إن العبث بالدين وبالفكر مثله مثل العبث بالمال العام ومن الخطأ الاعتقاد أن مشروع تحقيق الأمن الفكري بالبلاد هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وهذه مهمة كما ذكرت ولازلت أكرر مادامت بعض الأقلام من ذوي النوايا السيئة تشكك في مقاصدها، قلت تضطلع بهذه المهمة الشاقة والمهمة وزارة الشؤون الدينية والأوقاف بحكم مسؤوليتها المعنوية الثقيلة التي تفرض عليها الحفاظ على الهوية الدينية والوطنية للجزائر التي استقرت عليها وارتضتها لنفسها منذ قرون طويلة إلى درجة أنها على المستوى الرسمي والشعبي الواسع غير مستعدة للتخلي عنها والتفريط فيها بسهولة بعدما أضحت جزء من تاريخنا ومن تراثنا، وإذا كانت كل التيارات والايدولوجيات الوضعية قد تكسرت أمام قلعة الجزائر المجاهدة، فإنه بالتأكيد سيكون نفس المصير بالنسبة للتيارات والمذاهب الدينية التي تريد اختراق حصوننا من أجل العمل لتحقيق أجندة أجنبية لغايات في كثير من الأحيان تكون لاغراض مادية وإن لبست ثوب النصوص الشرعية التي مهما ارتقى مستواها تبقى مجرد اجتهادات بشرية قابلة للخطأ وللصواب ولكن مع الأسف الشديد الغرباء بيننننا يصرون دوما على أنهم على المحجة البيضاء وأن من هو على غير ذلك من مراجعنا الوطنية على ضلالة وأمام هذا التعصب المذموم الذي نهى عنه الشرع لا نملك إلا أن نشكك في ولاء هؤلاء وفي انتمائهم للوطن ماداموا يدورون خارج النسيج الاجتماعي الذي يعد عنصرا أساسية في استقرار الدولة ونموهها· إن القناعات الشخصية وحرية التفكير بل وحتى المعتقد حق كفله الدستور ولكن على مستوى المسؤولية الرسمية للدولة الأمر يختلف، فبعض الوضائف الحساسة كما هو معروف لا يسمح فيها لمزدوجي الجنسية من توليها بل قد يجرد فيها المواطن من جنسيته الأصلية هذا وقد يحرم عليه تولي بعض المناصب إذا كانت زوجته من من جنسية أجنبية، إذن وإذا كان الشيئ بالشيئ يذكر هل تفتح مساجدنا وتستباح منابرها لكل من يريد الإمامة والخطابة بعدما خاضت الدولة معركة طويلة لاسترجاع المساجد التي وقعت ضحية الفتنة التي صدرتها للمجتمع؟ أبدا لا يمكن أن نقبل بذلك وإن كان وزير الشؤون الدينية غلام الله سبق وأن أبدى احترامه لأصحاب الآراء المختلفة لخطاب الوزارة من الأئمة وبالخصوص عندما صرح منذ سنوات خلت ألا مشكلة بينه وبين السلفية بل يوجد في صفوفها من هم أصدقاؤه وبالرغم من ذلك لا يتفق معهم فيما يدعون إليه لأنه لا يساهم في تطورنا وما عندنا خيرا منه· هذا وقد أوضح أنه بمجرد أن ينخرط المتصدر للإمامة في الوظيفة بشكل رسمي يتقاضى مقابلها راتبا فما عليه إلا الالتزام بقوانين العمل وإذا خرج عليها فما عليه إلا تحمل تبعات أفعاله وخطاباته دون تعسف أو حيف وفق قاعدة العقد شريعة والمتعاقدين وبالتالي لا يمكن الحديث في هذه الحالة عن محاكم تفتيش تشن ضد هذا التيار أو ذاك، سواء أكانت سلفية أو شيعة أو غيرها من النحل التي نحترمها ولكن وهي تتحرك في معاقلها الأصلية بعيدا عنا·بعد الضجة الأخيرة التي أثيرت حول الائمة الذين امتنعوا عن الوقوف للنشيد الوطني قبيل انطلاق أشغال الندوة الشهرية التي تنظمها وزارة الشؤون الدينية بدار الإمام، فتح نقاش ساخن حول هذه المسألة وهذا لأسباب منها أن الحادثة وقعت أمام الرأي العام وبحضور وسائل الإعلام والصحافة وفي جلسة علنية ولهذا معالجتها معلقة وفق مقتضى الحال بخلاف لو وقعت في جلسة عمل مغلقة، هذا من جهة ومن جهة أخرى أنها جاءت بعد ملتقى الأمن الفكري الذي نظمته وزارة الشؤون الدينية الشهر الماضي بسيدي عقبة ببسكرة والذي خرج بتوصيات منها أن خدمة الدين والوطن عملة واحدة لا يجوز الفصل بينهما وفق مرجعيتنا الدينية دون تعصب، هذا وعندما يصدر هذا السلوك من شريحة يفترض أنها قدوة لغيرها والجزائر تستعد للاحتفال بذكرى الاستقلال، فلا بد وأن تعطى للقضية حجمها الذي تستحقه دون أن تمنح الفرصة لينحرف النقاش إلى الهاوية· من عجب أمر السلفيين ببلادنا أنهم يحرمون علينا في ديارنا ما يحلله زملاءهم ببلادهم، ففي الوقت الذي وضعت فيه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية مصليات متنقلة لتمكن مواطنيها من مواكبة مونديال كأس العالم دون تفويت لصلاة الجماعة، يخرج عندنا من يحرم على الجزائريين متابعة مباريات كرة القدم العالمية بحجة أنها لهو منهي عنه شرعا بل وأنه رجس من عمل الشيطان يريد أن يصدنا عن ذكر الله وهذا من مخططات الصهيونية العالمية التي تريد من وراء ذك تخدير الشعوب العربية والإسلامية لسلب حقوقهم، ولقد امتد هذا الخطاب إلى درجة الدعوة إلى الامتناع عن إجراء الجزائر المقابلة التي برمجت لها مع الولاياتالمتحدةالامريكية، بحجة أن هذه الأخيرة تدعم إسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني وعلى المقدسات في القدس، وهذا لعمري قراءة صبيانية بعيدة عن الحكمة بكل المقاييس، أقول ذلك لأن ما حققه فريقنا لكرة القدم ومهما تعددت التحليلات إلا أنه أحيا فينا روح الوطنية وجدد جذوتها وجعل العلم الجزائري يرفرف عاليا شامخا في كل بيت ومتجر وعلى كل ناقلة وهذا بالتأكيد من المسائل المشروعة والمطلوبة مادامت تحقق وحدة المشاعر والأهداف النبلة وتزيل الأحقاد بين أبناء البلد الواحد وأعتقد أن المراقب قد سجل كيف أن الخصومات والنرفزة بين المواطنين قد خفت حدتها وكادت تزول من بعض النفوس، وهنا لا بد من وقفة تأملية فيها كثير من الدروس والعبر، وهو عندما خرج ذات يوم الشيخ عبد الحميد بن باديس من المسجد بعدما أدى فريضة الصلاة صادف وأن التقى في الطريق بأحد السكيرين يترنح ويتمايل مرددا عبارة ''تحيا الجزائر·· تحيا الجزائر'' بالفرنسية مىْجهٌء؟ٌ مًّىًّ ؟ مىْجهٌء؟ٌ مًّىًّ فأثر فيه هذا الموقف المشرف الذي اقشعر له جسده ومن كثرة الإعجاب به قال '' لو لم ينزل أمر بتحريمها من السماء لأمرت بشربها'' وقد كان يقصد بذلك الخمرة التي جعلت من هذا المواطن الأعزل يتحدى الاستعمار الفرنسي دون أن يخاف عقابه، نعم هكذا كان الشيخ بن باديس الذي ضيعناه كمرجعية كان يفترض أن تكون قدوة للأجيال وفي مقدمتهم الأئمة والعلماء، ففي الوقت الذي كانت فيه كلمة الوطن والوطنية جريمة سياسية قال بن باديس في جريدة الشهاب سنة 1937 ''وقليل جدا من يشعر بمعناه، وإن كان ذلك المعنى دفينا في كوامن النفوس ككل غريزة من غرائزها، لاسيما في أمة تنسب إلى العروبة وتدين بالإسلام مثل الأمة الجزائرية''· وفي موضع آخر ذي صلة يؤكد بالقول'' لاتعارض بين الإسلام والوطنية، وعندي أن الجزائري لا يكون وطنيا حتى يكون مسلما، ولا يكون مسلما حتى يكون وطنيا '' فهل بعد هذا الحديث من يرعوي عن جهله ويعيد قراءة تراث الشيخ عبد الحميد بن باديس والتمعن في كتاباته ببصيرة وبالخصوص إذا كانت في مستوى مقاله الشهير ''لمن أعيش؟'' والذي أجاب من خلاله ودون تردد ''أعيش للإسلام وللجزائر''·