لم يبعث رسولا لكنه كاد أن يكون كذلك حين حمل أمانة الأجيال، وبكراسة وقلم سعى لإخراجهم من الظلمات إلى النور. من زمن المشيخة إلى زمن أستاذ المنزل، حكايا تروى وقصص تذكر..نظرة اختلفت.. وسلوكات تغيرت.. والملام ''جيل جديد'' لوقت تبدل فتبدلت معه أعراف التدريس وملامح التبجيل . بعد أن رفعت له المحفظة شأنا أصبح يأبى حملها حتى لا يشار إليه..بالمعلم. وبعد أن وضعت الملائكة أجنحتها له صار يستحي من ارتداء المئزر حتى لا يقال عنه..طالب. عدم الاحترام الذي وصم علاقة المعلم بتلميذه والأستاذ بطالبه منح لكليهما حجة للتنافر والتباعد، فالمعلم مدان إلى أن تثبت براءته والتلميذ مستهتر حتى يبين جدارته. اتهامات متبادلة، شعور بالقسوة وآخر بعدم الاكتراث، لعب ولهو، حب وعشق أما الدراسة فمؤخرة إلى حين غير متبوع بأجل. ومن بين هؤلاء وهؤلاء أساتذة تبخس مكانتهم وطلاب يكتفون بالتخلي عن طموحاتهم. خطان متعامدان هما وميم التقاطع هي اختصار مدرسةٍ وبعدها لا شيء يجمعهما سوى التذمر. حلم التطابق لم يراودنا لكن أمنية تقريب وجهات النظر قادتنا لعدة مؤسسات تربوية بحثا عن سبيل لذلك عبر رصد ما يقوله ويرويه كل واحد عن الآخر. أرقام تفضح حقيقة العلاقة تحولت علاقة الأستاذ بطالبه من علاقة تربوية إلى علاقة يشوبها الجفاء والتوتر بل وصل الأمر بينهما إلى حد أصبحت فيه المدرسة مرتعا لممارسة العنف بمختلف أشكاله، حيث أشارت التقارير إلى إحصاء نحو 8 آلاف و564 حالة عنف للتلاميذ تجاه الأساتذة سنة ,2007 منها 8 آلاف حالة شتم وتهديد وقرابة 600 حالة ضرب وسرقة وحمل أسلحة. كما تم تسجيل حوالي 5 آلاف حالة عنف للأساتذة تجاه التلاميذ، منها 2000 حالة عنف مادي. بينما بلغت سنة 2008 معدل 160 حالة عنف يوميا، ليستمر الحال على ما هو عليه ويبقى البحث قائما لمعرفة المسؤول عن هذا التحول. أوّل انطباع يحدد نهايتها صورة اليوم الأول في الدراسة تبقى محفوظة في مخيلتنا، نسترجعها كلما سئلنا عن أول معلم لنا..ولكل واحد منا ما يرويه عنه... لم يجد منير الأم الثانية التي سمع عنها قبل أن تطأ قدماه باب المدرسة ولم يفهم حتى سبب الصفعة التي تلقاها، فقط اكتفى برسم أول انطباع له عن معلمته على خده الصغير ليحاجج به والديه في عدم التوجه مجددا للمدرسة. منير كان تلميذا في التحضيري لكنه عومل كمجرم لما انحرف قليلا عن الصف في حين كان يمكن للقبلة أن تنوب عن ذلك وتصحبها تعليمة بسيطة في تتبع خطى الزميل. جمال لم يكن أكثر حظا منه في بداية مشواره في التعليم وإن كان الألم الذي تعرض له لم يترك أثرا ماديا إلا أن الحالة النفسية السيئة وانعدام الثقة لازماه قرابة عام دراسي بأكمله، عبث خلاله التلاميذ به وبأشيائه انطلاقا من محفظته التي صارت تختفي تارة وتظهر أخرى وصولا إلى كلماته المتلعثمة التي أصبحت متداولة لدى كل التلاميذ بالإكمالية حتى الذين لم يدرسهم. حكاية المعلم جمال بدأت بالاستهزاء بمظهره الريفي والسخرية من مستواه العلمي لحكم مسبق أطلقه التلاميذ على الأستاذ المستخلف وانتهت برحيله دون أن يحمل معه ذكرى جميلة واحدة في يوميات معلم. إهانات ولكمات تنوب عن الحوار مواعيد يضربها الأستاذ لتلميذه وتوعدات يطلقها التلميذ لأستاذه ليس لشرح درس أو حل مسألة ولكن لإنهاء مشاكل عالقة بينهما خارج أسوار المدرسة. هكذا هي آخر ابتكاراتهم للتواصل والتحاور بين جيلين يفترض على الأول أن يسلم الثاني شعلة كان يحملها. وأنت تتحدث إلى نبيل تعتقد للوهلة الأولى أنك بجانب معطوب حرب، حتى أننا مازحناه بالقول أنه لابد أن يحصل على''بونسيون المجاهدين''. الندبات الموجودة بجسمه كانت تروي قصصا متعددة لمراحل دراسية مختلفة، فالتي بقدمه مثلا تحكي حادثة ركله من طرف أستاذه بالثانوي والأخرى تقص مسيرة عصا انطلقت من مكتب أستاذه وانتهت بمرفقه. كثرة الندبات لم تنجح في استعطافنا بقدر ما أوحت لنا بأنه تلميذ مشاغب كان يستحق العقاب، لكن نبيل رفض هذا الاتهام وراح يسرد قصته مع أستاذة له في المتوسط طلبت من والده خدمة شخصية، ولأن مصلحتها الخاصة تعارضت والقوانين العامة رفض والده تلبية طلبها ومنذ ذلك الحين وهي تتبع أخطاءه إلى أن جاء اليوم الذي انتقمت فيه وأوسعته ضربا باليمين وبالشمال. نبيل برر كرهه لمهنة التعليم بعبارة ''لا أريد أن أصبح يوما مدرسا حتى لا أفعل ما يفعلونه بنا''. أما أستاذة بالتعليم المتوسط فلم تخف عنا خوفها من التلاميذ بسبب ما وقع لزميلة لها قامت شقيقتان في نفس الإكمالية بضربها وتمزيق ثيابها وحتى تجريدها من خمارها، وكذا ما حصل لأستاذ آخر لكمه تلميذه على فمه فحرمه من بعض أسنانه، العجيب في الأمر أن التلميذ أحيل على مجلس التأديب لكنه عاد إلى نفس المؤسسة بعد أسبوع فقط من الحادثة. ولإضاعة الوقت متعة خاصة كراريسهم هجرتها الدروس ومحافظهم سكنتها المجلات الإباحية، علب التبغ وحتى المخدرات..كل شيء إلا ما تعلق بطلب العلم وعلى خطى متتابعة يقتدون ببعضهم البعض. رضا واحد من هؤلاء، طالب في الثانوي خيّم بالسنة الأولى على حد قول زملائه، وبعد أن ملّ من تكرار الدروس لمرتين على التوالي أراد كسر الروتين بتمضية الوقت بين التشويش تارة ومضايقة الأساتذة تارة أخرى، يذكر رضا أنه نادرا ما يكمل يومه الدراسي دون أن يتعرض للطرد مرة واحدة على الأقل، فخره بما يفعله كان يستمده من أعين أصدقائه الممتلئة بنشوة التبعية والانتماء إليه. رضا أقر بالقول ''لم أندم على ما فعلت سوى ما حصل مع أستاذة اللغة الفرنسية التي كادت أن تفقد بصرها بسبب حبات حمص كنا نتراشق بها فيما بيننا، فرغم أنني استسمحتها كثيرا إلا أنني لاأزل أشعر أنني مدين لها باعتذار''. أحد مؤيديه تدخل بالقول أن بعض الأساتذة يتذرعون بالفوضى والتشويش حتى يتملصون من شرح الدرس بل هم يمتنعون عن ذلك أحيانا لأنهم لا يفقهون أصلا ماهم بصدد شرحه. أما أستاذة بنفس الطور فوصفت تصرفات التلميذ باللاّمسؤولة، مشيرة إلى أنها تعثرت ذات مرة وأوشكت على الوقوع بسبب ربط التلاميذ طاولات القسم بعضها ببعض بخيط رفيع. حكايا في العشق والغزل لهم في الحب والهوى أكثر مما لديهم من واجبات مدرسية، أهدافهم تركزت في إغواء أحدهم حتى ولو كان أستاذا. ربما كان هذا نوعا من التبجيل قد جهلناه. ليليا طالبة في المستوى النهائي وجدناها بالقرب من إحدى الثانويات في العاصمة وهي تتوسط صديقاتها الأربع، حلتها وهيئتها التي كانت مناسبة أكثر للحفلات والأعراس جذبت إليها حتى أشعة الشمس وجعلتها تغازلها فترد هي ببريق ينتشر في الأجواء بحثا لصاحبته عن معاكس جديد. سؤالنا الذي طرحناه أضحك ليليا فعلقت ''نورمال إذا عجبني'' واسترسلت تروي قصتها مع أستاذ صديقتها الشاب الذي أفقدها عقلها على حد قولها فكانت تطارده دوما بحضور حصصه لكل الأقسام حتى أقسام السنة الأولى منها وإن كان ذلك على حساب حصصها ودروسها. أما من كان أقل جرأة منهم في معاكسة أستاذته فورقة الإجابة للامتحان الأخير كانت له بديلا عن كلمات قد تحرجه وهو ما حدث لأستاذة رياضيات بالثانوي تفاجأت بورقة الإجابة وهي تحمل فقرات طويلة بدل الأرقام والرموز التي تعودت عليها، تلك السطور لم تكن سوى شعر تغزل فيه بها طالب كانت تعتقد أنه جاء لمجرد الدراسة. من جانبها، آمال طالبة جامعية أطلقت على أساتذتها وابلا من الدعوات بسبب اضطرارها لدخول الامتحان الاستدراكي معللة ذلك أنها ليست من النوع الذي يرضخ للابتزاز الذي يفرضه بعضهم على الطلبة كعروض المصاحبة مقابل بعض النقاط. ماذا لو قلناها.. شكرا.. كلمة أثقلت ألسنة الطلبة فاستبدلوها بعبارة ''يتقاضى أجرا مقابل عمله'' عبارة طويلة خففت كفتهم لدى الأستاذ وأنستهم أن العلاقة التي تجمعهما أسمى من أن تضبطها القوانين أو تحددها الماديات. نسرين دعت من خلال ما روته لنا كل الطلاب لتدارك أخطائهم والاعتراف بالجميل قبل فوات الأوان، حيث ذكرت أنها وهي في سن الرابعة لم تكن ترغب في الذهاب إلى مسجد الحي لتحفظ القرآن وتتعلم الحروف، وكانت دوما تتخذ من البكاء وسيلة لاستعطاف والديها. ما علق بذهنها، تفاصيل يوم أجبرت فيه على الذهاب فحملت على كتف والدها ووضعت مباشرة في حجر شيخها وسيول الدمع التي لم تف بغرض إطلاقها لم تجف بعد. صورة شيخها أحمد لم تفارقها وهو يمسك بأناملها الصغيرة ليحشر بينها القلم ومن ثم يقبض على كفها بحنان فيمرره على ورقة يخط فيها أحرفا كان منتهى إبداعها فيها أنها أرخت يدها، فرحتها كانت كبيرة وقتها بما كتبت لكنها ما علمت يومها أنه هو من فعل. رغم هذا، نسرين لم تفكر في العودة إلى الحي الذي تربت فيه لتشكر شيخها، ولم تفهم معنى أن تكون معلما حتى أصبحت أستاذة بالتعليم الثانوي لكن في ذلك الحين اكتشفت أنها لن تحظى بشرف الامتنان لشيخها بعد أن حال الموت بينهما. الماديات طغت على العامل البيداغوجي تعود أسباب التوتر في علاقة الأستاذ بالطالب حسب رأي مختصين في التربية والتعليم إلى كون المعلم فقد البعد الرسالي في مهنته وأصبح يهتم أكثر بالماديات، حيث نسي أنه مربي قبل أن يكون معلما، كما أن القوانين المستحدثة التي قد تبدو في ظاهرها حامية للتلميذ هي في النهاية غير صالحة لأنها تحرمه من التعليم الصحيح، فبعيدا عن الضرب العقابي لابد من وجود ما يسمى بالتأديب حتى يضبط سلوك التلميذ. من جهة أخرى تعتبر المنظومة التربوية الجزائرية منظومة مستوردة لا تتوافق مع قيم ومبادئ المجتمع الجزائري وحتى نحقق ذلك يجب أن نضع البصمة الجزائرية دون أن يتعارض هذا مع الاستفادة من تجارب الآخرين تغيّر العلاقة سببه انقلاب القيّم الأخلاقية في المجتمع يرى أساتذة علم الاجتماع أن العلاقة بين المعلم والتلميذ كانت تحكمها قيّم تقليدية أضفت عليها نوعا من القدسية حيث كانت مؤطرة دينيا وثقافيا، ومع التحول الحاصل في المجتمع الجزائري من مجتمع تقليدي نحو مجتمع مدني عقلاني وفي غياب القيم التقليدية وعدم تحقق القيم الحديثة حلت قيم جديدة مع هذا الفراغ وهي قيم مصلحية استهلاكية، حيث أصبح كل طرف يريد أن يجد نفسه من خلال قيمه، فالتلميذ لا يعرف واجباته نحو معلمه والأستاذ يعجز عن التعامل مع طلابه. في حين كان يجب أن نبني منظومة تربوية تؤثر في المجتمع أصبحت المنظومة تتأثر بالمجتمع وبتناقضاته في ظل العولمة، لذا لا بد من الرجوع إلى القيم التقليدية والدينية لأنه حتى المجتمع العقلاني غير قادر على تأسيس العلاقة داخل المدرسة.