''وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت''.. سؤال ينطبق على تسعة شهداء أتراك قضوا نحبهم في ''مجزرة'' أو دعونا نسمِها ''ملحمة'' أسطول الحرية. هل قتلوا لأن إنسانيتهم تحركت لإغاثة مليون ونصف مليون ملهوف في قطاع غزة المحاصر، أم لأنهم رفضوا إحناء رؤوسهم للظلامية في عصر طأطأ فيه الكبار رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم؟ لعلهم كانوا انتحاريين زاهدين في هذه الحياة أو طالبي شهرة ونجومية كما روج لذلك بعض المهللين في قرارة أنفسهم بصنيع إسرائيل.. ولم لا هم في بعض من حسنت نياتهم ''معتوهون'' صدقوا بأن في هذه الغابة المسماة مجتمعا دوليا قوانين تحفظ لهم أرواحهم وأموالهم ومساعداتهملأنهم في النهاية مدنيون مسالمون، برلمانيون، إعلاميون، أطباء، مناضلون وحتى فنانون قدموا من شتى بقاع الأرض لينقلوا بيمناهم علبة دواء وكيس حليب إلى أطفال غزة وبيدهم الأخرى رسالة للعالم أن ''تحركوا... وإلا فإن بصيص نور ورحمة وإنسانية لايزال يبزغ من وسط حلكة طال انتظار زوالها قد تحرك.. فلا تمنعوه!'' تضرع وترقب يسبق المجهول مالت شمس ذلك اليوم إلى الاختفاء وراء خيط المياه الذي عانق السماء في صورة بعثت في نفسي مشاعر جديدة غير تلك التي يجدها العشاق وأصحاب الخلوات الرومانسية في منظر احمرار الشمس وهي تغادر كبد سماء المتوسط لتنزوي في فراشها الأزلي فاسحة المجال أمام ليل قادم محملا بالمفاجآت لتطلع علينا في يومها الموالي ونحن في حال غير الذي غادرتنا فيه... وإذ بصوت المؤذن الأردني يصدح بأن ''حيّ على الصلاة''.... كان صوته شجيا لدرجة أطرب فيها ركاب ''مرمرة الزرقاء'' من غير المسلمين ممن كانوا يسألون عن موعد الصلاة ليستمتعوا بسماع كلمات بلال ابن رباح وهي تخترق صمت وسكون مياه المتوسط... الجميع في مغرب هذا اليوم كان حريصا على أداء الصلاة جماعيا في باحة السفينة، لم يكد ينهي المؤذن كلماته حتى أخذ كل منا مكانه خلف الإمام الذي كان وجوده فقط على ظهر السفينة بمثابة سلاح يستمد منه الجميع مقومات الصبر والثبات والصمود.. إنه شيخ المسجد الأقصى وقائد المدافعين عن حياض المدينة المقدسة: الشيخ رائد صلاح.. هذه الشخصية الفذة التي لم تفارق منتصف عقدها الخامس حملت هموما وخطوبا خطها كثافة الشيب الذي كسا شعرها ولحيتها وارتسمت بعض تفاصيل غدر الزمن على خطوط وجهها الباسم.. صلينا خلف الشيخ رائد صلاتي المغرب والعشاء جمعا تقصيرا خاطبنا بأن نجعلها صلاة ''مودع'' لأنه كان على دراية أكثر من غيره بطبيعة من سنواجههم بعد سويعات انقضى منها الكثير.. جميع من كانوا على ظهر ''مرمرة الزرقاء'' أصبحوا يدركون الآن أن ملجأهم ومآلهم الوحيد في هذه النازلة هو التضرع إلى الله وطلب العون والحماية والنصرة منه...مشهد مؤثر لم يغب عن ذهني حين قام مطران القدس السابق، الأب هيلاريون كبودجي، بأداء الصلاة في صف واحد مع المسلمين بطقوسه المسيحية الخاصة، في موقف جسد حقيقة التعايش بين الأديان والثقافات، كان أبلغ من كل مؤتمرات اليونيسكو والأمم المتحدة والجامعات والمعاهد الإسلامية واللاهوتية.. فهنا غزةوفلسطين وكسر الحصار جمعت الكل على هدف سواء كان أكبر من كل الفروق الدينية والعرقية واللغوية وحتى المذهبية التي حملها ''أسطول الحرية'' .. ليلة بيضاء لم تخل ُ من مواقف طريفة ''السفر يكشف معادن الناس''.. مقولة أصاب صاحبها كبد الحقيقة، أناس وهيئات وشخصيات كثر تكونت لدينا صور نمطية عنهم خصوصا نحن أهل الصحافة والإعلام، لكن تجربة من قبيل تلك التي عشتها وعاشها كل أعضاء الوفد الجزائري أعتقد أنها ستكون كافية لتصحيح الكثير من الشوائب التي رسخت في ذهننا عن أناس بعينهم وصفاتهم، نواب كنا نرى فيهم رموزا للتعالي وحب الظهور والوصولية كشف محك الموقف وتداول الساعات معدنهم الأصيل... جميعهم كانوا يتسابقون لخدمة أفراد الوفد الجزائري مهما دنت مراتبهم أو صغر سنهم، الحاج لطيفي الذي أخذ من اسمه الشيء الكثير لم يغفل صغيرة ولا كبيرة إلا وسارع إلى توفيرها ولسان حاله يقول ''خدام الرجال سيدهم''، بل إن كرمه الجزائري الأصيل طال حتى أفرادا من غير الجزائريين حتى مراسلي القنوات التلفزيونية العملاقة استعانوا بهاتفه المربوط بشبكة ''الثريا'' لإيصال رسائلهم إلى الرأي العام العالمي ونيته في ذلك ''كل شيء يهون في سبيل غزة''. عز الدين بن مدخن الذي اشتهر اسمه أيام الانشقاق الذي عاشته حركة حمس لم يدخر هو الآخر جهده وماله وحنانه ليغدق بها على جميع أعضاء الوفد الجزائري. عبد الكريم رزقي رجل الأعمال المعطاء، الشيخ صالح نور وأحمد الإبراهيمي الذي لم تغب نكته وروحه الخفيفة عن أجواء الوفد حتى في أصعب الأوقات..إمام وهران الشيخ العكاني كان بمثابة الدينامو الذي يشحن بطاريات الجميع فهو الشيخ السبعيني الذي غالب تعبه وصبر على دوار البحر ليكون في قافلة غوث دعا لأصحابها من فوق منابر الجمعة. الحاجتان صليحة ونجوى سلطاني كلتاهما تذكرك بحنان الأم ودفء عاطفتها وخوفها على فلذة كبدها.. أسماء كثيرة ربما لم أذكر بعضها لمحدودية الوقت والمجال، لكنها يقينا كانت أحد ركائز ملحمة ''أسطول الحرية''... جولة خفيفة في أركان السفينة بثت الثقة في نفسي وجعلتني أستعجل في قرارة نفسي مواجهة الموقف، لكن بنوع من المرارة والاشتياق لأجواء قد أفارقها بعد لحظات عشت فيها بين هؤلاء داخل بيت عائم شكلنا فيه أسرة أفرادها من 40 دولة قد لا يفهم بعضهم كلام البعض وقد تختلف ميولات ومعتقدات وتوجهات كثير منهم، لكن خيط الإنسانية ورغبة التخلص من تأنيب الضمير أذاب كل تلك الفروق وصهرها في بوتقة واحدة عنوانها ''أسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة''... لحظات قضيتها مع شهيد قبل أن يترجل.. ''علي حيدر بنغي ''..اسم لن يمحى من ذاكرتي ما حييت. هو شاب تركي في نهاية العقد الثالث، صورته وهو مصاب بطلقة نارية في الرأس لا تغادر ساحة مخيلتي. فقبل ساعات فقط كان أمامي يجول السفينة طولا وعرضا، ها هو الآن جثة هامدة مغطاة بالدماء سجاه المسعفون بعلم فلسطين التي تمنى كما ذكرت زوجته أن يستشهد على ترابها. علي، قبل ساعات كان داخل قاعة الإنترنت المخصصة لرجال الصحافة والإعلام.. فهو الشخص المكلف من قبل ''إي هاها'' بتسيير شؤونها والسهر على توفير الراحة للإعلاميين فيها. ولجت تلك القاعة كالعادة علني أظفر بمكان أرسل منه رسالة إلكترونية إلى الأحباب علها تكون الأخيرة، فمن يدري نحن مقدمون على أمر لا يستطيع أحد التكهن بنهاياته. ولأنني كنت من المرتادين كثيرا على القاعة لإرسال المادة إلى جريدة ''البلاد'' والاطلاع على مستجدات الأخبار، فقد صارت وجوهنا مألوفة لدى بعضنا بعضا، توجهت إليه كالمعتاد لأطلب منه مساعدتي في تخطي مشكل أعاقني عن فتح بريدي الإلكتروني فكلمني بإنجليزية غير متقنة مصحوبة بابتسامة رقيقة ''سامحني مكاني اليوم ليس هنا فأنا لديّ مهمة أخرى..'' لم يزد كثيرا على هذا وانطلق مسرعا خارج القاعة باتجاه علية السفينة لما قال في خطابه ما معناه ''شاءت إسرائيل أن يبدأ المشروع الصهيوني من تركيا، لكن الله شاء أن تبدأ نهاية المشروع الصهيوني من تركيا'' وقال: ''شكل 20 تركيا درعا بشرية لمنع الجنود الإسرائيليين من اعتلاء السفينة. كان بحوزتهم مقاليع ومواسير مياه وعصي. وكانوا يقرعون جانب السفينة بالمواسير لتحذير الإسرائيليين من الاقتراب''. وأردف ''قلنا لأصدقائنا على ظهر السفينة..إننا سنموت ونصبح شهداء لكن لا تدعونا نظهر أبدا... بأننا من استخدم السلاح. إبراهيم بلجين لأول مرة في حياتي منذ أن تعلمت ألف باء الكتابة أجد نفسي عاجزاً عن السيطرة على قلمي وعن التعبير عما يدور في خلدي.