي يعيشه لاكتساب المزيد من الخبرات والتجارب وإيجاد حالة التأقلم مع الظروف الخارجية لصنع حياة أفضل بالنسبة له، حيث يقال في هذا الشأن "لقاح لمعرفة دراسة العلم، ولقاح العلم التصور والفهم"، لذلك تطورت حياة البشرية بقدر تطور المعرفة وتقدم العلوم، وكان تطور التاريخ التصاعدي والنهضوي يعتمد على هذا المقياس، ونشوء الحضارات الإنسانية الكبيرة ابتدأ أساسا من تعاملها المعرفي ونموها العلمي مع واقع الحياة، ومن هنا تنبعث القوة التي اتسمت بها بعض المجتمعات وتفوقها على الآخرين واضمحلال مجتمعات باضمحلالها في أغوار الجهل وعدم المعرفة، والقرآن الكريم في إشارة لهذا يقول "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلكم إيمانا أفضلكم معرفة، وكان الهدف الأول لبعثة الأنبياء والرسل هو نشر المعرفة بين البشر لإيصالهم إلى طريق البناء والسعادة والخير ومعرفة أنفسهم وبالتالي الوصول إلى المعرفة الحقيقية وهي معرفة الله تعالى، يقول الإمام «علي بن أبى طالب» "فبعث فيهم رسله وواتر إليه أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرتهم ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول"، فعبر إثارة كوامن العقل البشري تتحرك تفاعلات المعرفة والاستدلال والعلم وتتطور مع تطور الحياة وتغير الشروط، فلا يمكن للإنسان أن ينمو في ظل سكون المعرفة وجمود العقل عن إنتاجها لان المعرفة متغيرة حقا ولكن تغيرها يتخذ شكل التراكم أي إضافة الجديد إلى القديم ومن ثم فان نطاق المعرفة التي تنبعث من العلم يتسع باستمرار، وعندما يتوقف الإنسان عن اكتساب العلوم وتراكم معلوماته يتوقف العقل عن التفاعل المعرفي مع تطور العالم الخارجي ويصبح حينئذ عاجزا اكتساب الخبرات المفيدة ويفقد القدرة على إدراك الحياة إدراكا واعيا وسليما، إذ أن "المعرفة حصيلة امتزاج خفي بين المعلومات والخبرة والمدركات الحسية والقدرة على الحكم فنحن نتلقى المعلومات، فنمزجها بما تدركه حواسنا ونقارنها بما تختزنه عقولنا من واقع خبراتنا ثم نطبق على هذا المزيج ما بحوزتنا من أساليب الحكم على الأشياء وصولا إلى النتائج والقرارات أو استخلاصا لمفاهيم جديدة"، ولكي يحافظ الإنسان على نفسه ووجوده عليه أن ينتج ولكي ينتج عليه أن يكتسب المعرفة لكي يستطيع أن يتواصل مع الآخرين ويعرف محيطه وخصائص مجتمعه والصعوبات التي تقف أمام تحقيق حاجاته الأخرى، لذلك فان المعلومات تصبح العصب الحيوي في حركة الأمم وتطورها باعتبارها منطلق الحاجة المعرفية، ذلك أن الحاجة للمعرفة تبقى المحور الرئيسي في مصير الأمم لأنها تشكل الرافد الذي يغذي الحاجات الأخرى، فمع جمود المعرفة وتوقف نموها في الأمم تواجه هذه الأمم نقصان في حاجاتها الأساسية الأخرى فتتخلف عن مسيرة الحياة وتقع أسيرة في ربقة الأمم القوية التي تمتلك سلاح المعرفة والعلم، إن الصراع التاريخي بين الأمم كان صراعا تميزت فيه المعرفة كسلاح حاسم ينتصر فيه من يمتلكه مهما كانت القوى المادية والعسكرية التي يمتلكها الطرف الآخر، لأن المجهود الحقيقي هو المجهود الذي ينبعث من عقل الإنسان وليس جسده والقوة الواقعية في ذلك قوة المعرفة والعلم، لذلك كانت قوة انتشار الإسلام وانبعاثه في العالم هو في تلك المعلومات التي فتحت للبشرية آفاقا معرفية جديدة قطعت خيوط ظلام الجاهلية، ومن هنا بدأ العالم يأخذ منحا تطوريا جديدا أساسه العلم والمعرفة حتى القرن ال21 الذي يشهد ثورة معرفية كبيرة أساسها وعمادها ووقودها هو المعلومات لا غير حيث أصبحت السلاح الذي من امتلكه امتلك قوام القدرة وسيطر على العالم، باعتبار أن هذا القرن الجديد هو خلاصة مركزة للتطور والتراكم العلمي والمعلوماتي للتاريخ البشري، ويرى «ألفين توفلر» أن "القوة في القرن ال21 لن تكون في المعايير الاقتصادية أو العسكرية ولكنها تكمن في العنصر المعرفة، بعد كانت المعرفة مجرد إضافة إلى سلطة المال والعضلات باتت اليوم في جوهرها الحقيقي فالقوة العسكرية ترتبط مباشرة بالقدرة التكنولوجية أي المعرفة التي تكتنزها، وعلى عكس العناصر الاقتصادية والعسكرية فإن المعرفة لا حدود لها ولا تنضب". إن التحول العالمي المثير نحو السيطرة المطلقة لسلطة المعلومات وتحولها لأهم الأسلحة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا، يدعونا لدراسة هذا المنحى الكبير في التاريخ البشري وتأثيره على المجتمع البشري قاطبة وتحوله لصياغة جديدة قد تحمل تموجات خطيرة خصوصا مع فوضوية هذه الثورة والنيات التي يبطنها من يمتلك أسلحتها، لقد تحولت المعلومات إلى إنتاج واقعي وجهد حقيقي فرض نفسه على كافة الفعاليات البشرية الأخرى مع مجرد كونها واقع افتراضي يسكن في خيال الذهن الواسع، ولكن قوة وجبروت هذه الثورة وتأثيراتها حولتها إلى قوة حقيقة مستأثرة وطاغية، لذلك تصبح المعرفة البديل الأخير من كل عوامل الإنتاج الأخرى وما زال الاقتصاديون التقليديون يجدون صعوبة في التعود على هذه الفكرة لأنه يصعب تحديدها كميا وسواء كان قياس المعرفة ممكنا أم غير ممكن فأنها أصبحت العامل الأكثر كفاءة والأكثر أهمية بين عوامل الإنتاج، لا تكمن خطورة هذه الثورة الجديدة في كونها مجرد حالة معرفية بل على العكس من ذلك فإن هذا التطور المعلوماتي يحمل بذورا معرفية إيجابية يمكن أن تساهم في حل الكثير من المشاكل الإنسانية المعقدة وتسهم في تطور الحالة الإنسانية والتعاونية عند البشر، ولكن خطورة الأمر يكمن فيمن يمتلك أدوات هذه القوة لتحقيق مآرب وأهداف خاصة لنشر معلبات معرفية جاهزة وغسل عقول البشر للتحكم بهم واستغلالهم لأهداف اقتصادية أو سياسية و إيديولوجية، إذ أن قوة الأدوات المعلوماتية تتحقق في قدرتها على التحكم الثقافي بالآخرين باعتبارها المصدر المعلوماتي لتشكلها المعرفي، فعن طريق التثقيف كوظيفة أساسية لوسائل الإعلام يكتسب الأفراد ويطورون داخليا كل نواحي ثقافتهم ولا يتضمن هذا العادات والتقاليد داخل محيط عائلاتهم فقط، بل اللغة أيضا واستخدام الأدوات المادية والمعتقدات، فبمقدار ما تستطيع أن تحققه هذه الأدوات من تغيير في عقل الفرد وثقافته تزداد قوة وأهمية وتصبح سلطة حقيقة في المجتمع، ويرى «ليوتار» في كتابه "شرط ما بعد الحداثة" وينذر بأن المعرفة بصفتها سلعة معلوماتية لا غنى عنها للقوة الإنتاجية أصبحت وستظل من أهم مجالات التنافس العالمي من أجل إحراز القوة، ويبدو من غير المستبعد أن تدخل دول العالم في حرب من اجل السيطرة على المعلومات كما حاربت في الماضي من أجل السيطرة على المستعمرات، فإذا أصبحت المجتمعات تستقي موارد معلوماتها من جهات أخرى لإشباع نهمها المعرفي وحاجاتها الثقافية فإن هذا يعني أن تتقولب ضمن أسس ثقافية وفكرية تتناسب مع مصالح مورّد المعلومات ومصدّرها، فتقع في حبال شبكاته العنكبوتية باعتباره منتجا ومحتكرا لأدوات المعرفة المتمثلة بالتكنولوجية الحديثة المدهشة، لأن تقنية المعلومات هي التي جعلت من الثقافة صناعة قائمة بحد ذاتها لها مرافقها وسلعها وخدماتها، بل إننا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا بأن أثر الثقافة في التقنية يكاد يشكل جميع عناصر منظومتها والعلاقات البينية التي تربط هذه العناصر ولا تشمل هذه العناصر الإدارة الثقافية ومواردها فقط، بل أيضا وهذا هو الأهم بنية المعرفة داخل المجتمع والأسس والمبادئ التي قامت عليها وقاعدة القيم التي انطلقت منها، فالدور الحيوي الذي يلعبه ذلك الكم الهائل من المعلومات جعل من التقنية مصدرا أساسيا للقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، إذ باتت تقنية المعلومات أداة رئيسة للفعل السياسي الموجه نحو السيطرة والتوجيه الإعلامي والتربوي، ولا نعتقد أن أحدا يستطيع إنكار تأثيرها الواضح في نظام القيم وتشكيل رؤية الفرد، نظرا لما أحدثته وسوف تحدثه من تغييرات حادة في أنماط السلوك والمعايير، ويرى «ألفين توفلر» في كتابه "أشكال الصراعات المقبلة" أن "المعرفة كوسيلة تختلف عن كل الوسائل الأخرى إنها لا تنضب ويمكن استخدامها من قبل الطرفين، وجزء محدود من المعلومات يمكن أن يعطي أفضلية إستراتيجية وتكتيكية هائلة ويمكن أن يؤدي حجزه إلى نتائج كارثية"، فخطورة المد المعلوماتي الجديد تنبع من قدرته على استحواذه على القنوات والأدوات التي تصنع ثقافة الفرد، وبالتالي تستحوذ على بنيته المعرفية وتتحكم في سلوكه وتوجهاته وأهدافه، وبعبارة موجزة فإنها تسترقه في القطيع الإلكتروني التي يقوده قلة ونخبة تستحوذ على معظم موارد العالم. كل ما قلناه ينصب في دراستنا لتحديات التاريخ الجديد ومعطياته المستقبلية، وكيف نستطيع أن نصنع مستقبلا آمنا وتاريخا مشرفا يرتكز على الاستقلالية الحضارية بعيدا عن التسلط الحضاري والاستعمار السياسي لأمتنا، والثورة المعلوماتية هي من أخطر التحديات والأعاصير التي تهب علينا وتجتاحنا من جذورنا لتقيدنا في زنزاناتها الإعلامية والتقنية وتغسل عقولنا بإعلاناتها وتأثيراتها الضوئية المبهرة حتى تمحي صورنا المعرفية الأصيلة وتؤسس في أعماق حضارتنا معرفيتها الهزيلة القائمة على المادة واللهو والأنانية، إننا نحاول أن ندرس الظاهرة المسماة بالمعلوماتية، لكي نتعرف على حقيقتها وأهداف الذين يحتكرون أدواتها ويوجهونها، ونحاول أن نستثمر هذه الأدوات إيجابيا لصالحنا في تقوية معرفيتنا ونشر المعلومات الإنسانية النبيلة من قيم الإسلام والسلام والحرية والأخوة والتعاون والعدالة، إذ أن تقنية المعلومات لا تحمل بذاتها في باطنها شرورا، بل يمكن أن يستفاد منها للخير أكثر ولكن من يحتكرها هو الذي يقود العالم يوما بعد يوم نحو الفوضى والفساد والحرب والفقر، لأن التكنولوجيا بطبيعتها متعادلة القيمة كالسيف إنه خامة تكنولوجية والأشياء بذاتها لا تحمل قدرا من الخير والشر وإنما البشر هم الذين ينفثون فيها الحياة باستخدامهم إياها ويضفون عليها خصائص معنوية وأخلاقية.