يقضي أوقاتاً طويلة طويلة برفقتهم, يتفقدهم, يعتني بهم, يكسيهم ثوبهم الأبيض, يستقبل زوارهم ثم يودعهم قبل مسيرة تزفهم. كوكبة من شهداء الأطفال والرجال والنساء والشيوخ الذين يمرون عليه, يكفنهم ليشيعوا إلى مستقرهم في قبورهم. وكيف لا يعتني بهم وهم الأكرم منا جميعاً وهم يُقتلون في أرض معركة, يستشهد فيها المقاوم, ويرتقي بها الصامد الآمن المرابط في بيته, والذي قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم" فأنزل الله تعالى "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" كان يتمنى أن يراهم في أسواق العيد يشترون ملابس العيد المرصعة بالبهحة والفرحة لا أن يشترى لهم أكفان مرصعة بدمائهم المعطرة بدموع أحبائهم. المكفن أحمد يونس جاد الله ( 75 عام) الملقب ب "طروش", يروي لدنيا الوطن مشاهد حياته مع الشهداء في مستشفى كمال عدوان في هذا العدوان الإسرائيلي الإرهابي على قطاع غزة يقول طروش :" في تكفيني للشهداء في هذا العدوان لمن أصبحوا أشلاء بسبب صواريخ الإحتلال, أحاول أن أكفنهم بأقصى إمكانية كي أخفي فيها أشلاءهم, محاولاً إظهار جثامينهم بشكل لا يفجع من يراهم و كي أمتص ألم ومرارة من يروهم خاصة من ذويهم الأم والأب والأخوة, حيث أن في موتهم فاجعة ومشهد أشلائهم فاجعة أخرى, فإن رأوها دون ذلك, فإنهم حتماً لن يستطيعوا بعدها أن يسنوا ذلك المشهد, فأنا أخشى أن يتعرضوا لانهيار عصبي أو جلطات قلبية أو دماغية تزيد من مصيبتهم مصيبة أخرى" "طروش" وهو يكفن الشهداء لا يلبس "الجلفزات" الطبية أو الكمامة, لأنه أصبح لا يشم شيء بسبب تعوده على التكفين, حتى أن من يقوم بلبس الكمامة بجانبه يقوم بطرده فوراً, فهو لا يحتمل مشهد شخص يلبس كمامة أمام شهيد, لأنه يعتبر أن لا أحد أفضل من الشهداء, واصفاً أن التكفين أصبح بالنسبة لديه أمرعادي, فقد تعود على مشاهد أشلاء الشهداء , حيث أنه أصبح لا يحزن كثيراً لأنه مطمئن بما فازوا به من عند الله, لكن الشيء الوحيد الذي يؤلمه ويعذبه عندما يرى الأطفال الشهداء أشلاء مقطعة. "طروش" الذي يعمل في محل له لمواد البناء حدث عن مشوار حياته في التكفين والذي يعتبره تطوعاً لأجل الشعب الفلسطيني و لوجه الله تعالى , قائلاً : " قبل بداية عملي التطوعي هذ,ا كنت أرافق أحد الشيوخ الذين يكفنون الأموات وما دفعني إلى ذلك هو طلبي للأجر والثواب من الله, حيث استمريت في تطوعي هذا ما يقارب ال35 عام, ففي العدوان الإسرائيلي عام 2009 أغلب من كفن شهداء شمال القطاع هوا أنا, كذلك في عدوان 2012 , وكنت شاهداً على بشاعة الاحتلال في قتل الفلسطينيين منذ عام 48, أما هذا العدوان والذي يختلف عن كل الحروب الإعتدائية التي خاضتها إسرائيل ضدنا فقد كفنت أكثر من 150 شهيد جلهم من الأطفال والنساء قطعت أجسادهم بوحشية بفعل الصواريخ الإسرائيلية ". و بين "طروش" طريقة تكفين الشهداء, بأن الشهيد الذي يرتقي مباشرة لا يغسل أبداً بل يشيع مباشرة, مشيراً إلى أنه يجوز أن لا يصلى عليه لأن الملائكة تصلي عليه, أما من يصل إلى المستشفى مصاباً ومر عليه آذانين من الصلاة كصلاة الظهر والعصر مثلاً ثم يستشهد, يجب هنا غسله وتكفينه, موضحاً أن الشهيدة التي ترتقي مباشرة أيضاً يقوم بتكفينها أما إذا مر عليها آذانين و احتاجت إلى الغسل, تأتي إمراة وتقوم بغسلها وتكفينها بدلاً منه, منوهاً أن الشهيدة تكفن ب5 قطع قماش و الشهيد يكفن ب3. وبينما يدور حديث "طروش" مع مراسل دنيا الوطن, فإن أفواج الأسر الباحثة عن أبنائها الشهداء لم تنتهِ, فهناك الكثير من الشهداء مجهولي الهوية يصعب التعرف عليهم, محاولاً "طروش" مساعدة ذويهم في التعرف عليهم لعله يستطيع أن يجمع بين الشهداء وأسرهم ويحصلوا على العناق الأخير. يستذكر "طروش" تاريخ هذا الاحتلال الإرهابي فهو يعيه جيداً منذ أن كانوا عصابات من الهاجانا وغيرها, فتاريخهم المنشود بقتل الأطفال والنساء والشيوخ. دنيا الوطن فمن أكثر المواقف التي أثرت فيه, يقول طروش :" عندما قدم إلي شخص من تل الزعتر شمال القطاع يسأل عن أبناء أخيه الشهداء في مستشفى كمال عدوان, عندها ذهبنا إلى ثلاجة الموتى وقمت بفتح الثلاجة وسحبت رف الشهداء كي يراهم ويتعرف عليهم ,وإذ يرى أحد أبنائه بين الشهداء, فكانت الصدمة عليه كبيرة فهو لم يكن يتوقع أن يكون ابنه بينهم, مما أحدث أثراً كبيراً وعتاباً شديد على نفسي, لأنني أحدثت هذه الصدمة بسبب إظهاري السريع للشهيد له, عندها قال: ابني ابني". ومن المواقف أيضاً , مجزرة مدرسة الفاخورة في العدوان الإسرائيلي عام 2009 , حيث راح ضيحتها 48 مواطن, حينها كان يضع "طروش" الشهداء فوق بعضهم البعض يحشوهم حشو في ثلاجات الموتى على حد وصفه, مناشدأ بتوفير ثلاجات للموتى تكفي عدد الشهداء الذين يرتقون في قطاع غزة فقد أصبح يكفن الكثير ويضعهم على الأرض. وختم "طروش" حديثه قائلاً لدنيا الوطن : " شعبنا رأس العرب والعروبة, فأنا أعرف أن هذا الاحتلال لن يتركنا إما أن يهجرنا أو يقتلنا ونحن لن نترك أرضنا إلا على جثثنا اللهم انصرنا وانصر المقاومة الفلسطينية " إلى هذه اللحظة "طروش" ما زال جالساً أمام بوابة ثلاجة الموتى, حارساً أميناً ينتظر من أصبح في عداد الشهداء لكي يقوم بواجبه اتجاهه ويجهزه لمسيرة حاشدة تهتف به و تحمله على الأكتاف, فمتى ينتهي هذا العدوان الإسرائيلي كي يعود "طروش" إلى منزله ؟